فى مثل هذا اليوم، صباح الجمعة 24 أكتوبر عام 1924، كانت القاهرة تستيقظ على نداءات باعة الصحف فى الشوارع والميادين: «اقرأ المصوّر.. اقرأ المصوّر.. أول مجلة مصورة فى الشرق”.
نداء بدا آنذاك كأنه إعلان عن ميلاد فجر جديد فى سماء الصحافة العربية، فصدور «المصور» لم يكن حدثًا عابرًا، بل ثورة فى عالم الصحافة فى الأقطار العربية كلها. ووراء هذا الميلاد كان الشقيقان إميل وشكرى زيدان، اللذان شدّا الرحال إلى ألمانيا وسويسرا، حيث جابا معامل الطباعة ومصانع الكاميرات، ليأتيا إلى القاهرة بأحدث ما أنتجه العالم من آلات التصوير والطباعة. وقالا يومها فى العدد الأول: «ما برحنا منذ مدة نفكر فى إصدار مجلة أسبوعية مصورة تكون إلى جانب الهلال كالرفيق إلى رفيقه، أو كالأخ الأصغر إلى أخيه الأكبر، وقد صحت عزيمتنا أخيرًا على إصدار مجلة شائقة مبهجة، تُطبع صورها بأعظم إتقان فنى لم يعرفه الشرق من قبل».
ومن حيث أهمية الأحداث والتواريخ، فإن العام الذى شهد صدور مجلة المصور كان عامًا استثنائيًا فى تاريخ القرن العشرين، إذ امتلأ بتحولات كبرى غيّرت العالم، وجعلت منه علامة فاصلة فى مسار التاريخ، لا فى مصر وحدها، بل فى الشرق والغرب على السواء. ففى مصر، برزت قوة الشعب لتفرض حضورها بعد ثورة 1919، التى توحّد فيها المصريون خلف زعامة سعد زغلول.
وفى العام نفسه، طوى التاريخ صفحة من كتبه حين أعلن مصطفى كمال أتاتورك سقوط الخلافة العثمانية بعد ستة قرون من وجودها، وفى اليونان سقطت الملكية لتحل محلها الجمهورية، بينما شهدت إيران خلع الشاه رضا بهلوى أثناء غيابه فى أوروبا، فى مشهد عالمى اتسم بالاضطرابات.
وهكذا وُلدت «المصور» لتفتح عيون الشرق على عالم جديد من الدهشة، فحفلت صفحاتها الأولى بصور مطبوعة بتقنية «الروتوغرافور» التى كانت حديثة العهد فى أوروبا، وكانت دار الهلال أول من أدخلها إلى الأقطار الشرقية، وتكبّد مؤسسوها المشقة والتكاليف الجسيمة من أجل أن يرى القارئ صورًا تنطق بالحياة.
ومن رحم «المصور» خرجت أجيال من القامات الصحفية التى أثرت المهنة بفكرها وريادتها، فصارت المجلة مدرسة يُحتذى بها فى مختلف فنون الصحافة.
وخلال مسيرتها الممتدة، خاضت «المصور» معارك صحفية كثيرة دفاعًا عن الوطن والمواطن، ووقفت دائمًا فى صف الحقيقة، ترفع مشاعل التنوير فى زمن العتمة، وتكشف بالتحقيق والمقال ما يجب أن يُقال دون خوف أو مواربة، لتكون سطورها دائمًا نورًا يرشدنا نحو الحقيقة.
اليوم.. وبعد صدور أكثر من 5272 عددًا دون انقطاع أسبوع واحد، إضافة إلى مئات الأعداد التذكارية والخاصة، ما زالت «المصور» شابة رغم مرور عامها الأول بعد المائة، تجدّد صفحاتها كل يوم، وتطوّر أدواتها لتبقى وفيّة لجوهر رسالتها، فكما كانت بالأمس منبرًا للصورة البديعة والكلمة الصادقة، هى اليوم تتواصل مع قرائها عبر منصاتها الرقمية، حاضرة فى فضاء التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، عبر موقعها الإلكترونى وصفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعى.
واحتفالًا ببدء المئوية الثانية، اختارت «المصور» أن تسلك دربًا شاقًا، بعيدًا عن ضجيج الإثارة وضوء «الترند»، لتظل وفيّة للصحافة التى تُبنى بها العقول ويُصاغ بها الوعى. حيث اخترنا أن نصدر عددًا ليس فاخرًا فى المحتوى والإخراج والطباعة فقط، لكنه عدد للتاريخ يُضاف إلى سلسلة الأعداد التذكارية التى نرسم بها، عامًا بعد عام، ملامح مصر عبر قرن من الزمان.
فى العدد الذى سيصدر خلال أيام، جمعنا مائة حوار مع شخصيات صنعت تاريخ الوطن فى السياسة والاقتصاد والعلم والفن والرياضة، اختيرت بعناية لتشكّل لوحة توثيقية متكاملة لمسيرة مصر الحديثة، ورافق هذه الحوارات ألف صورة نادرة من بين أكثر من مليونى صورة محفوظة فى أرشيف دار الهلال العريقة، فكما قال مؤسسا «المصور» فى عددها الأول: «رب صورة صغيرة أبلغ من المقالات الطويلة».
وهنا.. وبعد مرور العام الأول بعد المائة فى رحاب الجمهورية الجديدة، وتحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، نجدّد العهد مع القارئ، مع الكلمة، مع الصورة، مع الوطن.. على صون الحقيقة والمصداقية والمهنية، نقدّم العام قبل الخاص، نقدّم الوطن قبل كل شىء.