منذ أيام توفيت الأستاذة الدكتورة أميرة حلمى مطر أستاذة الفلسفة اليونانية وعلم الجمال والفلسفة السياسية، وكانت من أوائل منْ التحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، ود. أميرة ولكل إنسان نصيب من اسمه، فهى كانت الأميرة فى تخصصها، وكانت ربما الوحيدة فى القسم رغم وجود عشرات من الزملاء، ولكنها تفوقت على الجميع وعينت بالقسم لتفوقها وللتدريس للطلاب.
توافد على ذهنى وقائع وعشرات الأمثلة على تخصص تدريس الفلسفة وأساتذتها وإعلامهم حتى بالمجلس الأعلى، ولماذا يتم تحجيمها وإلغاؤها من الفضاء العام مؤخرا بالتعليم وغيره، ومنها متابعة أسماء وتشكيل المجلس الأعلى للثقافة 2025 ولدورة قادمة.
لم يكن موقفى مثل الآخرين فى التهكم بالسن، فالسن يعنى الحكمة واللافت أن الوزير وهو يجيب عن هذا السؤال قرن بين السن والجوائز! وكأن المقصود هو مراسم الزواج ووجود الكبار قيمة وقامة بمنح جوائز الثقافة، وهكذا فهمت من كلام الوزير؟!.
لكن على الجانب الآخر بعيدا عن الجوائز فقط فقد نظرت للمجلس الأعلى من زاوية الأدوار والمهام وتخصصاته من خلال الشخصيات التى تم تعيينها فلم أجد ويا للهول على رأى الكبير يوسف بك وهبى وليس يوسف باشا، أن المجلس يخلو من أسماء وأساتذة عاملين أو حتى من خلفية دراسة الفلسفة وبهذا الفرع من المعرفة ورغم وجود أسماء لامعة فى الفضاء الثقافى والكتابة عنها مثل د. أنور مغيث وحلمى النمنم وآخرين، بل قفز أيضا لماذا سميت درجة الدكتوراه (phd) بدكتوراه الفلسفة تعبيرا عن فهم مضمون التخصص الدقيق.
وبعيدا عن إيجاد المبرر بأنه لاختيار الأسماء للفوز بالجوائز كما قال وصرح الوزير ولذلك كان لابد من اختيار هذه القامات، وهو ما لا نختلف عليه إطلاقا فهم قامات فكرية حقيقية. لكن هناك أدوارا أيضا للمجلس الأعلى، منها الاقتراحات والتوصيات والعمل على تنفيذها وليس للسياسات الثقافية فقط بل والتعليمية، ولهذا يتواجد وزيرا التعليم بصفتهما؟ وذلك للاستماع إلى أفكار التطوير، بل والمشاركة فى ضرورة وجود وأعمال المؤتمرات التى تقترحها لجان المجلس وأعضاؤه، وأذكر أنه فى نهاية سنوات الألفية الماضية تقريبا وكان يرأس لجنة الفلسفة المثقف الكبير محمود أمين العالم، عقد مؤتمرا كبيرا لمناقشة قضايا تدريس الفلسفة بالمناهج التعليمية بالمرحلة الثانوية، وتم اقتراح ضرورة تدريس الفلسفة بدءا من الصف الأول الثانوى وليس قصرها على تخصص نيل شهادة الثانوية العامة بالأدبى، وبالفعل تم تطبيق القرار بعد ذلك، وأصبح طلاب الصف الأول الثانوى وهو عام مشترك لجميع التخصصات من علمى وأدبى، لكى يعرف الطلاب أفكارا عامة ويطلع على أسماء ومذاهب فلسفية، بدلا من القسمة الحدية بعدم تدريس المناهج الفكرية والعلوم الإنسانية مثلا لطلاب العلمى، وهكذا عرف الطلاب الذين اختاروا الدراسة بالقسم العلمى أسماء مثل أفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن سينا وكانط وهيجل وربما ماركس والعياذ بالله!.
وتداعى إلى ذهنى بالضرورة على طريقة منهج أرسطو، كذلك إلغاء تدريس مادة الفلسفة بأكملها من تخصص الأدبى بالمرحلة الثانوية مع بداية العام الحالى تحت بند الاختصار العلمى والفكرى للمناهج والتخصصات؟!. فهل هناك علاقة بين هذا وذاك أى بين استبعاد أى أسماء لها علاقة بالتخصص الدقيق للدراسة بالفلسفة، وبين إلغاء تدريسها تماما ونهائيا لطلاب مسار الآداب فى سنوات ما بعد الصف الأول الثانوى ولو على سبيل مادة إلى الاختيار مثلا؟! وحصوة ملح فى عين المفكرين.
إن تخصص الفلسفة ليس كما يتصور البعض كلاما فى الهواء والمطلق يعوم مع السحب ولكن لا ينزل مع الأمطار؟، وإنما هو تاريخ الفكر الإنسانى وتطوره، فمثلا قضايا احتقار واحتكار العبيد، رسخت لها بعض المدارس الفلسفية وأسماء الكبار منهم، وبالتالى انتقلت لتصبح حركة مجتمعية أو نظاما اجتماعيا واقتصاديا بل وتعليميا، إذن لم تكن الأفكار تحلق فى هواء التكييفات، وكذلك الأمر ينطبق على علوم الحضارة الإسلامية، ولدينا علم الكلام فى الفلسفة الإسلامية وكيف أسس الفلاسفة المسلمون لنهضة علمية متقدمة بل واختراع تخصصات فى الرياضيات مثل الجبر ومؤسسه العالم الخوارزمى، وكان إحلال الرموز محل الأعداد المجهولة وهى أفكار وقضايا على تماس بالقضايا الفكرية والفلسفية والتجريد، كما كان ذلك مطروحا عند المدرسة الفيثاغورثية، وأفلاطون وأكاديميته، بل تفرع منها تخصص الاقتصاد وهو أيضا على حد معرفتى بأسماء المعينين ما غاب عن التشكيل الحالى، مع أننى أعرف والله أساتذة كبار القيمة وحتى فى السن وكانوا وزراء ولهم إسهامات فى الفكر والإبداع، بل قال العالم أينشتاين إن الأفكار والفلسفة ساعدته للوصول إلى نظرية النسبية وهى أحد الأسس للتقدم العلمى الحالى فى عصرنا الحديث.
المدهش أن المجلس وهو المنوط به كما قال الوزير إعطاء ومنح الجوائز الكبرى، فماذا لو عرض عليه إنتاج فكرى وفلسفى فمنْ الذى سيتداول جدية المشاركات الفكرية المقدمة للجوائز؟.
الحقيقة أن وجود التخصصات وتنوعها فى المجلس الأعلى وطبقا حتى لاقتباس ولتقسيم اللجان النوعية بالمجلس يعطى قوة للتنوع وأنه يمثل كل التخصصات التى تكوِّن المشهد وهو مترادف للثقافة وتنوعها، ولكن سيطرة عدد من بعض التخصصات الفكرية والأكاديمية فقط يقلص من مطلب التنوع الفكرى والثقافى، وبالتالى لم نرَ للمجلس كما كان فى مراحل وعقود سابقة من مؤتمرات والعنوانين فكرية كبيرة - على غرار مؤتمرات القصة والسينما على أهميتهما القصوى - ولكن غابت التخصصات الفكرية الأخرى، واقتصرت على عدد قليل من الندوات باللجان ويحضرها أعضاؤها؟!
وغاب عقد مؤتمر ليناقش مثلا حق الاقتراح أو لتوجيه بعيوب فى قصر تدريس الفلسفة فى الصف الأول الثانوى فقط لا غير، ولم نسمع عن مؤتمر للمجلس السابق أيضا وليس الجديد حتى ليناقش أثر إلغاء مواد الفكر الإنسانى مثل الفلسفة وعلم الاجتماع من مناهج الثانوية أو البكالوريا وتأثير ذلك على مستقبل القوى الناعمة لمصر.
وبما أننى مشجعة ثقافية وأحيانا تعليمية وفلسفية ومن مدرجات الدرجة الثالثة (شمال) أقترح للتذكير بأهمية الفلسفة مثلا عقد تكريم للدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة والتنوير الكبير سنا ومقاما، والذى خاض المعارك لوجود الفلسفة فى التعليم عندما ألغى كمال الدين حسين تدريسها! على اعتبار منه أن دراسة الفلسفة رجس من أعمال الفكر، وتُصيب المرء بالصداع المزمن وإسهال الأفكار.
والسلام عليكم ورحمة الله وكفانا وإياكم شر الفلسفة وسنينها ومدارسها وأفكارها، وتستلزم الاستغفار، إن لم يكن التوبة وغفر الله لنا ولكم جميعا.