اختار المؤلف خمسة عشر علمًا، تناول سيرتهم مع القرآن والإنشاد، بدأهم بالشيخ رفعت، والشيخ على محمود، وختمهم بالطبلاوى.
فى أحدث كتبه الصادرة مؤخرا، خصّ الزميل محمد الشافعى، قُراء مصر العظام، بذكر سيرة ومسيرة مجموعة منتقاة من أصوات مصرية جليلة رتلت القرآن الكريم، وخلدت أصواتها به، وطافت به أرجاء المعمورة من اليابان والصين وكوريا شرقًا، إلى الأمريكتين غربًا، ومن جنوب إفريقيا جنوبًا إلى الدول الإسكندنافية شمالًا، إنهم وجه منير من وجوه قوة مصر الناعمة، وهذا التوجه ليس غريبًا على الزميل الشافعى، فسبق أن أصدر عددًا خاصًا من مجلة (الهلال) عن القُراء حين رأس تحريرها، وبكتابه (زعماء دولة التلاوة)، يقدم لنا منظوره إزاء هؤلاء الأعلام، بأسلوب يجمع بين الموضوعى والذاتى، فقد نشأ فى بيت فرأى أباه وهو يرتل القرآن بصوت رخيم.

يقول الشافعى فى مقدمة كتابه: (تتنفس مصر القرآن، فى المساجد والأضرحة، فى الشوارع ووسائل الموصلات، فى المنازل والمحال، تستقبل الحياة بالقرآن، وتودعها به. وعندما استقبلت مصر القرآن أضفت عليه من روحها جمالًا فى التعامل مع آياته، قراءة وترتيلا وتجويدا، وكأنها تستلهم الحديث النبوى الشريف «جملوا القرآن بأصواتكم»، وقد اجتذبت المدرسة المصرية فى التلاوة مئات الملايين من المسلمين فى كل العالم الإسلامى، كما مست شغاف القلوب عند الكثيرين من غير المسلمين، فجعلتهم يدخلون فى دين الله أفواجا، لتؤكد أن المصريين هم حفظة أسرار القرآن).
ويفتتح المؤلف كتابه بإهداء إنسانى، فقد أهدى كتابه إلى روح والده الذى رحل والمؤلف ابن ثمانى سنوات، ومع ذلك لا يزال يتذكر وهو يقرأ سورة الرحمن بصوت رخيم، فكانت بداية تعلّق المؤلف بالقرآن، وبفنون التلاوة، فقال: (وضعنى أبى فى قلب دولة التلاوة، عاشقا لإبداع الأصوات الجميلة التى تملأ قلوبنا خشية وخشوعا، وتجعلنا أكثر قربا من الله).
قدم المؤلف فى كتابه سيرة خمسة عشر قمرًا منيرًا فى سماء دولة التلاوة المصرية، وهم على الترتيب: (محمد رفعت، على محمود، طه الفشنى، عبدالفتاح الشعشاعى، أبو العينين شعيشع، مصطفى إسماعيل، كامل يوسف البهتيمى، عبدالعظيم زاهر، عبدالعزيز على فرج، محمد صديق المنشاوى، محمود خليل الحصرى، محمود على البنا، عبدالباسط عبدالصمد، محمد عمران، محمد محمود الطبلاوى).
وكان محمود السعدنى الأسبق بكتابه (أصوات من السماء)، فقد ذكر العظام الذين سبقوا رفعت مثل أحمد ندا، وقارئ سعد زغلول الشيخ منصور بدار، كما تطرق لقارئات القرآن الكريم، وكنّ ظاهرة مصرية بامتياز لدرجة أن الشهيرات منهن كنّ يقرأن عبر الإذاعة المصرية مثل (كريمة العدلية، وسكينة حسن، ومنيرة عبده)، وغيرهن. ثم كان كمال النجمى ذا باع فى الكتابة فى هذا المجال، وخصّ الشيخ مصطفى إسماعيل بكتاب، ثم توالت الكتب التى تؤرخ لقُراء القرآن الكريم، وجميعها للخمسة الكبار، وهم (محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، والحصرى، وعبدالباسط، والبنا)، وهم الذين تعتمد إذاعة القرآن الكريم ليومنا تسجيلاتهم للمصحف المرتل، باستثناء رفعت الذى لم يسجل المصحف المرتل.
والمؤلف لم يتطرق لطقوس قراءة القرآن، وهى طقوس متوارثة وتليدة، من طريقة دخول القارئ إلى السرادق، ثم جلوسه على دكة التلاوة، إلى شرب اليانسون وغيره من المشروبات الساخنة لترطيب أحباله الصوتية، حتى طريقة القراءة، والنفس الطويل، والقفلة الحراقة، وغيرها من التفاصيل التى تتباين بين قارئ وآخر.
وبدأ المؤلف كتابه بسرد نبذة تاريخية بدأها بالمقولة الشهيرة: «نزل القرآن بمكة، وطُبع فى إسطنبول، وقُرئ فى مصر)، وأشار إلى أن مدرسة التلاوة المصرية قامت على الانسجام بين علم القراءات، وعلم المقامات الموسيقية، فجاء التجويد فنا مستقلا بذاته، له أصوله وقواعده، كما أن الخارجين عليه إذا لحنوا شعر المستمع العاشق المخضرم باللحن إذا كان جليا أو خفيا، واستشهد المؤلف بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: (أن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف)، وهى لهجات القبائل العربية.
واختصت مصر بقراءة فريدة من قراءات القرآن الكريم، وهى قراءة العالم المصرى (ورش)، عن نافع المدنى، وهى القراءة الرسمية المعتمدة فى بلاد المغرب العربى وساحل غرب إفريقيا، واسم هذا العالم المصرى (عثمان بن سعيد)، وتُوفى فى سنة 812 ميلادية.
ويستعرض المؤلف سريعا أسماء، مثل: محمود القيسونى قارئ قصر عابدين، وحفنى برعى، وحسين الصواف، وأحمد ندا، وعلى محمود، وكلهم سبقوا الشيخ رفعت، ولكنهم لم يلحقوا عصر التسجيل على الأسطوانات باستثناء الشيخ على محمود. كما كان لدينا قراء كبار مثل حسن المناخلى، ومحمد الصيفى، ومحمد سلامة، وعبدالعظيم زاهر، وسعيد نور.
وبالتوازى مع دولة التلاوة، عرفت مصر أصواتا عظيمة فى عالم الإنشاد، وبعض القراء جمعوا بين تلاوة القرآن والإنشاد الدينى للابتهالات والموشحات، مثل: على محمود، وطه الفشنى، ونصر الدين طوبار، ومحمد عمران، وسيد النقشبندى، وكامل يوسف البهتيمى، ومحمد الهلباوى، وحسن قاسم، وصلاح شمس الدين، وإبراهيم الإسكندرانى، ووحيد الشرقاوى، وعبدالرحيم دويدار، وغيرهم.
ونشأ الغناء فى أحضان المشايخ، فكان الشيخ سيد درويش، وزكريا أحمد، ومحمد القصبجى، ومحمد عبدالوهاب، وتعتبر أعظم مطربة عربية فى العصر الحديث وهى أم كلثوم، منشدة دينية أساسًا.
