على مدار التاريخ كانت القوة الناعمة المصرية حاضرة بقوة وأثرها على العالم أجمع، فمنذ الهرم الأكبر إحدى عجائب الدنيا السبع والذى ما زال شامخًا، والقوة الناعمة المصرية متجددة على مدار التاريخ الذى يشهد بتميز العقلية المصرية فى مجالات عدة.
والقوة الناعمة المصرية ليست فقط فناً وثقافة كما يتخيل البعض، ولكنها أعمق من ذلك بكثير، فمنذ آلاف السنين كانت الحضارة المصرية القديمة عنواناً للعالم ويكفى أن مصر الدولة الوحيدة فى العالم التى يوجد علم باسمها (علم المصريات) يدرس فى جامعات العالم وهو الأمر الذى يؤكد أن العقل المصرى متميز فى كثير من المجالات وما زالت القوة الناعمة المصرية بمختلف المجالات مستمرة ومتواصلة ولها تأثيرها على المنطقة.
يكفى أن د. خالد العنانى هو أول مصرى وعربى يتولى منصب مدير عام منظمة اليونسكو، ليس هذا وفقط بل أكبر عدد أصوات يحصل عليه مرشح لهذا المنصب فى انتخابات تنافسية منذ تأسيس منظمة اليونسكو عام 1945. لذا فلا تتعجب عندما تجد فرحة المصريين بفوز د. خالد حتى الرجل البسيط يشعر بالفرحة حتى لو كان لا يعرف ما مهام المنصب.
المناصب الدولية هى اعتراف بالشخصية المصرية، فعندما نجد د. غادة والى المدير التنفيذى لمكتب الأمم المتحدة ود. ياسمين فؤاد الأمينة التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر ود. محمد معيط رئيس المجموعة العربية فى صندوق النقد الدولى.
ود. محمود محيى الدين مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة، ومحمد فريد نائب رئيس المنظمة الدولية لهيئة الأوراق المالية ومن قبلهم د. حازم الببلاوى والسفيرة ميرفت التلاوى بالأمم المتحدة، ولا يمكن نسيان د. بطرس غالى. أول عربى إفريقى يشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة فى التسعينيات.
وبعد أيام قليلة يحتفل العالم بافتتاح المتحف المصرى الكبير الذى يعد أكبر متحف فى العالم للآثار، وكما يقول الرئيس السيسى إن هذا المتحف هدية مصر للعالم، ولا تتعجب عزيزى القارئ عندما نتحدث بفخر عن الهرم الأكبر ليس لكونه من عجائب الدنيا السبع القديمة فقط ولكن لأنه الوحيد الذى ظل موجودًا من بين السبع عجائب لذا تم ضمه أيضًا فى عجائب الدنيا السبع الجديدة، وهذا أكبر دليل على مدى العلم الذى استطاع المصريون القدماء الوصول إليه ولم يكتشفه أحد حتى الآن، رغم كل التطور العلمى والتكنولوجى الذى نعيش فيه.
ولا يمكن أن نغفل دور الشخصية المصرية فى تزايد دور القوة الناعمة المصرية أو حتى استمرار تدفقها وهو الأمر الذى ظهر جليًا فى استضافة مصر مباحثات السلام فى شرم الشيخ رغم كل محاولات إبعاد أو تهميش دور مصر، ولكن كما قلنا من قبل إن الشخصية المصرية مؤثرة وقادرة على التفاوض بسياسة (النفس الطويل) المدروس والمخطط له مسبقًا بكل السيناريوهات المتوقعة وغير المتوقعة لما تملكه من خبرة طويلة متوارثة من أجيال كثيرة متعاقبة.
النماذج كثيرة ومتعددة فى مجالات مختلفة، وللأسف، فنحن كمصريين لا نقدر حجم قوتنا الناعمة أو حتى نعرفها فى مجالات كثيرة رغم أن العالم يقدرها حق قدرها، وكما نقول فى الأمثال الشعبية (نحن نعمل فى صمت) وهناك جنود مجهولة فى قطاعات كثيرة.
ومن تلك الأمثلة المركز الديموجرافى الذى يمتد تأثيره فى إفريقيا والدول العربية والآسيوية كبيت خبرة معتمد محليًا وإقليميًا فى مجال دراسات السكان والتخطيط السكانى وسياسات التنمية المستدامة وإعداد الكوادر الأكاديمية والبحثية على مدار 62 عامًا شهد خلالها الكثير من الأبحاث والدراسات.
وفى السنوات القليلة الماضية تمت إعادة تنظيم المركز الديموجرافى كهيئة بحثية مستقلة تتبع وزير التخطيط لتبدأ صفحة جديدة من الإنجازات فى مجال السكان والعلوم المرتبطة به وتقديم البرامج التدريبة والندوات والمؤتمرات داخل مصر، ولم يتوقف دور المركز داخل مصر، بل خارجيًا من خلال التعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية بالإضافة الى منح الدارسين، حيث تم تخريج عدد من الطلاب يبلغ عددهم 2470 من 83 دولة من شمال إفريقيا، وجنوب غرب آسيا، وشرق أوروبا، وأمريكا الجنوبية.
ولمواكبة التقدم التكنولوجى العالمى استطاع المركز تصميم ماجستير مهنى فريد من نوعه لأول مرة يُدّرس بمصر للدمج بين تحليل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى من أجل دعم متخذ القرار فيما يتعلق بالسياسات السكانية فى مصر بناء على الأدلة المبنية على ربط وتكامل قواعد البيانات الكبرى.
فقضية الزيادة السكانية فى مصر ظلت لعقود مشكلة رئيسية تلتهم كل موارد الدولة، وكان الحل المتبع فى ذلك الوقت هو نشر التوعية بأهمية تحديد النسل فقط وهو الحل الذى أثبت الزمن فشلة الذريع، ولكن فى الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى اختلف الحال لأن أحد أسس بناء الجمهورية الجديدة هو المواطن المصرى وبناء الإنسان، لذا لم يعد تحديد النسل هو الحل فقط لمشكلة الزيادة السكانية بل تدخل العلم مع البعد الإنسانى الواقعى وأسفر لنا المشروع القومى لتنمية الأسرة المصرية بتحسين الخصائص الديموجرافية لأول مرة مثل التعليم والصحة وفرص العمل والتمكين الاقتصادى والثقافة، بالإضافة إلى ضبط النمو السكانى.
فالمشروع يتضمن عدة محاور هى التمكين الاقتصادى للمرأة، وتحسين خدمات تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية وإتاحتها بالمجان للجميع، والتوعية الثقافية والتدخلات التربوية، بالإضافة إلى التحول الرقمى والإصلاح التشريعي.
ولا تتعجب عزيزى القارئ عندما تعرف أن أول تعداد للسكان فى مصر كان عام 1882 وكان باللغة الفرنسية وللعلم هذا التعداد موجود بمكتبة المركز الديموجرافى والتى تعد واحدة من أهم المكتبات المتخصصة فى علوم السكان والديموجرافيا على مستوى العالم ويوجد بها كافة التعدادات السكانية فى تاريخ مصر؛ هذا بالإضافة إلى آلاف الكتب فى مجالات العلوم السكانية سواء باللغة العربية أو الإنجليزية بجانب جميع مطبوعات المركز من أبحاث ورسائل ماجستير وسلاسل الأوراق الديموجرافية.
وهذه المكتبة ليست مكتبة تقليدية بالشكل القديم فقط كما تتصور فهى مواكبة التطور التكنولوجى والتحول الرقمى، فكل الأبحاث والأوراق الديموجرافية ستجدها على موقع بنك المعرفة المصرى.
النماذج المشرقة كثيرة جدًا فى مصر ولكننا لا نعرف عنها شيئًا فهى ليست «تريند» على السوشيال ميديا وليسوا نجوم شباك مثل الفنانين أو لاعبى كرة القدم ولكنهم موجودون على الأرض ويعملون ويخططون لأجل المواطن والوطن ولا يبحثون عن الشكر أو التقدير وأستطيع أن أشبههم بدور الأب فى العائلة.