رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

عمرو دوارة «حارس الذاكرة المسرحية».. غادر المؤرخ خشبة الحياة

9-10-2025 | 16:41

المؤرخ والناقد والمخرج عمرو دوارة

طباعة
همت مصطفى

في صباح يوم الخميس التاسع من أكتوبر 2025، فُجع المسرح المصري بخسارة لا تُعوّض،  لقد رحل عنا ليس كما يرحل الفنانون العاديون، بل كما ترحل المكتبات حين تحترق، كما تموت الموسوعات حين تُغلق صفحتها الأخيرة إلى الأبد، لقد غادرنا الرجل الذي حمل على كتفيه مسؤولية حفظ قرن ونصف من تاريخ الفن المسرحي المصري، الرجل الذي لم يكتفِ بصناعة الفن،  لكنه صنع ذاكرته أيضًا إنه  الدكتور عمرو دوارة، «حارس الذاكرة المسرحية» و«جبرتي المسرح المصري».

رحل عنا من وثّق حياة ألفين وخمسمائة فنان؟ لكنه لن يُطوى في صمت، فهو  من أنقذ من الطي أسماء وسيرًا وعروضًا كادت تُمحى من سجلات التاريخ؟ اليوم، مع رحيل عمرو دوارة، لا نودّع مخرجًا موهوبًا أو ناقدًا متميزًا أو مؤرخًا دقيقًا فحسب،  لكننا نودّع مشروعًا ثقافيًا كاملًا، ضميرًا حيًا، وعينًا ساهرة ظلت لعقود تحرس ما تبقى من ذاكرة مسرح كاد النسيان أن يلتهمه.

 وفي زمن صار فيه التاريخ سلعة رخيصة، والذاكرة ترفًا لا يُلتفت إليه، وقف عمرو دوارة وحيدًا في خندق المعركة، يحارب النسيان بسلاح الكلمة والتوثيق والبحث، لم يكن مجرد شاهد على عصر،  لكنه  كان  وسيظل من صنع هذا العصر ووثّقه وحلّله، حتى بات اسمه ملتصقًا بالمسرح المصري التصاق الروح بالجسد.

واليوم، بعد أن أدّى الأمانة وحفظ الوديعة، رحل تاركًا وراءه إرثًا لا يموت، وذاكرة محفوظة في آلاف الصفحات، تشهد أن رجلًا واحدًا يستطيع أن يهزم النسيان.

من الهندسة إلى خشبة المسرح

كانت رحلة   الدكتور عمرو دوارة مع الفن استثنائية منذ البداية. فقد حمل بكالوريوس الهندسة قبل أن يستجيب لنداء الفن الحقيقي، ليلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية ويتخرج فيه عام 1984م  هذا التنوع في التكوين العلمي منحه نظرة فريدة، تجمع بين الدِّقَّة الهندسية والحس الفني، بين المنهجية الصارمة والرؤية الإبداعية.

لكن الفن كان في دَم المؤرخ والناقد والفن عمرو دوارة منذ الميلاد، فهو نجل شيخ النقاد المسرحيين فؤاد دوارة، الذي ورث عنه شغف المسرح وعشق التوثيق، ليصبح الابن امتدادًا طبيعيًا لمشروع الأب، لكن بأدوات العصر الحديث ورؤية أكثر شمولًا.

تلميذ كرم مطاوع وصانع الأجيال
بدأ  دكتور عمرو دوارة مسيرته الإخراجية مساعدًا ومخرجًا منفذًا لأستاذه كرم مطاوع، أحد عمالقة المسرح المصري، في عروض عدّة بينها إنتاجات المسرح القومي،و هذه المدرسة الصارمة شكّلت وعيه الفني وصقلت موهبته، وجعلت منه مخرجًا يجمع بين الأصالة والتجديد.

على مدى مسيرة دكتور عمرو دوارة، أخرج خمسة وستين عرضًا مسرحيًا، نصفها تقريبًا على خشبات مسارح الدولة، فيما قدّم النصف الآخر مع فرق الهواة المختلفة، مؤمنًا بأن المسرح ليس حكرًا على المحترفين، بل هو فضاء حيوي للجميع.

ومن بين أبرز أعماله الإخراجية: «وهج العشق»، «خداع البصر»، «عصفور خايف يطير»، «النار والزيتون»، «بيت المصراوي»، «حاصل الضرب والقسمة»، «ممنوع الانتظار»، وآخرها العرض الغنائي الاستعراضي «قمر الغجر» على مسرح البالون، والذي كان بمثابة وداع فني لجمهوره.

الناقد الموسوعي
لكن «دوارة لم يكن مخرجًا فحسب،  لقد كان أيضًا ناقدًا من طراز نادر،  كتب أكثر من ألف مقال ودراسة نقدية، متابعًا كل صغيرة وكبيرة على الساحة المسرحية، محللًا ومقيّمًا ومشجعًا ومنتقدًا، لكن دائمًا من موقع الحب العميق للفن وحرصه على تطوره.

أصدر «دوارة» أكثر من خمسة وثلاثين كتابًا، تناول فيها أعلام المسرح المصري والعربي، موثقًا سيرهم ومسيرتهم الفنية بدقة الباحث وشغف العاشق، كتب عن كرم مطاوع، سميحة أيوب، حسين رياض، عبد الله غيث، وغيرهم من الرواد، محافظًا على ذاكرتهم من الاندثار، ومقدمًا للأجيال الجديدة مرجعًا لا غنى عنه.

موسوعات خالدة
أما الإنجاز الأكبر  فكان موسوعته المتفردة «موسوعة المسرح المصري المصورة»، التي تُعد كنزًا توثيقيًا لا يقدر بثمن، تجمع بين النص والصورة والتحليل، وتقدم بانوراما شاملة للمسرح المصري منذ نشأته.

وأعد وثائق موسوعة «سيدات المسرح المصري»، وهو مشروع طموح يضم أسماء ألف وخمسمائة سيدة مسرح من بدايات المسرح المصري الحديث عام 1870م، مع توثيق السيرة الذاتية والمسيرة المسرحية لمئة وخمسين منهن، هذا المؤلف الضخم كان اعترافًا متأخرًا بدور المرأة في صناعة المسرح المصري، وإنصافًا تاريخيًا طال انتظاره.

ومن مؤلفاته«الموسم المسرحي 2008- 2011»، دراسة ومراجعة للمؤرخ المسرحي الدكتور عمرو دوارة، ضمن سلسلة الرصد التوثيقي للحركة المسرحية من عام 1952م، وقدم في الفترة الأخيرة كتاب «المهرجانات المسرحية العربية بين الواقع والطموحات»، الذي يعكس رؤيته الشاملة للحركة المسرحية العربية وتحدياتها.

رائد المبادرات المسرحية
لم يكتفِ «دوارة» بالتوثيق والنقد والإخراج، بل كان أيضًا صاحب مبادرات مهمة، أسس عدة فرق مسرحية، ودعا إلى ضرورة الاحتفال بذكرى مرور مئة وخمسين عامًا على تأسيس المسرح المصري الحديث بفضل ريادة يعقوب صنوع عام 1870م، وهي الدعوة التي تبنتها وزارة الثقافة لاحقًا، تأكيدًا على أهمية رؤيته وثقل كلمته.

الوداع الأخير
اليوم، وقد غادر عمرو دوارة خشبة الحياة بعد صراع مع المرض، يترك المسرح المصري يتيمًا، ويترك ثغرة يصعب ملؤها،  فقد كان أكثر من مجرد فنان أو ناقد أو مؤرخ، كان مشروعًا ثقافيًا متكاملًا، وضميرًا حيًا للمسرح المصري، وحارسًا أمينًا على ذاكرته وتاريخه.

رحل حارس الذاكرة، لكنه ترك وراءه ذاكرة لن تموت، موثقة في آلاف الصفحات وعشرات الموسوعات ومئات العروض،  رحل «جبرتي المسرح المصري»، لكن سجلّه الضخم سيظل مرجعًا للباحثين والدارسين والعاشقين لهذا الفن النبيل.

مع رحيل الدكتور عمرو دوارة، يفقد المسرح المصري أحد أهم أعمدته، لكنه يكسب في المقابل إرثًا خالدًا سيضيء طريق الأجيال القادمة، ويبقى شاهدًا على عصر كامل من الإبداع والعطاء.

رحمك الله يا حارس الذاكرة، فقد أديت الأمانة وبلغت الرسالة، وسيظل اسمك منقوشًا في سجل الخالدين من عشاق المسرح المصري.

الاكثر قراءة