«مزايدات رخيصة ومؤامرات مفضوحة».. سيناريو مكرر اعتادت مصر مواجهته على مدار تاريخها فى مساندة القضية الفلسطينية، والغريب هنا أن بعض الأطراف، التى من المنطقى أن تقف إلى جانب «القاهرة» فى مسيرتها لـ«إقرار الحق الفلسطينى»، هى التى أصبحت تواجهها، ليس هذا فحسب، لكنها دأبت على تدبير المؤامرات ووضع العقبات فى طريقها، والمحاولة مرة تلو الأخرى لـ«تشويه» الدور المصرى التاريخى فى مؤازرة الأشقاء فى فلسطين.
ومن جانبها، لم تنزلق مصر -ولو مرة وحيدة- فى الطريق الذى يريد البعض أن يجبرها على أن تسلكه، لم تبِع القضية، بل -وبالشواهد التاريخية- سددت، ولا تزال، تسدد القاهرة فاتورة «حماية القضية»، ولم تخرج يومًا لتتباهى بـ«إقرار هدنة» أو «إدارة مفاوضات» أو «تقريب لوجهات النظر»، لكن قيادتها السياسية، وعلى مر السنوات، تؤكد دائما أن «فلسطين قضية مصر الأولى»، وتضرب المثل تلو المثل فى هذا الأمر.
لعل الأحداث التى يشهدها قطاع غزة منذ عملية «طوفان الأقصى»، وما ترتب عليها، خير دليل على «موقف القاهرة»، فـ«المساعدات المصرية» كانت حاضرة منذ اللحظة الأولى، و«الوساطة» هى الأخرى لم تغِب عن المشهد، وما بين هذا وذاك، كان «الصوت المصرى العاقل» حاضرًا بكل ما يمتلكه من قوة، فالرئيس عبدالفتاح السيسى، ومنذ بداية العدوان على «غزة»، كان واضحًا فى طرح نهايات كل السيناريوهات الممكنة، ومحذرًا من امتداد الصراع وخطورته، ليس على القضية الفلسطينية فحسب، بل وعلى المنطقة العربية والشرق الأوسط.
الرئيس السيسى، ومن بعده الهيئات المعنية فى مصر، وبشهادات قيادات العالم «المنصفة»، لم يدخر جهدًا إلا وبذله، سواء فيما يخص تخفيف معاناة الأشقاء فى القطاع، أو البحث عن أسرع طريق يفضى إلى «هدنة دائمة» وحل نهائى لـ«القضية الأبدية»، كاشفًا للجميع، قادة وشعوبًا، أن «الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967» هى الحل المثالى والأفضل للصراع الدائر.
وبمرور الأيام، ومع اتساع رقعة الصراع، وفداحة الخسائر، واستمرار الكيان المحتل فى حربه الشاملة ضد «أهل غزة»، لم يتراجع الرئيس السيسى عن موقفه، وهو موقف يدرك القاصى والدانى أن مصر «دفعت ثمنه»، بل ذهب إلى ما هو أبعد من «التلميح»، حيث صرح قائلا: «حتى لو نجحت إسرائيل فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقُم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية»، وهو التصريح الأقوى على مدار سنوات الصراع «الفلسطينى - الإسرائيلى»، والذى كان له دور كبير فى تعديل العديد من عواصم العالم لوجهتها فيما يتعلق بـ«فلسطين»، وإعلان عدد كبير منها دعم «حل الدولتين»، بل ونجحت مصر فى إقناع قادة بعض هذه الدول فى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما سيتحقق فى سبتمبر المقبل.
رغم هذا، لم تخرج «القاهرة»، لتتحدث عن دورها فى الأزمة التاريخية، بل التزمت «صمت الكبار»، لتُفاجأ فى الآونة الأخيرة بما يمكن وصفه بـ«معركة الإلهاء»، بعدما عمدت عناصر جماعة الإخوان الإرهابية لتنفيذ تحركات هدفها الرئيسى «عرقلة القاهرة» ومنح الفرصة الكاملة لحكومة الكيان المحتل لتنفيذ مخططها الشامل لـ«الإبادة والتجويع»، ووصل الأمر إلى «حصار السفارات المصرية»، والتظاهر فى قلب «تل أبيب»، فى مشهد عبثى، ضد مصر واتهامها بأنها السبب فى «حصار غزة»!
يومًا تلو الآخر ومحاولة إخراج مصر من المشهد لم تتوقف، بل على العكس تمامًا، ظهرت أصوات تلوك الاتهامات المجحفة وتهاجم «القاهرة»، غير أن الرئيس السيسى كانت لديه قراءة واقعية للمشهد بأكمله، فلم يندفع ناحية «الرد على الاتهامات»، بل عمد إلى مواجهة العالم بـ«الجريمة المسكوت عنها»، وفى خطاب عنوانه «الوضوح والمصارحة»، قال الرئيس: «الحقيقة أن حياة الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، ويمكن فى الضفة الغربية أيضًا، تُستخدم الآن كورقة سياسية للمساومة.. والضمير الإنسانى يقف متفرجًا، ومعه المجتمع الدولى، على ما يتم فى قطاع غزة».
الرئيس السيسى، كذلك، كان أكثر وضوحًا عندما قال «قبل الحرب، كان يدخل من مصر 600 إلى 700 شاحنة محمّلة بالأغذية والمواد المطلوبة لإعاشة نحو 2.3 مليون من الفلسطينيين. وتصوروا أن يتم تقليل هذه الكمية لدرجة الصفر على مدى الـ21 شهرًا الماضية.. والوضع الذى ترونه الآن فى القطاع ناجم عن ذلك، وليس ناجمًا عن أن مصر قد تخلّت عن دورها فى إدخال المساعدات أو أنها تشارك فى حصار القطاع.. هذا أمر خطير ومهم جدًا، ويجب أن يعلم الناس –ليس فقط فى مصر– وإنما فى العالم أجمع أن ذلك هو إفلاس ممن يدعون هذه الادعاءات على مصر. نحن مستعدون لإدخال كميات أكثر من ذلك بمرات من أجل إغاثة الشعب الفلسطيني، وندعو إلى وقف الحرب، مرة واثنتين وثلاثًا، ونبذل كل جهدنا، وسنستمر فى هذا الإجراء، وأودّ أن أقول لكل مَن يسمعنا: إن التاريخ سوف يتوقف كثيرًا وسيُحاسب وسيُحاكم أشخاص كثيرون ودول كثيرة على موقفهم من هذه الحرب. وسيتوقف التاريخ، ولن يظل الضمير الإنسانى صامتًا بهذه الطريقة».
