منذ أشهر قليلة، رحلت عن عالمنا الصحفية الكبيرة سكينة السادات، شقيقة الرئيس الراحل أنور السادات، دون أن يخطر ببال أحد أن مكتبها في مجلة «المصور» كان يخفي بين أوراقه وثيقة أدبية نادرة... ظلت مخفية لما يقرب من خمسين عاماً.
فبعد وفاتها، تولت لجنة مختصة فتح المكتب وجرد محتوياته، وتم تسليم الصور إلى قسم الأرشيف، والكتب إلى المكتبة، ومضى كل شيء على نحو روتيني؛ كما تقتضي الإجراءات الرسمية.. لكن ما لم يكن بالحسبان، أن هناك كتابا لم يسجل ضمن الجرد... كتاب بدا وكأنه يتعمد الاختباء.
عثرت عليه بالمصادفة البحتة، بين ركام الأوراق، في زاوية شبه منسية، كان مجلداً فاخراً، أسود اللون، غلافه الجلدي يوحي بالهيبة والغموض، ما شد الانتباه إليه، وعنوانه المكتوب بخط يد منمق، إلى حد يصعب معه تصديق أنه كتب يدوياً، لا سيما مع احتفاظه برونقه ولونه رغم مرور ما يقرب من خمسين عاماً على وجوده في المكتب.
ما كان أغرب من الغلاف هو أن مسودة الرواية بدت كما لو كانت محفوظة في كبسولة زمنية؛ الورق، الخط، الجلد، كل شيء فيها احتفظ ببريقه الأصلي منذ مارس سنة 1977 حتى يومنا هذا.
يبدو أنني أول من فتح الرواية وقرأها، أو أن الراحلة سكينة السادات قد فتحتها يوماً، ثم أغلقتها سريعاً، دون أن تكتشف سرها، وربما ومنذ تلك اللحظة لم تفتحها مرة أخرى.
اليوم، وبعد مرور تلك السنوات الطويلة، أجد نفسي أمام المسودة الأصلية، التي كُتب جزءٌ منها باليد، والجزء الآخر بآلة كاتبة... الكلمات الناقصة أضيفت بخط يدوي باستخدام قلم جاف أسود، وبعض العبارات تم إخفاؤها بواسطة لاصق أبيض، كما لو أن مؤلف الرواية أراد محوها إلى الأبد.
2
حملت الرواية عنواناً واضحاً على غلافها: «فراعنة أكتوبر»، بيان صريح بهويتها، إذ لم تكن مهداة إلى الراحلة سكينة السادات، بل إلى شقيقها الرئيس محمد أنور السادات، كما دون بخط مختلف على الغلاف: «نسخة خاصة للسيد رئيس الجمهورية»، في إشارة واضحة إلى السادات، الذي كان يتولى منصب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، وقد حمل الغلاف أيضاً اسم مؤلفها: سعيد سالم.
في الصفحة الأولى، كتبت بخط اليد عبارة افتتاحية: «بسم الله الرحمن الرحيم»، بينما احتوت الصفحة الثانية على صورة مقتطعة من مجلة أكتوبر، الصادر عددها الأول في أكتوبر 1976. وتحت الصورة كتب:
«وفي صمت وهدوء، أخذ الرئيس السادات يعمل على إعداد قواتنا المسلحة للمعركة.. وفي صمت وهدوء أيضا، اتخذ قراره التاريخي بطرد الخبراء السوفيت من مصر، بعد أن تكشفت مؤامرة الاتحاد السوفيتي على قواتنا المسلحة.. والصورة للرئيس السادات أثناء إحدى زياراته لقواتنا المسلحة في منطقة قناة السويس، قبل أن يصدر إليها أمر القتال».
ثم جاءت صفحة الإهداء، وهي تحمل كلمات ذات طابع شعري ورسالة تقدير موجهة مباشرة إلى السادات، كتب فيها المؤلف سعيد سالم:
«إهداء إلى من دفع بيد واثقة إلى صدر منقرع.. لا لينتزع من داخله الكنز الكبير.. وإنما لينتزع منه سر الأسرار.. ليعيد إلى مصر روح مصر.. ويصدر القرار.. فيرفع رايتها عاليا.. والهامات.. إلى قلب مصر العظيم.. محمد أنور السادات... إمضاء: سعيد سالم».
3
في الصفحات الأولى من المسودة، كتبت بخط اليد نبذة عن المؤلف، كانت هي الدليل الأول الذي قادنا إلى هوية كاتب الرواية... والمثير للدهشة أن السيرة الذاتية دونت بلون أسود، بخط يدوى جميل ومتقن، يخلو من الأخطاء تماماً، وكأنه كتب حديثاً، رغم مرور ما يقرب من خمسة عقود.
وقد جاء فيها: الاسم: سعيد محمود سالم
السن: 34 عاماً .. المهنة: مهندس كيميائي بشركة الورق الأهلية – مصنع محرم بك – الإسكندرية.. السكن: شارع علي باشا ذو الفقار – مصطفى كامل – الإسكندرية
النشاط الثقافي:
أنشر قصصي القصيرة في المجلات المصرية الآتية: الثقافة، القصة، النصر، العمال، الكلمة، الصحوة... وفي المجلات والجرائد العربية الآتية: اليمامة السعودية، الرأي الأردنية، الأنباء الكويتية، الأقلام العراقية.
صدر لي في العام الماضي – أي عام 1976 – أول رواية طويلة بعنوان «جلامبو»، وقد نشرت حولها دراسات نقدية عديدة أشادت بشكلها ومضمونها في مصر وفي البلاد العربية.
صدر لي في العام الحالي – أي عام 1977 – ثاني رواية طويلة بعنوان «بوابة مورو»، وقد وصفها الأديب نجيب محفوظ بأنها «من آيات البُشرى ببعث الحياة الثقافية في مصر».
«فراعنة أكتوبر» هي آخر أعمالي الروائية الطويلة، والتي أتمنى إصدارها على نفقة الدولة.
توجد مجموعة قصصية بعنوان «حارة اليهود» معدة للطبع، ومعظم قصصها منشورة، إلا أن عقبات النشر للأعمال المتكاملة التي يواجهها كل الأدباء الشبان تحول دون إصدارها.
4
من الأمور النادرة أن تحمل الرواية مقدمة، لكن مسودة هذه الرواية تضمنت مقدمة، إلى جانب صورة شخصية بالأبيض والأسود للمؤلف، وهو ما شكل دليلا إضافيا على هويته.
فعادة ما تبدأ الروايات مباشرة في سرد الصراع والحبكة، دون تقديم أي تمهيد يمنح القارئ فرصة للتفكير أو التوقف، أو لفهم أعمق لأحداثها قبل الانغماس فيها.
يبدو أن المؤلف اختار أن يضيف هذه المقدمة تسهيلاً على الرئيس أنور السادات، الذي أُهديت إليه النسخة، ليتمكن من استيعاب جوهر الرواية ومضمونها بشكل مختصر، حتى لو لم يقرأها بالكامل.
وجاء في المقدمة: تجري أحداث هذه الرواية في ثلاثة خطوط، تتوازى أحيانا، وتلتقي أحيانا أخرى.. الخط الأول ويمثل خلود الروح المصرية بسرها العظيم من عصر كنز منقرع إلى عصر أكتوبر السادات.
الخط الثاني ويمثل الهزيمة النكراء التي مني بها الصهاينة علي أيدي أبناء مصر حين أتيحت لهم الفرصة الحقيقية لإثبات أصالة الروح المصرية، وذلك من وجهه النظر الإسرائيلية البحتة، من خلال الأحداث والحوارات التي دارت بين أعلى المستويات الرئاسية الصهيونية أثناء المعركة.
الخط الثالث ويمثل أزمة البطل الحادة، والذي يحاول مستميتا بكل كيانه بعد عودته من ميدان القتال أن يعين بروح أكتوبر العظيم داخل جبهته المدنية التي تسودها السلبيات.
ويمر الخط الأخير مروراً مركزاً على أحداث النكسة وآثارها المباشرة وغير المباشرة على تطور شخصية البطل الشاب من داخلها وخارجها.
كما تتعرض الرواية لأثر وحدة الصف العربي في نصر أكتوبر العظيم بفضل حكمة وداهية السياسى العالمي الذي نجح في انتزاع احترام العالم بأجمعه لشعب مصر بعد العبور، تأكيدا لقوله: «إنني أفضل احترام العالم ولو بغير عطف، على عطف العالم إذا كان بغير احترام».
وفى نهاية المقدمة كتب المؤلف: «لمن دواعي فخري واعتزازي أن أهدي هذه الرواية إلي الرجل الذي استلهمت من لون بشرته المصرية الصميمة شكل روايتي، ومن نفاذ نظرته الذكية الواعية فكرتها، ومن ملامح وجهه الصابرة الصامدة صبري ومثابرتي على إتمام العمل، ومن وحي قراره العالمي الخطير، بعبور القوات المصرية إلي شرق القناة، مضمون هذا العمل، ومن جسارة جنده وفدائيتهم حين اهتزت الدنيا لصيحتهم الراعدة «الله أكبر».. استلهمت روح روايتي الثالثة... فراعنة أكتوبر».. توقيع: سعيد سالم.
5
نعرف أن هناك كاتبا كبيرا اسمه سعيد سالم، إسكندراني المولد والنشأة، وبمجرد رؤية اسمه فوق المسودة التي وقعت بين يدي ربطنا بينها وبين مؤلفنا الكبير، رغم أنني لم أكن متيقنا تماما، خاصة أنني لم أقرأ من قبل أيّاً من أعماله، ولم يكن اسم الرواية مألوفاً لدي.
ربما طبعت الرواية منذ ما يقرب من خمسين عاما ونفدت طبعتها حينها، أو أنها لم تطبع من الأساس، فلم أكن متأكدا من صحة الروايتين اللتين راودتا ذهني.
كان هذا دافعا للبحث عن السيرة الذاتية للمؤلف الآن، للتأكد مما إذا كانت هذه الرواية جزءاً من أعماله الإبداعية.. وبعد بحث طويل على الإنترنت، وجدت في سيرته رواية بعنوان «عمالقة أكتوبر»، وليس هناك أي ذكر لـ»فراعنة أكتوبر».
لكن عام صدور رواية «عمالقة أكتوبر» كان 1979، وهذا ما جعلني أظن أن المسودة التي بين يدي هي نفسها الرواية الصادرة تحت هذا العنوان، خصوصاً أن المسودة موقعة بتاريخ 1977، ما يعني أن الربط طبيعي ومنطقى: فقد أرسل المؤلف مسودته إلى الرئيس السادات عام 1977، ثم صدرت الرواية بعد عامين، كما هو معتاد، ومع ذلك لا يزال الشك يساورني حول صحة هذا الظن.
الأمر الآخر الذي عزز من قناعتي بارتباط هذه المسودة بالكاتب المعروف سعيد سالم، هو أن البيانات الواردة فيها تتطابق تماماً مع ما جاء في سيرته الذاتية.. فهو سعيد سالم الإسكندراني، مؤلف روايتي «جلامبو» و»بوابة مورو»، وهما العملان المذكوران صراحة في المسودة، وقد أصبحا اليوم جزءاً من رصيد أدبي يتجاوز أربعين عملاً روائياً وقصصياً وكتاباً.
لكن لا يزال يساورني السؤال: لماذا تم تغيير اسم الرواية؟ ولماذا أرسل المؤلف هذه المسودة للرئيس أنور السادات؟ وكيف وصلت هذه النسخة إلى مكتب الصحفية الراحلة سكينة السادات؟ صحيح أنهما أشقاء.. لكن هل المؤلف أرسلها للرئيس السادات فى القصر الجمهورى ثم أعطاها لشقيقته سكينة أم قام المؤلف بإرسال الرواية للصحفية الراحلة سكينة السادات من أجل إيصالها لأخيها الرئيس؟.
6
استمر بحثي لأكثر من عشرة أيام، قرأت خلالها مسودة الرواية بتمعن، وانشغلت بمحاولة التوصل إلى الحقيقة وراءها، فأرسلت طلب صداقة للكاتب الكبير سعيد سالم عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، بعد بحث طويل عنه سعيت للحصول على رقم هاتفه من بعض المبدعين في الإسكندرية.
وبين القراءة والبحث، حاولت العثور على نسخة مطبوعة من رواية «عمالقة أكتوبر» عبر الإنترنت، بهدف مقارنتها بالمسودة التي بين يدي، لكن دون جدوى؛ لم أجد نسخة إلكترونية، ولا حتى صورة لغلاف الرواية.
لكن خيطاً جديداً قادني إلى ما يشبه اليقين، حين صادفت عبر اليوتيوب مسلسلاً إذاعياً بعنوان «العائد»، وهو مأخوذ عن رواية «عمالقة أكتوبر»، وفوجئت بأن أحداث المسلسل تطابق تماماً أحداث المسودة التي أمتلكها، والتي تحمل عنوان «فراعنة أكتوبر».
هذا الاكتشاف دفعني للبحث أكثر، فوجدت حواراً قديماً للكاتب سعيد سالم نشر عام 2014، ورد فيه جواب واضح على سؤال حول أعماله عن الحرب، حيث ذكر: «الرواية كان عنوانها «المجنون» لكن الدكتور عبد العزيز الدسوقي، رئيس سلسلة المواهب وقتها، هو من غير العنوان إلى «عمالقة أكتوبر» دون الرجوع إلي... وهي رواية واقعية تتحدث عن بطل عاد من الجبهة فخوراً بتدمير خط بارليف، وقرر أن يواصل كفاحه ضد الفساد في المصنع الذي يعمل به».
وهو توصيف دقيق ينطبق على محتوى المسودة، ما يرجح أنها النسخة الأصلية غير المنشورة أو غير المعنونة بالاسم النهائي الذي ظهرت به الرواية لاحقاً.. وهنا يبرز سؤال جديد: ما حكاية عنوان الرواية الأصلي «المجنون»؟ ولماذا قرر الدكتور عبد العزيز الدسوقي، رئيس سلسلة «المواهب» في ذلك الوقت، تغييره إلى «عمالقة أكتوبر» دون الرجوع إلى المؤلف؟ سؤال يفتح باباً جديداً لفهم مسار الرواية وتحولاتها، وربما يكشف عن أبعاد أخرى في رحلة هذا العمل من المسودة إلى النشر.
ربما باتت ملامح هذه المسودة واضحة أمامكم الآن، لكن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لنا.. فقد رأينا ضرورة الاستمرار فى البحث عن نسخة منشورة من الرواية، بهدف التحقق من مدى تطابقها مع المسودة التى عثرنا عليها، وما إذا كانت قد طرأت عليها أى تغييرات.
بدأنا بالبحث فى مكتبة مؤسسة دار الهلال، إلا أننا لم نجد نسخة متوفرة هناك، وفى اليوم التالى توجهنا إلى مكتبة نقابة الصحفيين، لكننا لم نعثر عليها أيضا.. وأخيرا قصدنا دار الكتب - أم المكتبات فى مصر- وهناك وجدنا الرواية المنشودة، تحت عنوان «عمالقة أكتوبر»، من تأليف سعيد سالم.
7
صدرت رواية «عمالقة أكتوبر» فى أكتوبر 1979 عن سلسلة «كتاب المواهب»، وهى سلسلة أدبية كانت تصدرها الهيئة العامة للفنون والآداب، وهذه الرواية هى باكورة أعمال السلسلة، كما أشار الدكتور عبد العزيز الدسوقي، رئيس تحرير السلسلة، فى تقديمه للعمل.
ويقول الدسوقى فى المقدمة: سنقصر هذه السلسلة على إبداع الشباب، بشرط أن يكون هذا الإبداع ممتازا، ويملك صاحبه موهبة مؤكدة، لا يحول بينها وبين الانتشار سوى أنه لا يزال فى أول الطريق، ولا تغامر دور النشر فى التعامل مع إبداعه.. سنقوم بهذه المغامرة، لنقدم للقارئ العربى هذه المواهب الجديدة.. ويسعدنا أن تكون الحلقة الأولى فى هذه السلسلة رواية «عمالقة أكتوبر» لقصاص سكندرى شاب، يمتلك موهبة ممتازة وطاقة فنية خصبة، ونرجو أن يلتفت إليه النقاد بصورة أكبر وأشمل، فنحن نعتقد أن هذا الشاب سيحتل فى أعوام قلائل قمة رفيعة فى مجال الفن الروائى والقصصي.
أما بشأن العنوان فيكشف الدسوقي: بقى أن أشير إلى مسالة شكلية حول هذا العمل الأول الذى نقدمه للقارئ العربى على امتداد الأرض العربية، لقد كان اسم هذه الرواية كما سماها سعيد سالم «فراعنة أكتوبر»، ومع أن سعيد سالم شاب قومى يؤمن بوحدة الأمة العربية، ومع أن العمل كله يؤكد هذا الاتجاه القومى، فقد خشيت أن تُحدث كلمة «فراعنة» هذه بعض الظلال، وقد يفسرها البعض على أنها لون من النزوع الإقليمى وخاصة فى تلك الظروف التى يحاول فيها الموصومون وضيّقو الأفق وتجار الشعارات إفساد العقل العربى الحديث. من أجل هذا غيّرت اسم الرواية وأرجو ألا يضيق القاص سعيد سالم بهذا التغيير».
أما عن محتوى الرواية، فقد جاء الإهداء فى النسخة المنشورة مختلفا عن ذلك الذى وجد فى المسودة؛ حيث أُهديت النسخة المطبوعة «إلى المصريين الشرفاء.. أن اصمدوا، فمصر لكم»، فى حين أن المسودة كانت تتضمن إهداء موجها بالكامل إلى الرئيس أنور السادات.. كذلك خلت النسخة المنشورة من المقدمة الأصلية والرسومات التى وجدت فى المسودة.
وعند مقارنة النسخة المطبوعة بالمسودة تبين وجود بعض الإضافات الطفيفة فى النص المنشور.. وفى خاتمة الرواية أشار الكاتب إلى اعتماده على عدد من المراجع فى جمع المعلومات الحربية هى كتاب «عندما سقطت السماء فوق إسرائيل» للكاتب محمد فاضل، ومجلد الهلال - أكتوبر 1976، بالإضافة إلى بعض الجرائد والمجلات العربية والأجنبية.
كما أرفقت بالرواية آراء نقدية حول أعمال سابقة للكاتب، لإبراز مكانته الأدبية الناشئة وتعزيز حضوره فى المشهد الثقافي.

