حروب الجيل الخامس، أو ما يُعرف بـ«حروب الوعي»، هى حروب العصر الرقمى التى لم تعد تستهدف احتلال الأرض، بل احتلال العقول وتوجيه الإدراك الجمعي. فالتطورات المتلاحقة فى بنية العالم الرقمى منذ ظهور منصات التواصل الاجتماعى وحتى تقنيات الذكاء الاصطناعى، أحدثت زلزالًا عميقًا فى بنية الوعى المجتمعى.
أصبح تشكيل العقول والمجتمعات بيد خوارزميات إلكترونية تُبث عبر عوالم افتراضية قادرة على تغييب الوعى وتوجيه العقول بشكل خفي.
هذه الحروب الناعمة قد تكون أكثر تدميرًا من الحروب التقليدية، لأنها تضرب فى عمق هوية المجتمع وإرادته الجماعية، عبر تحويل الفضاء المعلوماتى إلى ساحة معركة تُدمَّر فيها الروابط الاجتماعية وتُزعزع ثقة الشعوب بمؤسساتها، من خلال عمليات نفسية ومعلوماتية ممنهجة تُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعى التى تُستخدم كقنوات رئيسية لنشر الشائعات وتضخيم الروايات المضادة وخلق الانقسامات داخل المجتمع.
تقول الدكتورة غادة عامر، أستاذ هندسة النظم الذكية بجامعة بنها، إن مفهوم الحرب لم يعد مقصورًا على القوة العسكرية التقليدية، بل اتسع ليشمل السيطرة على الوعى والتصورات البشرية، وهو ما يُعرف بـ»الحروب اللامتماثلة».
هذه الحروب تعتمد على التأثير فى الإدراك والرأى العام والسلوك الاجتماعى بوسائل متعددة، مثل الإعلام الرقمى ووسائل التواصل الاجتماعى والذكاء الاصطناعى وتلاعب المعلومات، من أجل تشكيل ما يراه الناس ويفكرون فيه ويتصرفون بموجبه.
وتضيف عامر أن العالم الرقمى اليوم يُنتج بيئة متكاملة تُسهم فى تكوين صورة مُشوَّهة أو مُضللة عن الواقع، تؤثر فى قرارات الأفراد وتوجهاتهم السياسية والاجتماعية. وترى أن فهم هذه الظواهر لم يعد مسألة أمن قومى فحسب، بل قضية اجتماعية وثقافية تمس طبيعة المعلومات التى نستهلكها وكيفية تشكّل وعى الجمهور.
وتوضح أن التلاعب بالوعى فى العالم الرقمى يمتد إلى مجالات عدة، من بينها نشر الأخبار المفبركة والشائعات التى تؤدى إلى تآكل الحوار المدنى وتفاقم العنف اللفظي، وتراجع روح النقاش البنّاء داخل المجتمع.
أما على مستوى الأفراد، فتؤدى هذه العمليات إلى ارتباك معرفى وتحيزات نفسية تدفعهم لاتخاذ قرارات غير رشيدة تحت ضغط المعلومات الزائفة.
وعن آليات الحفاظ على الوعى فى العصر الرقمي، تؤكد الدكتورة عامر أن ذلك يتطلب جهودًا متكاملة على مستوى الدولة والمؤسسات والأفراد.
فعلى الصعيد الفردى، يجب التحقق من المعلومات قبل مشاركتها، والتمييز بين الأخبار العاجلة والتحقيقات المتعمقة، وتعلّم التفكير النقدى لتقوية القدرة على التمييز بين المحتوى الحقيقى والمزيف، سواء كان من إنتاج بشرى أو آلي.
أما على مستوى الدولة، فتطالب عامر ببناء منظومة معلومات شفافة من خلال مصادر موثوقة، وتقديم توضيحات منتظمة حول الأخبار المثيرة للجدل، ودعم الصحافة المستقلة وتمكين آليات مراجعة الحقائق، إلى جانب تبنى تقنيات لكشف التزييف وتعزيز الشفافية فى عمل خوارزميات التوصية.
وتشدد على أهمية وضع أطر تشريعية صارمة تُحمّل المسئولية القانونية عن نشر المحتوى المضلل، بما يوازن بين الحرية والأمن، مع تعزيز التعاون الدولى لمكافحة التلاعب المعلوماتى العابر للحدود، واحترام السيادة والقيم الوطنية.
شكل ظهور وسائل التواصل الاجتماعى زلزالًا حقيقيًا فى بنية الوعى المجتمعي، كما يقول الدكتور هيثم طارق، خبير الأمن السيبرانى والذكاء الاصطناعي، إذ انتقلت المجتمعات من موقع المتلقى السلبى إلى صانع الخبر ومُشكل الرأى العام.
وتحولت منصات مثل فيسبوك وتويتر وإنستجرام إلى ساحات عامة عالمية تتلاقى فيها مليارات الأصوات والأفكار، فكان ذلك بمثابة ثورة فى ديناميكيات القوة المعرفية، حيث مُنح الفرد العادى سلطة غير مسبوقة فى النشر والتأثير وحشد الجماهير.
ويؤكد د. طارق أن هذه المنصات نجحت ببراعة فى التحول إلى أدوات لتغييب الوعى وتوجيه العقول عبر محتوى ترفيهى سطحى مصمم لإثارة ردود فعل فورية، مما يُلهى المستخدمين عن القضايا الجوهرية ويُحوّل المواطن إلى مستهلك سلبى للمحتوى بدلاً من مشارِك فى الشأن العام.
ويضيف أن منصات الواقع الافتراضى تمتلك بيانات دقيقة عن اهتمامات المستخدمين وسلوكهم، تُستخدم أحيانًا للتأثير فى قراراتهم الاستهلاكية أو السياسية، عبر حملات مصممة بدقة للتأثير فى اللاوعى الجمعى دون إدراك منهم.
ويصف ذلك بأنه أخطر أشكال السيطرة الرقمية، إذ تتيح هذه التقنيات إمكانية توجيه الإدراك الجمعى بالكامل نحو مسارات مختارة مسبقًا.
يؤكد خبير الذكاء الاصطناعى أن أخطر تجليات العصر الرقمى هو «وباء المعلومات المضللة»، الذى وجدت فيه منصات التواصل الاجتماعى بيئة خصبة للانتشار، إذ تنتشر الأكاذيب أسرع من الحقيقة بسبب طبيعة هذه المنصات الفيروسية التى تُغرى بالمشاركة.
ويُفسر بأن الناس يميلون إلى مشاركة ما يؤكد قناعاتهم دون التحقق، ومع تطور تقنيات التزييف العميق أصبح من شبه المستحيل على غير المتخصصين التمييز بين الحقيقى والمفبرك، خاصة مع استخدام جيوش من الحسابات الوهمية والروبوتات الإلكترونية لتضخيم روايات معينة وخلق انطباع زائف بوجود إجماع شعبى حولها، وهو ما يُهدد أسس الحوار العقلانى والديمقراطية نفسها.
يقول دكتور طارق إن العالم يقف اليوم على أعتاب حقبة جديدة من الصراعات لا تُستخدم فيها الجيوش، بل الخوارزميات والبيانات كسلاح استراتيجي.
إنها «حروب الوعي»، حيث يتم تحويل الفضاء المعلوماتى إلى ميدان قتال يستهدف تفكيك المجتمع وزعزعة ثقته بقياداته ومؤسساته، وإغراقه فى الشك والاستقطاب الداخلى من خلال نشر الشائعات والروايات المضادة عبر السوشيال ميديا.
ويضيف: «السلاح هنا ليس الرصاصة، بل الصورة والميم والخبر الكاذب»، مشيرًا إلى أن الحسابات الوهمية التى تخلق انطباعًا زائفًا بوجود رأى عام جارف هى أدوات حرب ناعمة لكنها بالغة التدمير، لأنها تضرب فى صميم هوية المجتمع وإرادته الجماعية.