منذ أن بدأ الإنسان يدوّن حكاياته على جدران الكهوف، مرورًا بالملاحم الكبرى مثل جلجامش والإلياذة، وصولًا إلى الرواية الحديثة، ظل الأدب وسيلة للتعبير عن الوعى الإنسانى والوجود. غير أنّ انفجار التكنولوجيا الرقمية فى العقود الأخيرة قد أحدث تحولًا جذريًا فى طرائق الإبداع الأدبي، فلم يعد النص الروائى الطويل وحده هو سيد الساحة، بل برزت أنماط جديدة أكثر تكثيفًا وسرعة مثل القصة القصيرة جدًا والومضة الأدبية. وفى ظل هذا التحول يثور التساؤل:
كيف أسهمت التكنولوجيا فى نقل الإبداع من فضاء الرواية الممتدة إلى لحظة الومضة الخاطفة؟
وهنا.. نتحدث أولاً عن الرواية وانتقالها بين الورق والشاشة؛ فعلى مدار القرون الماضية، تمثل الرواية «ديوان الإنسان الحديث»، فهى الفن القادر على استيعاب تفاصيل الحياة الاجتماعية والنفسية والسياسية، ومع دخول التكنولوجيا الرقمية، تغيّرت علاقتها بالقارئ من جوانب عدة سواء الرواية الإلكترونية، فظهرت منصات نشر رقمى جعلت النص الروائى متاحًا عبر الهواتف والأجهزة اللوحية. ولم يعد القارئ بحاجة إلى اقتناء نسخة ورقية، بل يمكنه التنقل مع روايته فى جيبه.
كذلك التفاعل البصرى والسمعى وبعض الروايات الرقمية التى أُرفقت بالصور والمقاطع الموسيقية والروابط، لتصير تجربة القراءة متعددة الحواس أيضا لا يمكن أن ننسى أو نتجاهل التجزئة الزمنية للقراءة فالقارئ لم يعد يخصص ساعات طويلة لقراءة متصلة، بل أصبح يقرأ الرواية فى مقاطع قصيرة؛ خلال المواصلات أو فترات الانتظار.
لكن رغم هذا التحول، بقيت الرواية محتفظة بعمقها، إذ تمنح للقارئ فرصة كبيرة محلقة متعددة الأبعاد للانغماس فى عوالم كاملة لا يمكن للأشكال القصيرة أن تعوضها.
ومن هنا جاء ميلاد جديد للأشكال المكثفة؛ ولم تكتفِ التكنولوجيا بفتح أبواب النشر الرقمى للرواية، بل خلقت فضاءات جديدة لأنماط أكثر اختزالًا منها:
القصة القصيرة جدًا كنص أدبى لا يتجاوز فقرة أو سطرين، لكنه يترك أثرًا عميقًا عبر المفارقة والدهشة، فالومضة الأدبية شكل إبداعى يقوم على جملة أو عبارتين، تلمع كشرارة برق وتغلق النص على انطباع حاد. و«الهايكو» المعاصر وهو تجديد للشكل اليابانى القديم الذى يقوم على التكثيف والتقاط اللحظة العابرة، وقد وجد صدى واسعًا عبر وسائل التواصل؛ تلبية لحاجة عصر السرعة، وبات القارئ ينجذب إلى هذه الأشكال لأنها تمنحه جرعة جمالية وفكرية خاطفة فى لحظة واحدة، دون حاجة إلى زمن طويل.
ثم أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى ساحة إبداعية، فالتكنولوجيا الرقمية منحت الكاتب مساحة لم يكن يحلم بها من قبل مثلاً النشر الفورى، فلم يعد الكاتب أسيرًا لدور النشر التقليدية، والمعاناة والجرى وراء موافقة دور النشر، بل صار ينشر نصوصه فورًا على «تويتر» أو «فيسبوك» أو «إنستجرام».
نضيف إلى ذلك التلقى المباشر فالقراء يتفاعلون لحظة بلحظة مع النص، بالتعليقات والإعجابات والمشاركة، مما يحوّل النص الأدبى إلى حدث جماعى حي. وإن كانت هذه التعليقات فى معظمها قائمة على المجاملات، وعدم الحرفية والتخصص، مجرد استحسان أو رفض.
نستطيع أيضا أن نضع فى حسباننا تغيير طبيعة النصوص فالحد الأقصى للكلمات على منصات مثل «تويتر» دفع إلى تطوير أسلوب أكثر اختصارًا ودقة، حيث تُقاس قوة النص بقدرته على أن يقول الكثير بأقل عدد من الكلمات.
لقد أعادت وسائل التواصل صياغة العلاقة بين الكاتب والقارئ، فصارت أقرب إلى الحوار اللحظي؛ أكثر من كونها علاقة تقليدية من طرف واحد. أى اختلفت حالة الكتابة أو الإبداع من الامتداد إلى التكثيف بل وتحولات العقل الإبداعى حيث إن انتقال الأدب من الرواية إلى الومضة يعكس تحولات عميقة فى طريقة تفكير الإنسان، فالرواية تحتاج إلى زمن طويل للتأمل والانغماس، وهى تشبه البحر بامتداده وتياراته المتعددة. أما الومضة وتشبه الشرارة، سريعة مكثفة، تصيب القارئ بالدهشة فى لحظة.
ناهيك عن العقل الرقمى نفسه أصبح ميالًا للاختزال والتكثيف، نتيجة فيض المعلومات المتدفقة عبر الإنترنت، ومع ذلك فأنت أيها المبدع بعلاقتك مع القارئ الجديد على كل منكما أن يحدد علاقته بطريقة التعامل مع التكنولوجيا الحديثة خاصة أن العلاقة بين الرواية والومضة ليست علاقة نفي، بل علاقة تكامل الأولى تحفر عميقًا فى النفس، والثانية تلتقط ومضة المعنى فى لحظة واحدة. من سيتبع من؟ ومن سينساق للآخر؟
وبين الخسارة والمكسب فقد أعادت التكنولوجيا تشكيل الأدب من جديد من خلال جوانب إيجابية وسلبية.. تعال عزيزى القارئ أن نقدرها معًا من خلال تقييم الخسائر يمكننا القول بضعف الصبر على القراءة المطولة. وهيمنة الثقافة الاستهلاكية التى تُفضّل السرعة على العمق. وخطر التشتت وسط الكم الهائل من النصوص السطحية المنشورة يوميًا علاوة على ركاكتها وضياع اللغة بين اللغات المختلفة والفرانكوآراب. أما المكاسب ديمقراطية النشر؛ حيث أصبح كل كاتب قادرًا على إيصال صوته مباشرة. وابتكار أشكال جديدة مثل «الرواية التفاعلية» و«الومضة الشعرية»، كذلك تحفيز اللغة على التكثيف والدقة والاقتصاد فى التعبير.
بهذا المعنى، لم تُلغِ التكنولوجيا الإبداع الروائي، لكنها دفعت الأدب إلى إعادة ابتكار نفسه بما يلائم إيقاع العصر.
إن تأثير التكنولوجيا على الإبداع لا يمكن اختزاله فى حكم قاطع بالربح أو الخسارة، بل هو صيرورة تحول دائم. لقد جعلت التكنولوجيا من الأدب فضاءً متنوعًا، حيث تتجاور الرواية المطوّلة التى تمثل بحر الزمن، مع الومضة الأدبية التى تمثل شرارة الدهشة.
وبين الامتداد والتكثيف، يظل الأدب شاهدًا على قدرة الإنسان على التكيّف، وعلى نزوعه الدائم للبحث عن أشكال جديدة للتعبير عن ذاته.
إن ما تغيّر هو الوسيط والزمن، أما جوهر الإبداع الذى يكمن فى الدهشة والمعنى فإنه لا يزال حيًّا، يعبر من الورق إلى الشاشة، ومن الرواية إلى الومضة، لتظل الكلمة أفقًا مفتوحًا فى رحلة الإنسان مع الوجود.