فمنذ اندلاع العدوان، وحرب الإبادة وسياسة التجويع على غزة تسارعت تحولات دبلوماسية وقانونية كانت لسنوات «مؤجَّلة». أبرز تلك التحولات تقدُّم دول غربية نحو الاعتراف بدولة فلسطين، فضلًا عن إجراءات دولية غير مسبوقة بحق مسئولين إسرائيليين، إلى جانب تضييقات على تصدير السلاح أو مكوّناته، وقرارات قضائية يُحتمل أن تعيد تشكيل سلوك أطراف الحرب. وفى الخلفية، تهتزّ إسرائيل داخليًا تحت ضغط الاقتصاد، والخلافات الائتلافية، وصدع عميق بين المجتمع والدولة حول (من يدفع كلفة الحرب وأين تذهب)، كل ذلك يجعل سؤال «العزلة» مشروعًا، ولو مع التحفّظ على أن إسرائيل ما زالت تملك ركائز دعم قوية فى الغرب.
لطالما كان الاعتراف بدولة فلسطين مطلبًا عربيًا ودوليًا، لكنه ظل يراوح مكانه أمام الفيتو الأمريكى والدعم الأوروبى التقليدى لإسرائيل، غير أن حرب غزة غيّرت الموازين جذريًا، إذ تصاعدت فى عام 2024 وما تلاه موجة اعترافات متتالية من دول غربية كبرى بدولة فلسطين، فى خطوة تحمل دلالات سياسية قوية.
شهد عام 2024 اعتراف أربع دول أوروبية بدولة فلسطين، فكانت بمثابة خطوة كسرت «تابو» أوروبيًا طال أمده، فأعلنت حكومات كل من إسبانيا، إيرلندا، النرويج الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين فى 28 مايو 2024، وردّت إسرائيل باستدعاء سفرائها من مدريد ودبلن وأوسلو احتجاجًا، هذه كانت اللحظة المفصلية التى أعادت فتح الملف داخل أوروبا.
ولحقت سلوفينيا بالموجة، واعترفت رسميًا بدولة فلسطين فى 4 يونيو 2024 بعد تصويت برلماني، بلجيكا ولوكسمبورج تدرسان الاعتراف بشكل جدى بعد تصاعد الضغوط الداخلية من برلماناتهما ومن الرأى العام، فى فرنسا رغم أن الحكومة لم تعلن الاعتراف الرسمى حتى الآن، إلا أن البرلمان صوّت لصالح قرار رمزى يطالب به، وهو مؤشر على تحول المزاج السياسى الفرنسي، وفرنسا من الدول الأوروبية التى أعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطين فى عام 2025، والجدير بالذكر أن فى المملكة المتحدة، خرجت تصريحات من زعيم حزب العمال (المرشح الأوفر حظًا لتولى رئاسة الوزراء) تؤكد أن الاعتراف بدولة فلسطين سيكون ضمن أولويات حكومته حال فوزه.
وكذلك كل من أستراليا، حيث أكّد رئيس الوزراء، أنتونى ألبانيزى، أنه سيتم الاعتراف فى سبتمبر 2025 بفلسطين فى خطوة لافتة من حليف وثيق للغرب الأنجلوساكسونى ومالطا، حيث أعلنت أنها تعتزم الاعتراف فى سبتمبر القادم أيضًا، وكندا تخطط للاعتراف فى سبتمبر القادم بفلسطين ضمن نهج (حل الدولتين) وتسوية تفاوضية.
بالطبع تمثل هذه الموجة الأوروبية نقطة انعطاف تاريخية؛ لأنها تكسر ما كان يُعتبر إجماعًا غربيًا على دعم إسرائيل، كما أن رمزية أن تأتى هذه الاعترافات من دول أعضاء فى الاتحاد الأوروبي، المعروف بصلابة موقفه تجاه قضايا الشرعية الدولية، تجعل إسرائيل فى موقف معزول أخلاقيًا وسياسيًا لا محالة.
والحديث هنا عن الولايات المتحدة الأمريكية التى تعتبر إسرائيل ابنها المدلل وولاياتها الـ51 وذراعها اليمنى فى الشرق الأوسط، ورغم أن واشنطن ما زالت الحامى الأكبر لإسرائيل فى مجلس الأمن عبر استخدام الفيتو المتكرر، فإن الساحة الأمريكية نفسها تشهد تحولات ملحوظة، الاحتجاجات الواسعة فى الجامعات الأمريكية ضد الحرب فى غزة كشفت عن تحول فى الرأى العام الشبابى الأمريكي، وأن استطلاعات الرأى الأخيرة أظهرت أن غالبية الديمقراطيين يميلون إلى دعم الاعتراف بفلسطين.
فالإدارة الأمريكية باتت تعانى من مأزق متزايد، فهى تريد حماية إسرائيل كحليف استراتيجي، لكنها تدرك أن استمرار الدعم غير المشروط قد يعزلها عن حلفائها الأوروبيين، ويضعف مصداقيتها عالميًا.
وإلى جانب التحولات السياسية، يواجه نتنياهو أخطر التحديات القانونية فى تاريخ إسرائيل، محكمة العدل الدولية (ICJ)، وهى الجهاز القضائى الأساسى للأمم المتحدة، أصدرت فى 2024 أوامر مؤقتة تلزم إسرائيل بمنع أعمال الإبادة الجماعية وضمان حماية المدنيين فى غزة، دخول هذه المحكمة على خط الأزمة يعكس أن المجتمع الدولى ينظر لإسرائيل كدولة منتهكة للقانون الدولي، ويضعها فى موقع الاتهام الرسمي.
ودخول المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، وهى مختصة بمحاكمة الأفراد، أصدرت مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت إلى جانب قيادات من حركة حماس، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، هذا القرار يعنى أن قادة إسرائيل لم يعودوا محصّنين أثناء سفرهم إلى الدول الموقّعة على نظام روما الأساسي، وأنهم باتوا مهددين بالملاحقة القضائية الشخصية.
إن اجتماع الضغط المزدوج من المحكمتين يعنى أن إسرائيل تواجه لأول مرة عزلة على مستويين، عزلة كدولة (محكمة العدل الدولية تضعها فى خانة الدول المتهمة)، وملاحقة لقادتها كأفراد (المحكمة الجنائية الدولية تجعلهم مطلوبين للعدالة الدولية).
وعلى الصعيد الداخلى الإسرائيلى، نتنياهو يعيش أزمة داخلية جعلته فى مأزق، فى الداخل يواجه نتنياهو معارضة متزايدة، سواء من الشارع أو من داخل النخبة السياسية والعسكرية، وتظل الاحتجاجات فى تل أبيب لم تهدأ، حيث يطالب مئات الآلاف باستقالة حكومة نتنياهو وتحميلها مسئولية فشل إدارة الحرب.
الانقسام داخل المؤسسة العسكرية والأمنية وصل إلى العلن، مع اتهامات لنتنياهو بأنه يضع مصالحه الشخصية والهروب من المحاكمة فى قضايا الفساد، فوق مصلحة إسرائيل، التوتر مع الإدارة الأمريكية أيضًا انعكس داخليًا، إذ يرى كثير من الإسرائيليين أن علاقاتهم الاستراتيجية مع واشنطن باتت مهددة بسبب سياسات نتنياهو المتصلبة.
ولهذه الأسباب مجتمعة؛ إسرائيل تتجه نحو عزلة عالمية، ومؤشراتها متراكمة، منها موجة اعترافات غربية بفلسطين تقوض سردية إسرائيل، وقانونيًا مذكرات الاعتقال والأحكام الدولية تحولها إلى دولة متهمة، دبلوماسيًا العلاقات مع بعض الحلفاء التقليديين (مثل فرنسا، بريطانيا، كندا) تمر بفتور غير مسبوق، اجتماعيًا الرأى العام الغربي، خصوصًا الشباب والجامعيين، أصبح أكثر دعما لفلسطين.
خلاصة القول، قد لا تتحقق عزلة إسرائيل الكاملة بين ليلة وضحاها، نظرًا لقوة الدعم الأمريكي، لكن المؤشرات واضحة، نتنياهو قاد إسرائيل من موقع «الدولة الحليفة للغرب» إلى موقع «الدولة المتهمة أمام العالم»، إن موجة الاعترافات الأوروبية بفلسطين، إلى جانب دخول محكمتى العدل الدولية والجنائية الدولية بثقل قانونى غير مسبوق، تمثل تحولًا تاريخيًا فى مكانة إسرائيل الدولية، وإن استمرت سياسات نتنياهو على هذا النحو، فإن تل أبيب ستواجه خطر الانزلاق نحو عزلة عالمية غير مسبوقة فى تاريخها.
