فى ذكرى رحيل أحد أعمدة الشعر العربى.. نعود بالزمن إلى حياة الشاعر الكبير أحمد رامى، الذى لم يكن مجرد شاعر، بل كان قلما صادقا.. ولد «رامى» فى التاسع من أغسطس عام 1892، وهو العام نفسه الذى شهد تأسيس مؤسسة دار الهلال العريقة، وكأن ميلاده تزامن مع نهضة ثقافية كبرى.
وكلما سمعنا أم كلثوم بصوتها الذهبى، نتذكر أحمد رامى وصدى كلماته التى تغنت بها، إذ كتب لها العشرات من الأغانى البديعة، علاوة عما سبق مسيرته المهنية من تعليمه فى باريس، إلى عمله فى دار الكتب إلى الإذاعة المصرية إلى الشعر والمسرح والسينما.. المسيرة طويلة لكننا هنا نحاول إلقاء الضوء على لمحة صغيرة من حياته، من خلال إعادة نشر حوار أجرته معه «المصور» فى مارس 1959.
أحمد رامى يتكلم عن الغناء والموسيقى.. والمطربات والمطربين والملحنين ومؤلفى الأغاني.. ويقول رأيه – بصراحة – فى الجميع.. إنه يقسم الأغانى إلى «طواجن» فاخرة، وسندوتشات خفيفة.
كان يراجع أحد دواوين الشعر، وعلى يمينه جلست شاعرة حسناء من الإقليم السورى وعلى يساره جلست شاعرة من الإقليم الجنوبى هى لورا الأسيوطي.. حاصلة على دكتوراه فى الأدب الفرنسي، وحسناء أيضاً، وأمامه جلس الملحن ضياء وزوجته المطربة ندا.. وبين لحظة وأخرى يدخل خمسة أو عشرة من الشعراء الشبان لمصافحة الشاعر الكبير أحمد رامى وتقبيل يده!
إنهم يحرصون على تقبيل يده، وهو يترك لهم يده فى استسلام مقترن بالسعادة، وبين لحظة وأخرى يرفع رأسه ويتطلع إلى صورة صغيرة معلقة فى مواجهة مكتبه، صورة أكبر شاعر عربى فى العصر الحديث: أحمد شوقي.. أن رامى يعتز بهذه الصورة، فهى تحتل مكانها أمام مكتبه منذ عام 1932 أى منذ توفى أحمد شوقي.
وانتهزت فرصة خروج مجموعة من الشعراء الشبان ليدور بيننا هذا الحديث:
لاحظت أنك كنت متحمساً فى اجتماعات اللجان الفرعية فى المؤتمر العام للثقافة والفنون.. فما هو رأيك فى حال الفن اليوم؟..
اسألنى عن الموسيقى فقط، فأنا عضو فى لجنة الموسيقي.
إذن ما هو رأيك فى حال الموسيقى اليوم؟.. هل أنت راضٍ عن تسرب الموسيقى الغربية إلى موسيقانا؟..
أولاً: يجب أن يعرف الناس أن السامبا والرومبا والتانجو موجودة فعلاً فى الألحان الشرقية، وإذا كنا قد أدخلنا فى التخت الشرقى بعض الآلات الغربية فليس معنى هذا أن موسيقانا فى خطر.. الشىء الوحيد الذى لا يعجبنى هو أن تتضمن قطعة واحدة نغمة من الشرق ونغمة من الغرب، فإما أن تكون القطعة شرقية بحتة أو غربية بحتة، بعض الملحنين يخطئون ويخلطون بين الشرق والغرب.
ما هو رأيك فى أم كلثوم.. هل هى اليوم أحسن مما كانت منذ 10 سنوات؟
وترك رامى قلمه ثم التفت نحوى لأول مرة، وقال:
أم كلثوم هى السد العالى الذى يصون الموسيقى الشرقية ويحافظ عليها، وقد تطور الشرق وتطورت أيضاً أم كلثوم فجددت بالاشتراك مع ملحنيها فى الموسيقى الشرقية تجديداً يتفق مع الآلات الحديثة التى أدخلت على التخت الشرقي، ولكنك إذا سمعتها اليوم وسمعت أغانيها القديمة فستشعر بأنها تقدم لنا غناءً شرقياً وموسيقى شرقية.
ولكن بعض الناس يرون أن عصر الذرة لم يعد يحتمل بقاء الناس ساعات طويلة ليستمعوا إلى أغنية واحدة ولو كانت من أم كلثوم؟
إننى أرى أن الأغانى نوعان:
أغانى السندوتش التى تقدمها شادية وصباح وغيرهما، ولهذه الأغانى لذتها وطلاوتها.
وأغانى الطاجن الذى يتم تسبيكه فى الفرن، وهى أغانى أم كلثوم.. ولو غنت أم كلثوم أغنيات خفيفة مثل شادية فمعنى ذلك أن تقدم 30 أغنية فى الليلة؟... أن إطالة أم كلثوم فى الغناء ترجع إلى أن المستمعين يستعيدونها كثيراً، ودليلى على ذلك أنها عندما تسجل أغنية للإذاعة تغنيها فى نصف ساعة ولكنها فى الحفلات تغنيها أكثر من ساعة.
بين وقت وآخر يرشحون إحدى المطربات لتكون خليفة لأم كلثوم.. ما رأيك؟
لا يمكن أن تحتل أية مطربة مكان أم كلثوم فى هذا الجيل، إن أم كلثوم تهيأ لها من جمال الصوت وقوة التعبير وحسن الأداء وفهم دقائق الموسيقى وفهم معانى الأغنيات والتمكن من أصول اللغة العربية وطول المران، كل هذا من أين يتأتى لمطربة أخرى؟
فلنتحدث عن عبدالوهاب..
عبدالوهاب طول عمره كويس لأنه يستطيع أن يؤدى كل شىء ويقدم كل شىء بإتقان.
بعض خصومه يتهمونه بأنه ينقل عن الموسيقى الغربية.
إننى أقرأ الشعر الفرنسى والإنجليزى والفارسى لأتزود به، فإذا سجلت فى إحدى قصائدى معنى كان وارداً فى قصيدة شاعر فارسي، فهل معنى هذا أننى سرقته أو اقتبسته؟.. على كل حال عبدالوهاب نفسه يعترف بأنه يقتبس من الموسيقى الأجنبية ولديه حجة معقولة فهو يقول إنه يفعل ذلك حتى يمهد السبيل للملحنين فى المستقبل ليعملوا بدون اقتباس.
إذن ما هى عيوب عبدالوهاب فى نظرك؟
عيبه الوحيد أنه حرمنا من أن يغنى فى حفلات عامة
نعود إلى أم كلثوم.. ما هى عيوبها فى نظرك؟..
فألقى بالقلم مرة أخرى وقال فى حزم وإيجاز:
لا عيب فيها على الإطلاق، فالعبقرية تتجلى فى غنائها يضاف إليها خفة ظلها وسرعة بديهتها.
ومنْ أحسن المطربات الأخريات؟
كلهن «كويسين».. كل واحدة لها لونها وطعمها، ولو لم يكن لكل منهن طعم خاص لما أمكن التفرقة بينهن: ليلى مراد كويسة ونجاة علي، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة».
وبعد فترة صمت أضاف:
وحياة أبوك اكتب كمان عبدالحليم حافظ ومحمد قنديل وفريد الأطرش!
والأغنية المصرية هل تطورت عما كانت عليه منذ ثلاثين عاماً.. وما رأيك فى النقد الموجه إليها من أنها تدور حول معنى واحد، هو الحبيب الهاجر والدموع والأحزان؟
الأغنية تطورت كثيراً، وقد تفتحت لنا أبواب كثيرة فى معانى الحب، ولكن الأغانى أصبحت أيضاً تتناول معانى كثيرة من الاجتماعيات والوطنيات، وفى رأيى أن الأغنية كالبوفيه فيه السلاطة وفيه الديك الرومي، ولدينا اليوم مجموعة ممتازة من مؤلفى الأغانى وهم: حسين السيد ومأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز وعلى الفقى وإمام الصفطاوى وعبدالفتاح مصطفى وسيد مرسي.
قلت له:
وبيرم التونسي؟..
آه صحيح، وبيرم التونسي..
ولكن كيف تنساه وقد ذكرت كل هؤلاء المؤلفين؟
الله؟.. هو صالح جودت مسلطك عليّ؟
فأقسمت له أنه لا صالح جودت ولا حتى بيرم نفسه سلطنى عليه ثم سألته:
بدأت المرأة تقتحم ميدان التأليف الغنائى فما رأيك؟
إننى سعيد جداً بهذه الخطوة ومعجب باثنتين هما شريفة فتحى والشاعرة الجديدة لورا الأسيوطي.
وكانت لورا الأسيوطى تجلس إلى يساره
قلت له:
والأوبريت التى تطمع فى وجودها على مسارحنا، من هم الذين يمكنهم تأليفها؟
كان بديع خيرى وبيرم التونسى أحسن من يكتب الأوبريت، ولكننا اليوم فى حاجة إلى ألوان جديدة، ولعل بيننا من يمكنه تأليف الأوبريت بتفوق ونحن لا نعرفه! ولهذا أرجو أن تتاح الفرصة لجميع المؤلفين
ما هى مطالبك من الدولة أو ما هى اقتراحاتك؟
مطلبى الوحيد إنشاء مسرح للأوبريت والأوبرا والروايات الغنائية القصيرة..
هل أنت راضٍ عن الإذاعة حالياً؟
كل الرضا، الإذاعة إيه اللى ممكن تعمله أكثر من كده، المسألة مسألة فلوس وميزانيات، هات فلوس وشوف الفنانين يعملوا إيه.
ما هى آخر أغنية فرغت من تأليفها؟
اسمع يا سيدي.. ضياء سيغني:
من وحى عينيك بقطف أنغامي
وأهيم حواليك بجناح أوهامي
وترد عليه ندا فتقول:
يا حبيب الروح من وحيك فني
مطرح ما تروح طيفك يشاغلني
واستطرد الشاعر الرقيق فقال:
هذه أغانٍ خفيفة.. ولكن أليست أحسن كثيراً من الأغانى القديمة؟
وإلا فما رأيك فى أغنية:
يا طالع الشجرة هات لى معاك بقرة
وضحك رامى ثم قال:
كيف يمكن لطالع الشجرة أن يأتى معه ببقرة؟
وعدت أسأله:
لماذا تتمسك بالطربوش حتى الآن؟
لأننى ضعيف أمام البرد والشمس، ولو وقفت دقيقتين فى البرد بدون طربوش أصاب بالمرض فوراً، وأنا مستعد للتخلى عن الطربوش إذا توصلنا إلى رداء رسمى للرأس.
وهل من الضرورى أن يكون رداء رسمياً؟.. لماذا لا تختار الرداء الذى يعجبك؟
إننى أتمنى أن أرتدى الطاقية البيضاء التى يلبسها الأستاذ العقاد فى منزله
ولماذا لا ترتديها؟
هيه مسألة عايزه جراءة.

