رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

وطن فى شاعر


13-9-2025 | 11:51

.

طباعة
بقلم: د . رجاء على

محمود درويش صوت عربى أصيل حمل فى قلبه قضية أمة بأكملها فأصبح نغماً ممتداً عبر الأجيال يحمل أنينه ملامح روح وهبت نفسها لقضية بلادها وعاشت تجربة إنسانية شكلت عالمها الشعرى الزاخر والغنى بنبض الوجع الممتد من المهد حتى نهاية الرحلة، وهذا ما تجلى بوضوح فى كتاب (محمود درويش وطن فى شاعر ) للدكتورة عزة بدر.

 

اللافت للنظر منذ الوهلة الأولى أن ثمة دلالات وإيحاءات كثيرة يحملها ذلك العنوان، تثير الدهشة وتدعو إلى التأمل، لأن التركيب المجازي المعكوس لجملة العنوان بوصفه عتبة أولى تمنح إيحاءً شمولياً بأن الوطن كله والقضية الفلسطينية التي حاربها جميع من لا ضمير لهم، وشرد أهلها وهجروا من ديارهم قد وجد لنفسه مكاناً أخيراً ومستقراً بداخل شاعر العروبة محمود درويش عند تأمل الكتاب نلاحظ أنه يسعى إلى قراءة رؤية محمود درويش وتجربته الشعرية من جوانب مختلفة، وبتعبير أدق إلقاء ضوء شمولي على تلك التجربة الفريدة ومعرفة طبيعة خطابه الإبداعي ومدى تطوره وارتباطه على مختلف المستويات الشعرية والإنسانية.

فى مقدمة الكتاب نجد ربط التاريخ الشاعر بعنصر المكان ودلالاته المتعددة فليس المقصود بعنصر المكان الأماكن التى عاش فيها درويش فقط ولكن الكتاب نجح لحد كبير فى دراسة ذلك العنصر وكيفية توظيفه فى شعر الشاعر بوصفه عاملا مهما من العوامل التى شكلت تجربته الشعرية.

فالمكان محور من محاور الكتاب ليس بوصفه مكاناً عاش فيه الشاعر، فأصبح جزءًا من حياته فحسب، وإنما امتدت عين النقد لترصد تأثيره في تجربة درويش الشعرية ؛ وكيف كان حاضراً ومقيماً في شعر درويش و كيف أثرت انتقالاته المتعددة التي رصدتها الدكتورة في كتابها بين مختلف المدن العربية والغربية من حيفا إلى موسكو إلى القاهرة إلى الشام في رصد حالة الاغتراب في شعره، وأثر ذلك الاغتراب والتعدد المكاني في تجربته التي حملت هم العرب جميعاً وهو القضية الفلسطينية.

إن الوشائج شديدة الاتصال بين الكتاب وموضوعاته التي لم يتم تقسيمها بتقليدية البحث المعهودة، بل إن ثمة تداعياً جميلاً وانسيابية واضحة تحسب للدكتورة في اختيارها لموضوعات كتابها وانتقالاتها البارعة.

إلى جانب التواشج والانسيابية هناك توفيق في اختيار القصائد التي قامت بالاستشهاد بها لمحمود درويش نراها وتحت عنوان موفق لاختيار العتبات الدالة والخادمة لأفكارها النقدية يختار قصيدة تحت عنوان (بيت في لسان العرب) لدرويش حينما يقول:

بلاد على أهبة الفجر

عما قليل

تنام الكواكب في لغة الشعر

عما قليل

نودع هذا الطريق الطويل

ونسأل من أين نبدأ

لقد ظل سؤال البدء هو سؤال الختام في حياة درويش، وبمشرط الجراح العارف بمقر الوجع أمسكت الناقدة بطرفي الخيط في شعر درويش حينما أوضحت فعلاً أن سؤال البدء هو سؤال الختام، ووضعت يديها على مركز الوجع في ذلك الجرح الممتد.

اللافت للنظر هو رصد حالتي الترحال بين مختلف المدن والعواصم مع الولاء لها ولأقربها لقلبه حينما رحل إلى مصر أرض الكنانة، حاملاً روحه على كفه وشعره ووطنه في وجدانه حتى وصف نفسه بابن النيل فقال :

في مصر لا تتشابه الساعات

كل دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل

كنت هناك

كان الكائن البشري يبتكر الإله

في وصف درويش لمصر ترصد الناقدة عطشه للوطن الذي جعله يبحث عن الطريق في رحلة كفاحه بين مختلف المدن، درويش المتعب بالقصيدة والوطن والكفاح وبالحب سمى نفسه بابن النيل

وكان من البديهي أن ترصد الناقدة في ظل محاولتها الإمساك بخيطي البداية والنهاية في حياة درويش أن تتحدث عن طفولته في ظل دولة الاحتلال وما حدث له منذ ألقى قصيدته الأولى حينما قال :

يا صديقي بوسعك أن تصنع ألعاباً

ولكني لا أستطيع

أنا لا أملك ما تملكه

لك بيت وليس لي بيت

فأنا لاجئ

لك أعياد وأفراح

وأنا بلا عيد

أو فرح

ولماذا لا نلعب معاً

القصيدة تتحدث عن نفسها وتوضح كما أشارت الناقدة إلى بداية الوجع والشعور بالتفرقة العنصرية الموجعة التي شكلت جسراً أدبياً لذلك الوجع الممتد.

لم يقتصر الأمر في رصد الناقدة لتجربة درويش في كتابها على قصائده الشعرية وما تحمله من أبعاد مختلفة، بل تصريحاته أيضا وما كتب عنه وما قاله بنفسه عن نفسه وذاته ورحلته.

تناول الكتاب أيضاً شخصية درويش الشاعر والسياسي وكيف أثر كل منهما في الآخر، فلم يكن درويش شاعراً فقط بل كان صاحب دور بارز في منظمة التحرير الفلسطينية وشديد القرب من الرئيس ياسر عرفات فأوضحت الناقدة كيف جاءت نصوصه السياسية انعكاساً لمواقفه وشخصيته المدافعة عن القضية الفلسطينية في إبداعاته الشعرية والنثرية وتصريحاته الجريئة التي استطاعت أن تعكس حياة حافلة ورحلة طويلة، فأصبح وطناً في شاعر.