ولا شك أن اللافت للنظر، تلك الجغرافيا الاقتصادية التى يضع حدودها رجل البيت الأبيض الأول؛ ليكون المستفيد الأول والوحيد من هذه الهيمنة والسطوة الأمريكية، وبالفعل قد كان، فالخريطة تتحرك والخطوط القديمة تختفى وترسم أخرى مستحدثة، هناك عند منطقة القوقاز، بعدما اقتحم ترامب هذه المنطقة عبر توسيع النفوذ الاقتصادى مع الأطراف المعنية هناك.
ترامب، الذى فشل حتى الآن فى إنهاء حربى غزة وأوكرانيا، يجد أن تغيير الجغرافيا السياسية والاقتصادية، هى الحل الآن، فضلاً عن إدراج توليفة جديدة بشأن مسار التجارة العالمية وإعادة تشكيل موازين النفوذ والهيمنة، مستغلاً الهدف المعلن ظاهرياً، وهو السلم والازدهار الاقتصادي، بينما المعادلة الحقيقية هى الاستحواذ والهيمنة على الجغرافيا السياسية المتجذرة.
ويبدو أن العالم يمر بمرحلة استثنائية اختلطت فيها أوراق كافة الملفات السياسية بنظيرتها الاقتصادية، وأصبح هناك غطاء سياسى أمنى عسكرى، يسمى الاستثمارات المالية، تحت راية التعاون والتبادل التجارى، ولكنها ليست كذلك، بل انها التوليفة العالمية الجديدة.
من هذا المنطلق، سعى الرئيس ترامب إلى إبرام اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا فى البيت الأبيض الأمريكي، ليس من أجل الهدف الكلاسيكى الأنيق، وهو الحصول على جائزة نوبل للسلام - كما يدعي، وإنما من أجل طريق ترامب الآسيوى، الذى يستهدف المنفعة الاقتصادية كعنوان، كامناً فى باطنه، البعد السياسى والأهداف الاستعمارية الجديدة التى وضعها فريق ترامب، وهم - بالفعل، يجيدون هذه الملفات بدهاء وخبث يحسدون عليه.
تغيير معادلة القوقاز، كانت آخر «فرقعات» رئيس أكبر بلدان العالم، مستغلاً ضعف إيران نسبيا، بعد حربها القصيرة مع إسرائيل، بفضل دخول أمريكا بالطبع، ليفجر ترامب مفاجأة كبرى، ويغير التوازنات باقتحام منطقة القوقاز الحيوية، ويشعل الأجواء مجدداً، بدخول أمريكا فى «كعكة» القوقاز، التى تعتبر بوابة غاية فى الأهمية للتجارة العالمية، كونها تربط آسيا بأوروبا مروراً بتركيا وأذربيجان وأرمينيا.. وهنا اتضحت الرؤية، لماذا سعت واشنطن إلى إبرام اتفاق سلام بين حكومتى باكو ويريفان؟
تكمن المصلحة الأمريكية فى التواجد بمنطقة القوقاز كتموضع جديد جيوسياسى للولايات المتحدة، لتسمح للأخيرة بالسيطرة على بحر قزوين وضرب طريق الحرير الصيني، خاصة أن واشنطن عندما تأخرت على إفريقيا، سبقتها بكين وموسكو، فجاء تفكير البيت الأبيض، ليعيد النفوذ مرة أخرى، ليطلق ما يسمى بـ«ممر ترامب - Trlpp» طريق السلم والازدهار الاقتصادي، والذى يمر من آسيا إلى أوروبا مروراً بالدولة التركية، التى تريد أن تكون الممر الأوحد لكل شيء، مستغلة جغرافيتها الربانية، لتكون جسراً حقيقياً للنفوذ الإقليمى، وبالتالى وجدت فى طريق ترامب فرصة حقيقية لتغيير مسار الإمدادات والتجارة العالمية إلى القارة البيضاء العجوز.
ولكن يبدو أن هذا الطريق سيهدد الجغرافيا السياسية لكل من روسيا وإيران، بينما ستعزز أمريكا وجودها العسكرى فى هذه المنطقة، ومن هنا، جاء تحذير طهران إلى جارتها بعدم القبول بتواجد أمريكي، واستغلال القوقاز تحت ستار الاستثمارات الاقتصادية وضمان السلام، وأن إيران لن تسمح بذلك، حتى وإن كان تحت ستار اتفاق استثمارى لإنشاء منطقة عبور تربط أذربيجان بعمق الأراضى الأرمينية، ويشار إليه بطريق ترامب للسلام والازدهار.
هذه الخطوة من شأنها أن تغير مستقبل جنوب القوقاز، وذلك منذ توقيع اتفاق السلام الجديد مع أرمينيا وأذربيجان برعاية أمريكية، وهنا نثير السؤال الأكثر تعقيداَ، هل هذا الطريق التجارى والاستراتيجى بداية للسلام أم منفذ لصراعات جديدة؟، خاصة أن واشنطن قد اشترطت منحها حقوق تطوير حصرية للممر لمدة تصل إلى 99 عاماً، عبر تأجيره إلى شركات خاصة، لتشييد بنية تحتية تشمل السكك الحديدية وأنابيب النفط والغاز وكابلات الألياف الضوئية، والهدف المعلن من المشروع، فتح بوابة جديدة لحركة التجارة والنقل بجنوب القوقاز، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية فى المنطقة، وتدشين طريق استراتيجى جديد لتصدير الطاقة إلى أوروبا عبر دولة تركيا، التى تعد أبرز الرابحين من هذا المشروع الغامض.
المختصون يرون أن أنقرة هى المستفيد الأكبر من المشروع، حيث يتوقع خبراء الاقتصاد أن تحقق أرباحاً تصل إلى أربعة مليارات دولار سنوياً من الممر، بالإضافة إلى تعزيز موقعها كملتقى استراتيجى بين القارتين الآسيوية والأوروبية.
فى المقابل، انتقد محللو السياسة، أن المشروع لا يخلو من حالة التوتر، وسيلقى معارضة شديدة من طهران، التى اعتبرت الممر تهديداً أمنياً على حدودها، وأعلنت استعدادها لمنع تنفيذه، واصفة إياه أنه معبر لمرتزقة ترامب - على حد تعبير مسئول إيراني.
ورغم خطورته، اتخذت روسيا منهجاً تحذيرياً معتدلاً، مؤكدة أن الحلول الدائمة يجب أن تنبع من إرادة قوى المنطقة نفسها، وليس من أطراف خارجية، ويبدو أن موسكو تحاول ألا تفقد «ود» ترامب، خاصة أن الأخير ينحاز إلى الشروط الروسية فى حربها ضد أوكرانيا.
بهذا المنطق سيكون الممر بين قوسى «مرحلة حديثة من استقرار المنطقة»، أو سيجر الدول المحيطة بـ«زنغزور» إلى نزاعات إقليمية أوسع.. فحقيقة المشروع لا يهدف إلى السلام كما يدعى ترامب، وإنما سيثير قضايا اقتصادية وملفات جيوسياسية، والأقرب إلى الواقع الجديد، هو دخول الجيش الأمريكى والناتو كذلك، إلى منطقة القوقاز، وبالتالى ستكون على بعد كيلومترات معدودة من حدود إيران، وأيضاً سيشكل خطرا على الأمن القومى للدولة الروسية ومصالحها التجارية والنفطية فى قزوين.
تجدر الإشارة هنا، إلى أن بحر قزوين واحتياطياته من الغاز والنفط، هام جداً واستراتيجى للمصالح الاقتصادية والأمنية والعسكرية لموسكو، فالأخيرة تملك حصة كبيرة بنحو 20 فى المائة.
فنحن هنا، لسنا أمام بحر أو خط جغرافى يربط بين مدن وبلدات وحدود دولية، بل أمام لحظة مفصلية تعيد رسم خرائط النفوذ فى إحدى أخطر المناطق العالمية، التى طالما شهدت توترات عدة، واليوم، ستكون إيران ليست فى أفضل ظروفها العسكرية، كذلك روسيا المنشغلة بحربها مع أوكرانيا، ناهيك أيضاً عن العقوبات الاقتصادية الغريبة المفروضة على طهران وموسكو.
فكل الظروف الذى اختارها ترامب لإعلان مشروعه تنم عن ذكاء اقتصادى وسياسى وعسكري، فالدولة الإيرانية تكاد تكون فى عزلة، وروسيا فى مستنقع الأوكران - والاستثناء الوحيد، عندما لجأت كل من الصين وروسيا وإيران إلى إجراء مناورات بحرية عسكرية فى بحر قزوين، ليبعث الثلاثى برسالة واضحة إلى ترامب وحلف الناتو، بعدم تغيير الحدود التاريخية والجغرافية، التى تعود إلى آلاف السنين.
ونتطرق هنا إلى ورقة الممرات بالغة الأهمية، فيكفى القول إن من يمتلك النفوذ والسيطرة على الممرات، يستطيع التحكم بتدفق البضائع وخطوط الطاقة وبالتالى بالتحركات العسكرية، ولكن علينا الانتباه إلى حقيقة وجود منافع اقتصادية من هذا المشروع، وهى مكاسب ومصالح لبعض الأطراف لا يمكن إنكارها، ولكن يجب وجود ضمانات تؤكد عدم استغلال هذا الممر إلى أداة لتعزيز نفوذ سياسى أو تحويله إلى صراعات عسكرية، أو استخدامه بشكل استخباراتى للاعبين الأساسيين، خاصة لدول تركيا، إيران، روسيا، والأخطر فى الأمر هو تقريب الحدود فى الصراع الأقوى بين أمريكا وخصمها الصينى اللدود.
فوجود قواعد عسكرية أمريكية فى هذه البقعة الجغرافية لحماية مصالح واشنطن وتمددها التجارى فى آسيا، سينعكس بشكل مباشر على جورجيا أيضاً، وستنقلب مسألة التوازنات فى البحر الأسود، وسيكون التواجد الأمريكى فى هذه المنطقة بمثابة «مساومة» لإنهاء الحرب الروسية ضد كييف، ولا ننسى أيضاً أن أذربيجان حليف استراتيجى لإسرائيل خصوصاً فى مسألة الطاقة والنفط تحديداً.
فخلاصة ما قيل، إن مآلات المشهد السياسى فى المنطقة التى تحمل إرثا شائكا كبيرا، تؤكد أن طريق ترامب الآسيوى هو أحدث غنائم الرئيس الأمريكي، الذى يصر على تغيير قواعد اللعبة، ويرسم طريقا جديداً للنفوذ، خاصة أنه يدشن الصفقات بصفته لاعباً أساسياً وليس مجرد «وسيط سلام».. فهو يقتحم شريان تجارة حيوى فى القوقاز، بفضل خطة مدروسة لإحكام السيطرة على قلب روسيا وإيران، والقرب من حدود الغريم الأول التنين الصيني.. فالغرض الباطنى من هذا الجسر اللوجيستي، هو الاصطفاف السياسى والعسكرى والضغط على «مثلث الرعب» لأوروبا وأمريكا، أما الهدف الاقتصادى الثاني، فهو النفوذ التجارى وإعادة رسم خرائط الطاقة العالمية بخطة طويلة الأجل.. لذا فالخريطة الجديدة ستكون لمشروع ليس تنمويا - كما يقال ظاهرياَ، بل أداة استراتيجية تُعيد رسم موازين التجارة والنفوذ السياسى والاستراتيجى فى قلب آسيا.. فهناك من باع، وآخر قرر الشراء.. إنه ترامب ليشترى ترامب فوراً.