رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

مذكرات نهال كمال زوجة عبد الرحمن الأبنودى ساكن فى سواد الننى


31-5-2025 | 16:56

.

طباعة
بقلـم: يوسف القعيد

هذا كتاب مهم استمتعت بقراءته متعة قديمة، متعة مهمة قبل سنواتٍ مضت، لكننى عندما كنت أُقلِّب فى مكتبتى ووقعت عينى على مذكرات عبد الرحمن الأبنودى «11 أبريل 1938 - 21 أبريل 2015» شعُرتُ أنها تبخَّرت من فؤادى كما لو كنتُ لم أقرأها من قبل.. وهكذا وجدت نفسى أقرأها كما لو كنتُ أفعل ذلك لأول مرة فى حياتى.

 

 

تكتُب نهال كمال:

- لم أشعر حتى الآن أن عبدالرحمن قد رحل. فشل الجميع فى إقناعى بذلك. فأحاديثنا لم تنقطع، ونصائحه لا تُغادر أُذُنى، وصوره مازالت تملأ الجُدران بهجة، وضحكته يتردد صداها كل يوم، وأنا أقرأ كلماته التى خطَّها لى، ورائحته تُعطِّر البيت، وحُبُه لم ولن يُفارق قلبى.

مازلت أذكر اللقاء الأول والنظرة الأولى والكلمات الأولى والابتسامة الأولى والنكتة الأولى والخلاف الأول، والضجة التى أحدثها زواج رجل يقترب من الخمسين بفتاة فى العشرينيات.. ومازلت أتعلم منه وأحاول أن أسير على خُطاه وأن أُحقِّق له ما أراد.. فقد وهبت حياتى له ولشعره الذى عاش مخلصًا له وصادقًا فى كل كلمة خرجت منه على الورق.

مازلت أراه جالسًا على كُرسيه، ومُمسكًا بسماعة التليفون، ومتأملًا على مكتبه، ومُنشغِلًا بقراءة كتاب، مازلت أراقبه وهو يطمئن على الزرع صباح كل يوم، ويفكر فى بناء قطعة جديدة داخل بيتنا الريفى بالإسماعيلية، ويشاهد التليفزيون، ويسخر من كل شيء، ويضحك من قلبه، ويطمئن على الأحبة، ويعرف تفاصيل ما يجرى فى حياتهم، مازلت أشعر أنه قاعد معايا و«بيشرب شاى».

الأبنودى ونهال

فى إهداء هذا العمل الجميل يكتب عبدالرحمن الأبنودى:

- إلى شمعة

- وظل الحياة

- وعطر اللحظات

- ورِقَّة التفاصيل

- أم

- آية ونور

- نهال كمال الزوجة والصديقة

- الأبنودى.

أما هى نهال كمال زوجته فقد كتبت:

- إن السؤال الأول الذى يواجهنى: كيف واتتنى الشجاعة والجسارة على أن أكتُب عن حياتى مع عبدالرحمن الأبنودى الذى لا يعرفه أحد مثلى.

والجواب: على رأى حراج القط، لو كنت هاودت نفسى ما كنت حخط بإيدى حرف.

مُبررة تأخيره فى كتابة خطابات إلى أمه فاطمة، وتذكرت مقولة عبدالرحمن لى:

- أنا لست ملكية خاصة.

إذن فحياتى معه ليست من حقى وحدى ولكنها من حق الملايين الذين أحبوه وارتبطوا بكلماته وأشعاره وإبداعه. هل لى أن أكشف عن هذه الحياة التى كنت أحرص على أن تكون خاصة جدًا؟!

آية ونور

كم من المرات التى عاتبتُ فيها عبدالرحمن حين كان يتكلم عنا كأسرة أنا وآية ونور.. وعن علاقتى به وقصتنا العجيبة التى كان دائمًا يحكيها ولا يمل الكلام عنها فى أحاديثه التليفزيونية والإذاعية والصحفية. كان يقول لى:

- الناس بتحب تسمع هذه القصة. وأنا أحب أن أكون قدوة طيبة، وأنتِ يا نهال شخصية متحفظة لا تُحبين أن تُعلنى عن نفسك. وأنا أحب أن يكون كل ما يخصنى ملكًا للناس. وأنتِ تخصيننى. وأنتِ جزءٌ من أملاكى.

وكم كنتُ أغضب كثيرًا من أنه يعدنى من أملاكه. ولكن مع الوقت تبينتُ أن هذه هى طريقة تعبيره عن الحب وليست بمعنى التملُّك والتحكُّم. وإننا كأسرة أصبحنا جزءًا منه، ومن حقه أن يتكلم عنها كيفما شاء ومتى شاء. ثم وجدتنى أنا نفسى أستمتع بقصتنا وهو يحكيها كأننى أسمعها كل مرة لأول مرة. وكأننى أحد جماهيره الذين يتابعونه بشغف وحب. وأنتظره دائمًا حتى يقصها مرارًا وتكرارًا.

قد أكون دخلت فى صُلب الموضوع بشكل مباشر دون أن أضع مقدمات أو خططاً لمحتوى حكاياتى مع عبدالرحمن، ولكنى تركتُ نفسى على سجيتها كما كان ينصحنى عبدالرحمن دائمًا «كونى نفسك وسيبى الأمور تمشى». ولكنى أتفق معكم الآن وبعد أن جرى كل ما جرى ورحل هو عن الدنيا منذ عشر سنواتٍ مضت.

اللقاء الأول

ذهبت على مضض إلى أمسية الأبنودى الأولى حين دعتنى ابنة خالتى إلى حضور أمسية شعرية لشاعر العامية عبدالرحمن الأبنودى فى المركز الثقافى الفرنسى بمدينة الإسكندرية. كنتُ آنذاك طالبة بالسنة الأولى بكلية التجارة جامعة الإسكندرية. ترددت فى قبول هذه الدعوة لأننى كنت فى تلك الفترة أنتمى بشدة إلى اللغة العربية الفُصحى لحد التعصُّب.

كنت عقادية المذهب نسبة إلى الكاتب الكبيرعباس محمود العقاد. وكنت مأخوذة بعبقرياته وكتاباته ومؤلفاته لشتى فروع المعرفة، ولكننى فى النهاية قبلت على مضض أن أذهب إلى تلك الأمسية، خصوصاً أننى كنت أقرأ شعر العامية لصلاح جاهين وفؤاد حداد من منظور عقائدى وهو أن العامية لا ترقى إلى مستوى الفصحى، هكذا كنت أعتقد فى ذلك الوقت.

يومها دخل الأبنودى القاعة من الباب الخلفى ولا أعرف لماذا؟ كان يرتدى قميصاً أبيض بسيطاً جداً وبنطلوناً أسود. ولفت نظرى أن شعره كان طويلاً متروكاً على سجيته دون تصفيف. والسوالف كانت طويلة كما كانت موضة تلك الفترة «موضة الهيبز» وهمست فى أذن ابنة خالتى: شكله غريب شوية ولا بيتهيأ لى؟ فابتسمت وقالت لى إنه مختلف.

الخواجة لامبو

تُكمل نهال كمال حكايتها حين بدأ الأبنودى إلقاء الشعر ورغم إحساسى بأنه من عالمٍ آخر أحسست بكلمة عبدالرحمن الشرقاوى فى مسرحيته الشهيرة: الحسين زائراً، أن الكلمة نور، وتفتحت أمامى معانى نبيلة شفافة رقيقة، وأذهلتنى البساطة المتناهية مع عمق المعانى فى قصيدته: الخواجة لامبو فى إسبانيا. كانت عن شاعر يمشى والجيتار عشيقته، يلمسه، يُملى على ليل إسبانيا بفصوص الأمانى والأغانى البرتقالى.

هذه القصيدة كانت نُقطة تحول فى حياتى وفى مفاهيمى الخاصة. وموقفى من العامية والفُصحى، وجدتنى أُعيد النظر فى نوعية الكُتب التى كنت حريصة على قراءتها، وانفتحت أمامى طاقة نور جديدة، ولفت نظرى أيضاً استخدام الأبنودى يديه للتعبير.

إذن كان هذا اللقاء الأول بينى وبين الخال. رأيته ولم يرنى. وبعد ذلك وعلى مدار سنواتٍ طويلة كنتُ أتجنب الحديث عن نفسي. ولكن الآن يجب أن أُجيب عن كل علامات الاستفهام التى صاحبت زواجنا الذى شكَّل صدمة للكثيرين، فجعلتنى أتوقف طويلاً عند نشأتى والبيئة التى أحاطت بى لكى يتضح ما الذى جمع بيننا ولم شملنا وجعل منى الابتسامة التى أحبها الأبنودي، وأجيب عن السؤال الذى قيل فيما بعد: إيه اللى لم الشامى على المغربي؟.

إشمعنا الأبنودي؟!

بعد تسع سنواتٍ بعد ذلك اللقاء فى المركز الثقافى الفرنسى فى الإسكندرية، استكملت فيها سنواتى الجامعية فى إدارة الأعمال، وسافرتُ إلى دولٍ كثيرة فى أوروبا، وفى هذه الأثناء عملت فى إذاعة الشباب والرياضة وقد كنتُ حريصة على أن يكون عملى فى الجانب الثقافى والأدبى والفني.

وسعدتُ جداً عندما حصلت على موافقة للتسجيل مع الأبنودي. فسارعت إلى الاتصال به. عرضتُ عليه فكرة البرنامج ورحَّب جداً. خاصة أنه كان متحمساً للشباب وقال لى ضاحكاً:

- يعنى خلاص حطلع فى التليفزيون بتاعكم؟.

ويومها كان موضوع الحلقة الأولى مع الأبنودى عن الشعر والشعراء الشباب. وقد أطلعته على بعض الأعمال الشعرية ليقول رأيه فيها. وأذكر أنه كان دبلوماسياً جداً فى الرد. فإذا لم يعجبه الشعر كان يقول لصاحبه: حاول أن تقرأ أكثر من دون أن يُحبط أو يجرح ذلك الشاعر الشاب. وكان هناك صدى طيب للحلقة. هكذا كان الأبنودى فى بداية معرفتى به ودوداً ومعطاء مع كل الناس. لا يبخل بالنصيحة، وكانت لديه قُدرة بسيطة مع أى إنسان يلتقيه فى وقت قياسى لا يتجاوز دقائق معدودة.

الأيام الأخيرة

فى قصة الأيام الأخيرة تكتُب نهال أن عبدالرحمن حلُم أن والدته فاطمة قنديل قد زارته فى المنام. وتقوم بتوزيع أرز باللبن وتقول أنا عايزة ابنى يتفك أسره. وبعد أيامٍ اشتد المرض على عبدالرحمن. كنت أخشى أن يتركنى وحدي. فى تلك الأثناء اتصل صديقه جمال الغيطانى وشعر بشدة مرضه، وانزعج الغيطانى وروى للأستاذ هيكل ما جرى، ودخل عبدالرحمن المستشفى.

وفى هذه الفترة رأى الصحفيان محمود مسلَّم، ومحمود الكردوسي، الأبنودي. وزاره عبدالحكيم عبدالناصر نجل الزعيم جمال عبدالناصر، والمخرج حسنى صالح. وهدأنا لحالته، ولكنى فوجئت به أنه سيموت قريباً. قلت له إن الأعمار بيد الله. حتى عندما قرر أن يكتُب وصيته لم أهتم. لم أُصِر على أن يحكيها لي، وقد رسم فيها سيناريو كاملاً لما سيحدث يوم رحيله.

كانت ابنتاه آية ونور ومعهما أمهما نهال كمال هن كل حياته. كان يعرف الدنيا كلها.

كان صديقاً لعبدالحليم حافظ، ومحمد رشدي، وماجدة الرومي، وشريهان، وعمار الشريعي. ولكن آية ونور ونهال كمال كن المنطقة الخضراء فى حياته.

هل أكتُب ليرحم الله عبدالرحمن الأبنودى رحمة واسعة. إنه يستحق منا أكثر من هذا بكثير، فكم أمتعنا سواء فى حضوره الشخصى والنادر عندما كنا نذهب إلى الأستاذين نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل.

ورغم شعره الحزين كان مصرياً أصيلاً، وكان ابن نكتة من طرازٍ مثقفٍ فريد.

يرحمه الله رحمة واسعة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة