موقف القاهرة بدا واضحًا بعد أن رفضت بشكل قاطع مساعى استخدام المعبر للتهجير، معتبرة أن ذلك يتجاوز الخطوط الحمراء الوطنية والقومية، وهو ما أكده وزير الخارجية بدر عبد العاطى بأن معبر رفح مخصص لإدخال المساعدات الإنسانية والعالقين فقط، مشددًا على أن مصر لن تسمح بإعادة إنتاج مأساة النكبة أو تهديد أمنها القومى، كما حظى الموقف المصرى بدعم عربى واسع، حيث أعلنت عدة دول عربية رفضها التام لأى محاولة للتهجير، واعتبرت ذلك اعتداء على الحقوق الفلسطينية والسيادة الوطنية للدول.
ورأى خبراء أن الاحتلال يسعى إلى إعادة إحياء خطط قديمة لتفريغ قطاع غزة بالقوة، عبر القصف والحصار والضغط العسكري، فى وقت تواجهه القاهرة عبر ثلاثة مسارات حاسمة: الأول هو موقف حازم يرفض أى تهجير قسرى باعتباره مساسًا بالقضية الفلسطينية والأمن القومى المصرى، والثانى من خلال بناء تحالفات إقليمية ودولية لقطع الطريق على أى محاولات لفرض التهجير، إلى جانب استمرار تعزيز الإجراءات الأمنية على معبر رفح لمنع أى خروج قسرى أو اختراق محتمل، وأكد الخبراء أن هذا التماسك المصرى والعربى يشكل جدار صد أمام أى مخططات إسرائيلية لتغيير ديمغرافى قسرى فى قطاع غزة.
السفير محمد حجازى، مساعد وزير الخارجية الأسبق، قال إن مصر أمام توجه يمينى متطرف نحو التهجير القسرى للفلسطينيين، وبالتالى، فإن اليمين الإسرائيلى يرفض قبول المقترحات المصرية المستندة على مقترحات المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، التى قبلتها تل أبيب وقامت حركة حماس بقبولها فى تحول مفاجئ من أجل وقف إطلاق النار، ومن ثم يبدو أن مخطط التهجير القسرى بدأ يأخذ مساحات وأبعادًا خطيرة.
وأضاف أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى لقائه مع نتنياهو بالبيت الأبيض منذ أشهر قليلة، أعطاه الضوء الأخضر لدفع سكان قطاع غزة نحو الجنوب باتجاه رفح، وتجميع الفلسطينيين فى مناطق عازلة، وبالفعل ظهر الدفع بالفلسطينيين نحو الحدود المصرية بصورة واضحة، ولكن وجد ترامب وصديقه ثبات الموقف المصرى وصلابته ضد ملف التهجير القسرى منذ اليوم الأول للحرب، وبالتالى - بدأوا يفكرون فى عملية سداد مبالغ نقدية للإعاشة والسكن لكل من يرغب فى التهجير، فى ظل الظروف شديدة القسوة التى يعيشها الفلسطينيون تحت القصف العشوائى من آليات الاحتلال العسكرية، فضلًاً عن عمليات التجويع، ومن ثم، فإنهم يعتقدون أن الفلسطينى إذا قُدمت له مساندة مادية ودعمًا ماليًا، مع تدبير معيشية وأماكن سكنية لهم فى دول أخرى، يمكن أن يؤدى إلى تهجير الفلسطينيين.
وأشار إلى أن رفض إسرائيل مقترحات ويتكوف، أمر بدا صعبًا، خاصة بعد قبول حركة حماس، كما أن المستوى العسكرى فى إسرائيل يبين أن هناك مخاطر جمة محيطة بعملية التوغل، بما فيها عملية فرض حكم عسكرى على قطاع غزة، وما يستتبعه من استدعاء ضخم لجنود الاحتياطى وتكلفة مالية كبيرة وإدارة يومية، وأصبح واضحًا رفض القيادة العسكرية لهذا المخطط، ولكن المستوى السياسى اليمينى العنصرى المتطرف يعتقد أن لديه أملاً فى تحقيق فكره.
الدكتور طارق فهمى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أوضح أن هناك تواطؤًا إسرائيليًا أمريكيًا فيما يحدث بالقطاع، مشددًا على أن إعادة إعمار القطاع يتطلب تنسيقًا عربيًا مشتركًا، وهناك اتصالات مستمرة بين جميع الأطراف المعنية، وعلى رأسهم مصر، بشأن وقف إطلاق النار فى غزة، وإطلاق سراح الأسرى.
وأضاف أن تصريحات رئيس وزراء الاحتلال، كشفت عن جوانب مهمة تتعلق بواقع القطاع، مشيرًا إلى أن ما قاله بنيامين نتنياهو بشأن فتح معبر رفح أوضح أن الجانب الإسرائيلى هو من يغلق المعبر من ناحيته، موضحًا أن الاحتلال لا يمتلك خطة واضحة لإدارة القطاع بعد الحرب، مؤكدًا أن الحل الأمثل يتمثل فى وقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات، مشيرًا إلى إنه من الواضح أن إسرائيل تواجه تحديات كبيرة داخليًا، حيث توجد مشاكل عسكرية، وحالة تأزم فى الداخل، كما أن التعيينات الأخيرة فى الجيش الإسرائيلى والتغييرات القيادية لا تعكس أى قوة عسكرية حقيقية، بل هى محاولة لتحقيق مجد مؤقت على حساب مصير القطاع الفلسطينى.
ونوه أستاذ العلوم السياسية إلى أن حماس لم يعد لديها خيارات كثيرة، مشيرًا إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة ستكرس لمفهوم الدولة الفلسطينية، وأن التصريحات الصادرة عن نتنياهو أو أعضاء حكومته تهدف إلى التشويش، لافتًا إلى أن العلاقات المصرية بدول مثل السعودية، والإمارات، والأردن، وكذلك الجزائر، تسير فى إطار جيد، حيث تهدف العلاقات إلى تعزيز التعاون المشترك، بما فى ذلك مناقشة إعادة إعمار غزة، مشددًا على أن إعادة الإعمار يتطلب تنسيقًا عربيًا مشتركًا من أجل محاولة توفير أفضل سبل العيش للفلسطينيين، مؤكدًا أن إسرائيل لن تتمكن من حسم ملف غزة كما تتصور.
وبحسب الدكتور إسماعيل تركى، أستاذ العلوم السياسية، فإن الجهود المصرية المبذولة طوال الوقت كان من أهم أهدافها مواجهة الرؤية الإسرائيلية الكاذبة والمزيفة للحقائق، مشيرًا إلى أن سلطات تل أبيب مستمرة فى تصعيدها العسكرى بالقطاع، متجاهلة كافة المقترحات الدولية، بما فى ذلك المبادرة الأمريكية، موضحًا أن تصريحات الدكتور بدر عبدالعاطى خلال مؤتمره مع المفوض العام للأونروا ألقت مزيدًا من الضوء على حقيقة الأوضاع، مؤكدًا أن ما وصل إليه قطاع غزة هو مجاعة حقيقية.
وقال إن إسرائيل تتجاهل الصفقة الموجودة على الطاولة لوقف إطلاق النار، والتى كانت مبنية أساسًا على مبادرة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، مشددًا على أن هذا التجاهل غير مقبول، فى الوقت الذى تواصل فيه التصعيد وقتل عشرات المدنيين يوميًا، محذرًا من أن هذا التصعيد سيصل بنا إلى إبادة جماعية لعشرات الآلاف من الفلسطينيين.
حول مخططات التهجير، أكد «تركى» أن الولايات المتحدة منحت إسرائيل الوقت الكافى لتنفيذ عمليات التهجير، وهو ما تجد فيه إسرائيل «صعوبة كبيرة» بسبب تمسك الشعب الفلسطينى بأرضه، والموقف المصرى الرافض لعملية التهجير قسرًا أو طوعًا، مؤقت أو دائم، موضحاً أن هذا الأمر أصبح بمثابة خط أحمر لمصر والأردن ولكافة الدول العربية، وهو ما شدد عليه وزير الخارجية.
وفيما يتعلق بملف المحتجزين، اعتبر «تركى» أن أهمية هذه الورقة قد تلاشت بالنسبة للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التى تخلت جملة وتفصيلًاً عن الأسرى، معتبرة أنهم قد يكونون ثمنًا عادلًا لتمرير الخطط المتطرفة للسيطرة على قطاع غزة، وأضاف أن نتنياهو وحكومته يستطيعان إعادة المحتجزين بمجرد الموافقة على صفقة، لكنهما يماطلان ويناوران ويريدان ذريعة تستمر من خلالها إسرائيل فى العدوان، وذلك للهروب من مشاكلهم الداخلية وتحقيق أهدافهم السياسية، واصفًا نتنياهو بأنه دخل التاريخ من الباب الضيق، كمجرم الحرب، وعدو الإنسانية.
واتفق معه فى الرأى، الدكتور أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولى، الذى انتقد التصريحات الإسرائيلية بشأن تهجير الفلسطينيين، كونها تمثل خرقًا جسيمًا للقانون الدولى الإنسانى، ولا سيما اتفاقيات جنيف، التى تحظر بشكل قاطع التهجير القسرى للمدنيين، موضحًا أن سياسة التهجير، سواء تحت غطاء «طوعى» أو بالإكراه، تعد وفق نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، جريمة حرب تستوجب المساءلة.
ولفت إلى البيان المصرى الذى استهجن تصريحات نتنياهو حول التهجير، مؤكدًا أن القاهرة أكدت موقفها الراسخ من تلك المخططات، ورفضها أن تكون معبرًا أو شريكًا فى أى عملية ترحيل للفلسطينيين من أراضيهم، فى توافق تام مع المبادئ الدولية التى تكفل حق الشعب الفلسطينى فى العودة وتقرير المصير، موضحًا أن تصريحات رئيس حكومة الاحتلال تعكس استمرار سياسة إسرائيل فى عرقلة الجهود الإنسانية، فى تحدٍ لقرارات محكمة العدل الدولية التى شددت فى يناير 2024، على رفض هذه الممارسات، لافتا إلى أن شهود عيان، بينهم مسؤولون دوليون وزعماء عالميون، زاروا معبر رفح، وأكدوا أن إسرائيل هى الجهة المسؤولة عن فرض الإغلاق على الجانب الفلسطينى من المعبر، وهو ما فاقم الأزمة الإنسانية فى القطاع.
واعتبر «سلامة» أن تصريحات نتنياهو حول التهجير، لا تكشف فقط عن غياب النوايا الحسنة تجاه أى تسوية أو وقف دائم لإطلاق النار، بل تقوض أيضًا فرص حل الدولتين، كما أنها تمثل محاولة مكشوفة لتغيير التركيبة الديموغرافية فى غزة بما يخالف قواعد القانون الدولي، مشددًا على أن مصر جددت رفضها المطلق لمثل هذه المخططات، داعيًا المجتمع الدولى إلى تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية فى مواجهة هذه الانتهاكات الصارخة ومحاسبة مرتكبيها.
أما السفير ياسر عثمان، سفير مصر السابق بفلسطين، فأشار إلى أن التصريحات المنسوبة إلى نتنياهو بشأن التهجير عبر معبر رفح تكشف بوضوح الهدف الأساسى من وراء الحرب الإسرائيلية، والمتمثل فى دفع سكان القطاع نحو مصر وتفريغ أرضه تمهيدًا للاستيلاء عليها، فى إطار مساعٍ لتصفية القضية الفلسطينية وتصدير الأزمة برمتها إلى القاهرة.
وقال: إن هذه التصريحات تقوم على سلسلة من الأكاذيب والادعاءات الباطلة، مؤكدًا أن إسرائيل هى المسؤولة الأولى عن الكارثة الجارية، إذ تلجأ إلى القتل والمجازر والتجويع والترويع لإجبار سكان غزة على النزوح، وهو ما يشكل جريمة حرب واضحة وتطهيرًا عرقيًا ممنهجًا ضد الشعب الفلسطينى، مضيفًا أن مصر لم تدخر جهدًا فى دعم ومساندة أهل القطاع على مختلف المستويات للتخفيف من معاناتهم، لافتًا إلى الجهود المصرية المتواصلة لوقف العدوان الإسرائيلى، مشددًا على أن محاولات التشكيك فى الموقف المصرى أو السعى لتصدير الأزمة إليها محكوم عليها بالفشل، مؤكدًا أن تصريحات رئيس حكومة الاحتلال تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار الإقليميين، الأمر الذى يستوجب تحركًا دوليًا عاجلًا لوقف هذا المخطط وإفشاله.