يُنظر إلى قمة بروكسل على أنها لحظة مفصلية فى مسار العلاقات بين مصر أوروبا، وتحول جديد فى خريطة الشراكات الإقليمية التى تضع مصر فى قلب المعادلة الأوروبية، بوصفها شريكًا رئيسيًا فى الاستقرار والتنمية والتحول الأخضر، إلى جانب كونها فرصة محورية لتحويل طموحات الجانبين إلى نتائج ملموسة عبر محاور «الشراكة الستة»، حيث ترتكز الشراكة الاستراتيجية على محاور رئيسية تشمل: العلاقات السياسية والاستقرار الاقتصادى والتجارة والاستثمارات والهجرة والتنقل والأمن والديموغرافيا ورأس المال البشرى، ويسهم التقدم فى هذه المجالات فى إطلاق الإمكانات الكاملة للعلاقات الثنائية.
القمة تتضمن ثلاث جلسات رئيسية تحمل رسائل عميقة حول مسار العلاقة بين الجانبين، على رأسها: بناء ممر الاستثمار الاستراتيجى بين مصر وأوروبا، وتعزيز التنافسية الصناعية والمستدامة لسلاسل القيمة، ووضع الأبحاث والابتكار فى قلب التنافسية، ومن ثم تُعد منصة لتفعيل الرؤية الجديدة للشراكة، عبر التركيز على القطاعات الاستراتيجية مثل سلاسل القيمة التكنولوجية والنظيفة، ودعم الابتكار فى النظم البيئية الصناعية، وتعزيز الإصلاحات اللازمة لجذب رؤوس الأموال والاستثمارات طويلة المدى، حيث من المنتظر أن تشهد الجلسات توافقًا حول آليات تسريع تنفيذ الاتفاقات القائمة وتحويل الحزمة المالية الأوروبية البالغة 7.4 مليار يورو إلى مشروعات إنتاجية وتنموية مباشرة، فى ظل اهتمام مشترك بتوسيع قاعدة التصنيع وزيادة فرص العمل.
وشهدت السنوات الأخيرة سلسلة من اللقاءات التمهيدية التى أرست لهذه القمة، من بينها مؤتمر الاستثمار عام 2024، وإطلاق منصة الاتحاد الأوروبى ومصر للاستثمار فى 2025، وحزمة المساعدات المالية بقيمة 5 مليارات يورو، وهى تحركات رسمت إطارًا جديدًا للتفاعل يقوم على المصالح المتبادلة لا المساعدات التقليدية، وعلى الشراكة الإنتاجية لا المعادلات الأحادية، خاصة أنه منذ ترفيع العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية فى مارس 2024، برزت مصر كحليف لا غنى عنه فى ملفات الأمن الإقليمى والطاقة والهجرة، ويكفى الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبى كان خلال عام 2024 الشريك التجارى الأول لمصر، مستحوذًا على 22فى المائة من إجمالى تجارتها، ومشكلا الوجهة الرئيسية للصادرات المصرية بنسبة 26.5فى المائة، والمصدر الأكبر للواردات بنسبة 19.9فى المائة.
ومن المتوقع أن تسهم القمة فى تعزيز التعاون لتفعيل منطقة التجارة الحرة المنبثقة عن اتفاقية الشراكة الموقعة عام 2004، بما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التكامل الصناعى والاقتصادى بين ضفتى المتوسط، فى الوقت الذى تتزامن مع التحول الذى تشهده مصر داخليًا على الصعيد الاقتصادى، حيث تواصل الحكومة مسار الإصلاح العميق من خلال إطلاق «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» التى تستهدف تعظيم الاستفادة من البنية التحتية العملاقة التى أُنجزت خلال العقد الأخير، وتحفيز القطاعات الأعلى إنتاجية، وتمكين القطاع الخاص، وتوطين الصناعة، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ويؤكد هذا المسار على رؤية الرئيس السيسى فى أن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا بالشراكات الذكية التى تقوم على تبادل المنافع وتعزيز القدرة الإنتاجية، وهو ما يجعل من الشراكة المصرية الأوروبية نموذجًا يُحتذى به فى إدارة المصالح بين الشمال والجنوب، وبالتالى ترسخ القمة الأوروبية المصرية التقارب الكبير فى الرؤى بين الجانبين تجاه الملفات الإقليمية والدولية، من الحرب الروسية الأوكرانية إلى الصراع فى الشرق الأوسط، مرورًا بقضايا التعددية والهجرة والأمن الغذائى والتحول الرقمى، كما تؤكد أن مصر شريك لا غنى عنه فى تحقيق الاستقرار الإقليمى، ودورها الفاعل فى الوساطة وتهدئة الأزمات، خصوصًا إنهاء حرب غزة، جعل منها صوتًا مسموعًا وموثوقًا فى دوائر القرار الأوروبى.
وعن أبرز الملفات المطروحة على جدول القمة بين مصر والاتحاد الأوروبى، قال الخبير فى الشؤون الأوروبية خالد مصطفى، إن «القمة تأتى فى لحظة إقليمية ودولية دقيقة تتقاطع فيها أزمات الشرق الأوسط مع ضغوط اقتصادية وهجرات متصاعدة نحو أوروبا، ويهدف الجانبان إلى تحويل علاقتهما من تعاون تنموى إلى شراكة استراتيجية شاملة وُقعت ملامحها الأولى فى مارس 2024 ضمن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والاستثمارية، كما تُعقد القمة فى لحظة شديدة الحساسية من التحولات الدولية والإقليمية حيث يبحث الطرفان عن صيغة جديدة للعلاقات تقوم على الندية والتكامل لا على المعونات والاشتراطات».
وشدد «مصطفى»، على أن «القاهرة وبروكسل تتجهان نحو تثبيت ما تسميانه بالشراكة الاستراتيجية الشاملة وهى المرحلة الأعمق فى تاريخ العلاقات بينهما، وقد يشمل هذا الاتفاق أبعادًا مختلفة منها البعد السياسى والاستراتيجى، حيث سيتم إعادة تعريف العلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبى باعتبارها شراكة استراتيجية قائمة على المصالح المتبادلة والأمن المشترك وبحث آليات التنسيق فى أزمات الشرق الأوسط وتأكيد أن الأمن الإقليمى لن يتحقق دون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية مع إنشاء آلية لقمة دورية كل عامين مع وجود لجان وزارية دائمة لمتابعة الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية، مع طرح رؤية واضحة لدعم الدور المصرى كقوة استقرار فى الجنوب المتوسطى وكجسر سياسى بين إفريقيا والعالم العربى وأوروبا، حيث إن رسالة القاهرة أصبحت واضحة للجميع فلا استقرار فى المتوسط دون عدالة فى الجنوب ورسالة أوروبا أيضًا باتت أكثر وضوحًا بأن مصر شريك لا غنى عنه فى زمن الاضطراب».
ومن الأبعاد المهمة أيضًا الاقتصاد والاستثمار والشراكة المحتملة لبناء جسر جديد وقوى للتنمية بين الجانبين، حيث تم قبل ذلك إقرار حزمة الدعم الأوروبية لمصر بقيمة 7.4 مليار يورو للفترة 2024–2027 و 5 مليارات قروضًا ميسرة لدعم الاقتصاد الكلى بالإضافة إلى 1.8 مليار استثمارات مباشرة فى قطاعات الطاقة والنقل والصناعة و600 مليون منحًا تنموية، وهناك عدد من المشروعات المحورية قيد النقاش والتنفيذ منها تطوير ميناء السخنة وممر النقل الأخضر نحو البحر المتوسط وإقامة منطقة صناعية أوروبية فى محور قناة السويس ودعم سلاسل التوريد بين مصر وأوروبا لجعل القاهرة مركز إنتاج إقليمى فالاتحاد الأوروبى يطمح إلى تحويل مصر إلى منصة إقليمية للطاقة النظيفة غاز طبيعى، هيدروجين أخضر، طاقة شمسية ورياح وفى المقابل تطالب مصر بشروط تمويل مرنة ونقل للتكنولوجيا.
«مصطفى» لفت إلى أن ملف الهجرة غير النظامية يمثل محورًا حساسًا فى القمة فالاتحاد الأوروبى يشيد بقدرة مصر على منع انطلاق أى قوارب هجرة غير شرعية من سواحلها منذ 2016، ومن المنتظر توقيع برنامج شامل للهجرة والتنمية يشمل دعم قدرات حرس الحدود وخفر السواحل وتمويل مشاريع تشغيل وتنمية فى المحافظات الأكثر تصديرًا للهجرة وإنشاء مراكز تدريب مهنى مشتركة للشباب لأن القاهرة تؤكد رفضها أن تكون مخزنًا للاجئين أو أداة لسياسات أوروبية ضيقة وتطالب بتقاسم الأعباء ومسؤولية التنمية فى دول المصدر، ولعل أهم الملفات المطروحة ملف الطاقة والمناخ والمياه كمحاور أساسية للمستقبل حيث سيتم إطلاق مبادرة الربط الكهربائى بين مصر وأوروبا عبر قبرص واليونان، مع توقيع اتفاقيات جديدة فى مجال الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية بمشاركة شركات أوروبية كبرى.
وشدد على أنه سيتم فتح مجالات التعاون فى الأمن المائى ومشروعات إعادة استخدام المياه وتكنولوجيا الرى الذكى ضمن شراكة المياه المعلنة فى القاهرة ودعم جهود مصر فى التحول الأخضر وخفض الانبعاثات وفقًا لاتفاق باريس للمناخ كما سيتم بحث مشروع ممر الطاقة الأخضر الذى يربط إفريقيا بأوروبا عبر الأراضى المصرية.
كما اعتبر الخبير فى الشؤون الأوروبية أن القمة «المصرية _ الأوروبية» المقبلة تستهدف بالفعل وضع خريطة طريق جديدة وشاملة للعلاقات بين الجانبين خلال السنوات القادمة بما يرسخ التحول من مرحلة التعاون التقليدى إلى شراكة استراتيجية متكاملة تقوم على المصالح المتبادلة والالتزامات طويلة المدى، حيث تمثل القمة محطة مفصلية فى مسار العلاقات بين القاهرة والاتحاد الأوروبى ليس فقط باعتبارها أول قمة من نوعها بل لأنها تستهدف رسم خريطة طريق جديدة تحدد ملامح التعاون خلال السنوات المقبلة على أسس أكثر شمولًا واستدامة وتوازنًا بين المصالح والالتزامات المتبادلة، لذلك من أجل إخراج الشراكة من المستوى التقليدى إلى التحالف الاستراتيجى.
وأشار إلى الاتحاد الأوروبى ينظر إلى مصر باعتبارها ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بفضل موقعها الجغرافى ودورها الدبلوماسى المتوازن وعلاقاتها المتشعبة مع القوى الدولية والإقليمية وصاحبة نهج متوازن يجمع بين الواقعية السياسية والمسؤولية الإقليمية، ولأن أمن أوروبا واستقرارها لا ينفصلان عن محيطها الجنوبى فإن تعزيز الشراكة الأوروبية المصرية لم يعد خيارًا بل ضرورة استراتيجية للأوروبيين.
بدوره، أكد الدكتور مصطفى بدرة، أستاذ التمويل والاستثمار، أن القمة «المصرية _ الأوروبية» تمثل ترجمة حقيقية للشراكة الاستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي، التى تم توقيعها فى مارس 2024، وتأتى فى إطار تنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلال العامين الماضيين من تفاهمات اقتصادية واستثمارية واسعة.
«بدرة» أوضح أن «هناك حزمة تمويلية تتراوح بين 9 و10 مليارات يورو تم الاتفاق عليها لدعم الاقتصاد المصرى، من بينها ما يُقدَّر بنحو 4 مليارات يورو سيتم توجيهها كمساندة مباشرة لمصر خلال المرحلة المقبلة، وهذه الخطوة سيكون لها أثر إيجابى كبير فى ملفات التعاون الدولى، ولا سيما فى المراجعتين الخامسة والسادسة مع صندوق النقد الدولى، بما يعزز من ثقة المؤسسات المالية العالمية فى أداء الاقتصاد المصرى».
وأشار إلى أن «الملفات الاقتصادية المطروحة على القمة تشمل مشروعات نوعية فى مجالات الربط الكهربائى بين مصر وأوروبا، والطاقة الجديدة والمتجددة، وتطوير البنية التحتية للنقل، وهى قطاعات تمثل مستقبل التعاون المشترك بين الجانبين، كما رجح أن تشهد القمة نقاشًا حول تحويل جزء من القروض أو المديونية المصرية إلى استثمارات مباشرة، خاصة فى المشروعات المشتركة مع دول مثل ألمانيا، وهذا التوجه من شأنه تخفيف أعباء الدين وتعزيز تدفقات الاستثمار الأجنبى».
وفى تحليله لأبعاد القمة، أوضح «بدرة» أن «قمة بروكسل محطة رئيسية ضمن مسار تنفيذ الشراكة الاستراتيجية، ويمكن وصفها بأنها المرحلة الثالثة أو الرابعة من تنفيذ الاتفاقية، فالشراكة الاستراتيجية تمر بعدة مراحل متتابعة، وهذه القمة تمثل خطوة متقدمة فى تحويل بنودها إلى واقع عملى، ومصر قدمت للاتحاد الأوروبى خلال السنوات الأخيرة خدمات استراتيجية مؤثرة، فى مقدمتها تأمين احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعى، والحد من الهجرة غير الشرعية، والحفاظ على استقرار الإقليم وإخماد صراعات الشرق الأوسط، حيث كانت القاهرة حائط الصد الأول أمام فوضى المنطقة، وساهمت فى حماية الأمن الأوروبى عبر ضبط موجات الهجرة، فضلًا عن دورها فى تجنب الصراع الممتد فى المنطقة، وهو ما تقدره العواصم الأوروبية جيدًا»