انطلقت المياه نحو السودان أغرقت قرى ومدنا بأكملها، هدمت بيوتا وأحياء، وهددت سد الروصيرص فى السودان أيضا، ثم واصلت المياه مسيرتها نحو مصر، وكان المتوقع أن يتكرر فى مصر وربما بصورة أكثر عنفا وأشد حدة، ما جرى فى السودان الشقيق، غير أن المياه وصلت وأمكن لمصر أن تستوعب تلك الكميات الضخمة، وكأننا كنا نعرف ونتوقع، لذا كانت كل البدائل والخطط جاهزة.
أستوعب السد العالى معظم كميات المياه التى وصلت، وهكذا فإن السد الذى بنى سنة 1964، أى منذ أكثر من ستين عاما، كان فى تخطيطه وإنشائه، أن يستوعب هذه الكمية الهائلة من المياه.
غير أن مصر بعد بناء السد العالى، لم تتوقف عن الإنجاز فى مجال المشروعات المائية، وتحسبا لاحتمال أن تأتى فى إحدى السنوات كميات أكبر من المياه، لا يستوعبها السد كاملة، تم تأسيس مفيض توشكى فى نهاية التسعينيات، وصار المفيض جاهزا، خاصة بعد أن وجه الرئيس السيسى منذ سنة 2017 بالعمل على توسعته وتجهيزه لاستقبال المياه، وكأنها كانت نبوءة وبشارة بفيض المياه القادم إلينا.
وفى السنوات الأخيرة قدم الرئيس السيسى مبادرة ضخمة، عالية التكلفة تقوم على تبطين الترع فى أنحاء مصر، بحيث تكون قادرة على استيعاب كميات أكبر من المياه، حتى لا تتسرب المياه من الترع فتؤثر على جودة الأراضى الزراعية من ناحية ويمكن أن تصيب المبانى ببعض الأخطار فى القرى والمدن المصرية.
ليس هذا فقط، بل اتجهت مصر إلى اقتحام الصحراء واستصلاح ملايين الأفدنة ونستفيد فى ذلك من مياه النيل، وفى الأسبوع الماضى وصلت مياه النيل حتى الوادى الجديد، عند واحة باريس.
مرت الأزمة بهدوء، ولم تقع خسائر، إلا فى محافظتى المنوفية والبحيرة وبعض مناطق فى أسيوط، لكن هذه الأضرار وقعت فى أراضى «طرح النهر» وهى أراض ليس مسموحا من وزارة الزراعة ولا من وزارة الرى، فضلا عن كافة الجهات الرسمية، بالبناء عليها وإقامة حياة سكنية، أو استزراعها، لأنها معرضة للمخاطر فى أى لحظة، والذى حدث أن بعض المواطنين ذهبوا وأقاموا بيوتا هناك، فى غفلة من مسئولى المحليات ومن ثم لم يكن مقبولا تلك الأحاديث فى السوشيال ميديا عن «كوارث» نحن بإزاء أناس خالقوا القوانين، ورغم هذا، فإن الجهات الرسمية مدت لهم يد العون والمساعدة، هذا حقهم كمواطنين على الدولة.
الخطوات والمشاريع التى قامت بها الدولة فى مراحل مختلفة، تستحق التوقف عندها، ذلك أن كل خطوة أو مشروع أقدمت عليه الدولة، تحسبا لخطر قادم، كانت الاعتراضات تبرز، آخرها حين قرر الرئيس السيسى الدخول فى مشروع تبطين الترع والاتجاه نحو الصحراء وتأسيس دلتا جديدة، ذهب المغرضون إلى أن أولويات الإنفاق يجب أن تبتعد عن هذه المشاريع وأنها أموال تهدر وتلقى فى الأرض بلا عائد مؤكد وبلا مبرر ودون ضرورة.. وأن الفلاح المصرى منذ آلاف السنين يتعامل مع الترع بلا تبطين.
وراح بعض الخبراء «المزعومين» فى مجال الرى ومجال الاقتصاد، يسفهون من هذه الأفكار وتلك الخطوات، لم تكن الاعتراضات جديدة، ظهرت مثلها أيام بناء السد العالى، واعتبره البعض كارثة على مصر، حتى إن مرشد جماعة حسن البنا، أيام الرئيس السادات عمر التلمسانى، طرح دعوة لهدم السد العالى.. دون تفرقة بين المكيدة والخصومة السياسية للرئيس عبدالناصر وإيذاء الشعب المصرى وتدمير مشروع ضخم، اعتبرته الأمم المتحدة أهم مشروع مائى بنى فى القرن العشرين، فضلا عن أنه يرتبط بحياة عشرات الملايين ارتباطا مباشراً.
وهناك مقولة يرددها بعض الشعبويين، مفادها «احيني النهاردة وموتنى بكرة»، وقد يكون مفهوما أن يردد بعض المحبطين، أو أولئك الذين يفتقدون النظرية العلمية والتخطيط للمستقبل ذلك المثل الشعبى، إنهم أنصار ثقافة الحياة يوما بيوم، أو الحياة بالقطاعى، ما يعنيهم هو انقضاء اليوم، دون نظر إلى الغد وماذا يكمن أن يحمل فى طياته لنا.
تكونت تلك الثقافة لدى قطاعات من المواطنين عبر قرون ممتدة من حكم المماليك والعثمانين، حيث جرى تجميد البلاد، لقرون لم يتم حفر ترعة واحدة فى مصر ولا بنى جسر واحد على النيل، حياة يوم بيوم، الأيام متشابهة ومتكررة، لا جديد فيها ولا تحسين يدخل عليها فى أى جانب، وقتها لم تكن الدولة ملزمة بأى خدمة تجاه المواطن تقدمها له، ولا لديها اهتمام كبير بقضايا الأمن القومى للبلاد، وهكذا صار المعيار «احيني النهاردة وموتنى بكرة» .. تلك الثقافة خلف رفض البعض لأى مشروع قومى تشرع فيه الدولة.. ويمكن أن نرصد ذلك الرفض لدى البعض منذ أن وافق الوالى محمد سعيد على حفر قناة السويس، مرورا ببناء خزان أسوان مطلع القرن العشرين، ثم السد العالى وحتى مشروع ازدواج قناة السويس سنة 2014، وبناء مدن جديدة.
وقد يكون مفهوما شيوع تلك الثقافة بين فئات من عموم المواطنين لكن أن تتبناها قطاعات من النخب السياسية والثقافية، هنا يكون التساؤل.. لماذا؟
بالتأكيد هناك المكيدة السياسية، والانتقام من التاريخ ومن بعض رموزه، وقياداته، وهناك كذلك كراهية مؤسسات الدولة وما تقوم به، بل وكراهية وجود الدولة ذاته لأسباب أيديولوجية أو مصالح ذاتية وربما الجرى وراء بعض الأهواء والمصالح الأجنبية.
ولا ينكر أحد ولا يجادل فى أن أول واجبات الدولة تجاه المواطن، هو أن تؤمن له حياته اليومية، من طعام وشراب ومسكن ودواء، وتحقيق الحياة الكريمة وفق تعبير الرئيس السيسى... ولا ينكر منصف أن الدولة فى هذه المرحلة قطعت شوطا كبيرا جدا وغير مسبوق فى هذا الجانب، اختفت من حياتنا طوابير الحصول على رغيف العيش من الأفران والمخابز وكذا طوابير المواصلات العامة والبحث عن أنبوبة بوتاجاز وهكذا.. فى سنوات الثمانينيات وما بعدها كانت حياتنا سلسلة من الطوابير، الآن اختفت تلك الطوابير بالكامل، لم تعد هناك أزمة ولا مشقة فى الحصول على رغيف العيش ولا فى استعمال المواصلات العامة، لا يعنى هذا أننا بلغنا غاية المراد، ما تزال هناك أمور وقضايا عديدة تعمل عليها الجهات الرسمية.
ورغم هذا النجاح فإن دور الدولة يتجاوز أو يجب أن يتجاوز توفير المطالب الآنية واليومية للمواطن، بمحاولة تأمين المستقبل قدر الإمكان، وكذلك تأمين الوطن بأكمله.
وهذا يعنى أن الدولة التى لا تقيم مشروعات قومية، ولا تتعامل بجدية مع المستقبل، تصبح مجرد دولة مؤقتة، أو تنسحب من أهم وأعظم مهامها، لنقل تستقيل الدولة جزئيا، وهذا يكون بداية التراجع لا قدر الله.
حين شرعت مصر فى حفر قناة السويس منتصف القرن التاسع عشر، كان الكل يدرك أن عوائد هذا المشروع قد لا تتحقق للجيل القائم عليه، وحين اتجهنا لبناء السد العالى، كان المخطط أن يقوم ذلك المشروع بدوره لمدة ثلاثة قرون متتالية، بعدها يمكن تجديده بالكامل.. صلاحية المشروع من ناحية البناء والمعمار 300 سنة متواصلة.
المشروع الضخم الذى بدأ فى مصر منذ سنة 2014 ببناء جسور على النيل، وتوسعة الترع وتبطينها وشق ترع جديدة، تحمل المياه إلى مناطق بالصحراء، بما يفتح الباب لبناء مدن جديدة، بالفعل تم بناء أكثر من عشرين مدينة.
هذه المشروعات للأجيال القادمة، وكان من السهل على الحكومة وعلى الدولة أن توجه الجهد لمطالب الحياة اليومية فقط، ربما كان ذلك يجنبها النقد والهجوم، وبذاءات السيوشيال ميديا، والخصوم السياسيين الذين يترصدون للدولة، يريدون خلق حالة من الفوضى تتيح لهم الطفو معها على سطح الأحداث، كما حدث من قبل فى وقت من الأوقات كان أحد المسئولين الكبار، إذا عرضت عليه مشكلة كبرى الاقتراب منها قد يثير هواة الزوابع، كان يقول لمعاونيه.. اتركوها لمن يجيئون بعدنا، وهكذا انتهى به الحال بأن ترك كل الأمور المهمة والكبيرة، اكتفى فقط بتسيير الأعمال يوما بيوم، دون أفق نحو المستقبل، فى النهاية انفجرت كل الأمور، وتبين أنه صار بعيدا عن ملفات كثيرة وحاول فى اللحظات الأخيرة تدارك بعض ذلك، لكن كان الوقت قد فات وخرج من المشهد.
تعرضت الدولة المصرية لانتقادات وبذاءات شتى خلال السنوات العشر الأخيرة معظمها تعلق بالمشروعات القومية التى قامت وتقوم بها الدولة، وإصرار الرئيس على إنجازها، ومن حسن الحظ أن السنوات الأخيرة أكدت جدوى وأهمية تلك المشروعات الحيوية للأمن القومى وحماية الإنسان، اتجهت الدولة إلى تنويع مصادر السلاح للجيش المصرى والتدريب المنظم والمناورات المشتركة مع عدد كبير من جيوش الدول الصديقة والشقيقة، وتعرضت الدولة للانتقاد والهجوم، طبعا كانت هناك مخاوف وانتقادات إسرائيلية وذلك مفهوم لتاريخ الحروب بيننا، لكن دعاة الفوضى وجماعة الإرهاب قاموا بهجوم أشد وأعنف، ثم جاءت أحداث المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023، لتؤكد صحة الاتجاه الذى اتخذته الدولة، ذلك أن مصر لابد لها دائما من جيش وطنى وقوى، لديه أحدث تسليح وتدريب، يكون مستعدا لمواجهة أى خطر أو تحدٍ والأخطار حولنا كثيرة.
وللمرة المائة وجود جيش نظامى وطنى، قوى هو أداة ردع يمنع أى مغامر أو أحمق من إساءة التقدير أوتصور الضعف بنا فيرتكب حماقة، على غرار الحماقات الكثيرة فى المنطقة وحول العالم.. يعلم الله ماذا كان يمكن أن يحدث لنا ونتعرض له، منذ السابع من أكتوبر، لو لم يكن لدينا جيش قوى.
واتجهت الدولة إلى مشروعات تتعلق بمجرى ومياه النيل والترع فى أنحاء مصر، وها هى أحداث الأسبوع الماضى، تؤكد بعد نظر الدولة فيما قامت به، وأنها تؤدى واجبا وطنيا يستحق الدعم والمساندة.
ولابد من التوقف عند الوعى المصرى العام، صحيح أن هناك جماعات تنتقد أى خطوة تقدم عليها الدولة وجماعات يهمها الفوضى والهدم، لكن الوعى الجمعى المصرى ساند الدولة دائما ودعم خطواتها، ولولا ذلك لما بنيت تلك المشروعات واستمرت، وهناك مشروعات لا تزال قيد التنفيذ.
هل آن الأوان لمن احترفوا المزايدة على الدولة أن يراجعوا أنفسهم وأفكارهم وهل لدينا الشجاعة لنواجه الأفكار التقليدية التى نتجت فى عصور مضت، وبقاؤها يمكن أن يكون خطرا على وعينا، مثل «احيني النهار ده وموتنى بكرة»، نحن بحاجة إلى جهد كبير لمواجهة تلك الأفكار، وشرح ما تقوم به الدولة، ليست الدولة مقاول تراحيل والمواطنون ليسوا عمال تراحيل، يعملون ويأكلون فقط، الدولة أكبر من ذلك والمواطن أعز وأجل من تلك النظرة البدائية.
فيضان النيل الأسبوع الماضى، أحدث درس يؤكد جدية الدولة المصرية واهتمامها بالمستقبل، إلى جوار العمل على الحاضر.