فوجئنا بالرحيل غير المتوقع للفنان العربى اللبنانى زياد الرحبانى «31 ديسمبر 1955 – 26 يوليو 2025، وراح كلٌ منا يتذكر ما حملته ذاكرته عن فيروز والعائلة كلها والدور الفنى العظيم الذى لعبته فى تاريخ الفن الغنائى الحديث.
زياد الرحبانى قيمة فنية لبنانية وعربية مهمة، ورحيله أدمى كثيرا من قلوب مُحبى الوطن العربى والفن العربى، وخاصة لبنان الشقيق الذى قدَّم لنا أدباً متميزاً وفناً أكثر تميزاً. وهذا الرحيل لم يوجع اللبنانيين فقط، ولكنه أوجع كل عربى فى الوطن العربى من المحيط إلى الخليج. ومن أوروبا إلى إفريقيا.
زياد الرحبانى موسيقار وملحن ومسرحى وكاتب لبناني، اشتهر بموسيقاه الحديثة وتمثيلياته السياسية الناقدة التى تصف الواقع اللبنانى الحزين بفكاهة عالية الدقة. وتميز أسلوبه بالسخرية والعمق فى معالجة الموضوع، كما أنه يُعتبر طليعياً شيوعياً وصاحب مدرسة فى الموسيقى العربية والمسرح العربى المعاصر.
وُلِدَ زياد عاصى الرحبانى فى بلدة أنطلياس، فى محافظة جبل لبنان، وهو الابن البكر للموسيقار عاصى الرحبانى والمطربة نهاد حداد المعروفة باسم فيروز. كان والده جزءاً من ثنائى الأخوين رحبانى عاصى ومنصور الرحباني، اللذين شكلا ظاهرة بارزة فى المسرح الغنائى اللبنانى منذ خمسينيات القرن العشرين، بالتعاون مع إذاعة صوت لبنان، ولاحقاً الإذاعة اللبنانية الرسمية، وشاركا فى أبرز المهرجانات الفنية مثل: بعلبك وبيت الدين.
نشأ زياد فى منزل عُرِفَ بغزارة الإنتاج الفنى والعمل الإذاعى والمسرحى اليومي، وكان مُحاطاً منذ طفولته بكُتَّاب وموسيقيين ومُمثلين، تلقَّى تعليمه الابتدائى فى مدرسة جبل أنطلياس الكاثوليكية، ثم انتقل إلى مدرسة اليسوعية فى بيروت. ودرس لاحقاً الموسيقى الكلاسيكية والجاز على آلة البيانو بصورة غير أكاديمية، وتعلم التأليف الموسيقى بمجهود ذاتي، مُعتمداً على ما شاهده من عمل والده وعمه، فضلاً عن تأثره بموسيقى الجاز الأمريكية.
لزياد شقيقان: هالي، الذى يُعانى من إعاقة ذهنية منذ الطفولة، وأخته ليال، التى لم تتجه إلى المجال الفني، وأضيف على كاهله بصفته الابن الأكبر مسئوليات خاصة داخل العائلة بعد مرض والده فى أواخر سبعينيات القرن العشرين.
لم تكن بداية زياد الرحبانى الفنية فى مجال الموسيقى، بل جاءت من بوابة الأدب: إذ كتب فى سن مبكرة نصوصاً شعرية بعنوان: صديقى الله، أنجزها بين عامى 1967 و1968، حين كان فى سن المراهقة. وقد لفتت هذه النصوص الانتباه إلى موهبة أدبية واعدة، كانت تُبشِّر بولادة شاعر مُتمكِّن، لولا أن اختار لاحقاً تكريس طاقته بالكامل للموسيقى والتأليف المسرحي.
فى عام 1971، وضع زياد أول ألحانه الغنائية بعنوان: ضلَّك حبينى يا لوزية، والتى شكلت مدخله الفعلى إلى عالم التلحين. ثم جاءت اللحظة المفصلية فى عام 1973، حين كان لا يزال فى السابعة عشرة من عمره، حين لحن أغنية لوالدته فيروز، وذلك فى ظل دخول والده عاصى الرحبانى إلى المستشفى وتغيبه عن العمل الفني. كانت فيروز حينها تستعد لبطولة مسرحية: المحطة، من تأليف الأخوين رحباني، فكتب منصور الرحبانى كلمات أغنية تعكس الغياب المفاجئ لعاصي، وأسند مهمة التلحين إلى زياد.
جاءت النتيجة على شكل الأغنية الشهيرة: سألونى الناس، التى أدتها فيروز ضمن المسرحية، وأحدثت صدىً واسعاً فور صدورها، فمثلت أول ظهور حقيقى لزياد كملحن، وأظهرت ملامح أسلوبه الخاص المختلف عن والده وعمه، وفتحت أمامه باب التعاون الموسيقى مع فيروز الذى امتد لعقود.
لاقت تلك الأغنية نجاحاً كبيراً، ودُهِش الجمهور للرصانة الموسيقية لابن السابعة عشرة ذاك، وقدرته على إخراج لحن يُضاهى ألحان والده، ولو أنه قريب من المدرسة الرحبانية فى التأليف الموسيقي.
شارك زياد الرحبانى فى أول ظهور له على خشبة المسرح فى مسرحية: المحطة، مُجسِّداً دور الشُرطي، وهو الدور الذى كرره لاحقاً فى مسرحية: ميس الريم، حيث قدَّم مشهداً حوارياً موسيقياً مع فيروز، سائلاً إياها عن اسمها وبلدتها فى قالب محن. إلا أن مشاركته لم تقتصر على التمثيل، فقد قام أيضاً بتأليف موسيقى مقدمة: ميس الريم، والتى أثارت إعجاب الجمهور لما حملته من تجديد فى الإيقاع والأسلوب، كاشفة عن لمساته الشابة المختلفة عن أعمال والده وعمه.
لاحقاً طلبت منه فرقة مسرحية لبنانية – كانت تُعيد تقديم مسرحيات الأخوين رحباني، وتضم المغنية مادونا التى كانت تؤدى دور فيروز أن يكتب مسرحية أصلية جديدة من تأليفه وتلحينه، فاستجاب لذلك وكتب أول أعماله المسرحية: سهرية. وقد احتفظت هذه المسرحية بشكل المسرح الرحبانى الكلاسيكي، إلا أنها كانت أقرب إلى ما وصفه زياد بحفلة غنائية، حيث كانت الأغانى هى العنصر الأبرز، وتدور الأحداث فقط لتخدم تقديم المقطوعات الموسيقية، فى تقليد واعٍ للمسرح الرحباني.
مع مرور الوقت، أحدث زياد تحولاً كبيراً فى شكل المسرح اللبناني؛ إذ ابتعد عن النمط المثالى والخيالى الذى تميز به مسرح الأخوين رحباني، واتجه إلى مسرح سياسى واقعى يعكس حياة الناس اليومية، خصوصاً فى ظل أجواء الحرب الأهلية اللبنانية. فكانت أعماله تعبيراً مُباشِراً عن هموم المجتمع اللبناني، بلغة نقدية لاذعة وسخرية ذكية.
قلوبنا مع الفنانة فيروز التى أمتعتنا لسنواتٍ طويلة بغناءٍ له طابع شرقى جميل وأصيل، أحبه الجميع فى كل مكان، ومن النادر أن نقول إن هناك منْ اختلف معها أو عليها، وكان المرحوم زياد الرحبانى امتداداً لمشروع فيروز الذى مازال مستمراً حتى الآن وسيظل.
