قبل أكثر من ثلاثة قرون قبل ميلاد السيد المسيح.. انتهى عصر الأسرات فى مصر القديمة.. لتتحول الإمبراطورية المصرية.. إلى مجرد ولاية فى إمبراطورية أكبر «الإغريق – الرومان – الفتح الإسلامى – الدولة الأموية – الدولة العباسية – الغزو العثمانى – الاحتلال الإنجليزى».. وعلى مدى أكثر من ألفى عام توقفت الثقافة المصرية.. بل راحت تتراجع إلى حد التلاشي.. ولم يتم ذكر الوطن المصرى إلا فى منتصف القرن التاسع عشر من خلال كتابات وأشعار رفاعة رافع الطهطاوى.. ومع نهاية القرن التاسع عشر ظهرت أشعار محمود سامى البارودى.. التى أطلق عليها النقاد «مدرسة الإحياء».
ثم تعملقت هذه المدرسة على يد الشاعرين الكبيرين أحمد شوقى وحافظ إبراهيم.. وعادت براعم الثقافة المصرية تتفتح فى كثير من المجالات.. على يد عدد كبير من الرواد مثل العقاد وطه حسين والمازنى وتيمور والرافعي... إلخ.. وساعدت ثورة الشعب المصرى ضد الإنجليز عام 1919.. فى الدفع بالعديد من المواهب فى كثير من مجالات الثقافة.. ورغم كل هذا ظل الأمر يدور فى دائرة شديدة الضيق اسمها «المثقفون المصريون».. ولم تتسع تلك الدائرة لتتحول إلى «الثقافة المصرية»، فالأمية الأبجدية أكثر من 90 فى المائة من الشعب المصري.. والفقر المدقع يحنى ظهور أكثر من 95 فى المائة من هذا الشعب.. وتكلفة التعليم فوق قدرة هؤلاء الغلابة.. حتى بعد أن قرر رئيس الوزراء نجيب الهلالى مجانية التعليم الابتدائى فى عام 1944.. وحتى بعد أن قرر وزير المعارف د. طه حسين مجانية التعليم الثانوى فى عام 1951.. ذلك القرار الذى لم يطبق إلا فى عام 1956.. واستمر هذا الوضع طوال النصف الأول من القرن العشرين.. تزايد فى عدد كتيبة المثقفين.. بعد بزوغ نجم عدد من الموهوبين مثل يحيى حقى – نجيب محفوظ – محمد فريد أبو حديد... إلخ.. ولكن ثقافة الغالبية العظمى من المصريين ظلت كما هي.. مسجونة داخل المثلث المظلم «الفقر والجهل والمرض».
وفى الثالث والعشرين من يوليو 1952 يبزغ فجر ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر.. تلك الثورة التى قررت منذ لحظتها الأولي.. أن تحلق بجناحين عملاقين.. هما العدالة الاجتماعية والثقافة.. وكان التركيز على إنجاز النهضة الثقافية.. مصدر إعجاب وتعجب من المصريين وغيرهم.. فزعيم الثورة جمال عبدالناصر لديه مشروع عملاق.. لتحقيق التنمية الشاملة فى كل المجالات.. تلك التنمية التى تعتمد على المشاريع العملاقة.. التى تسعى لخدمة كل المصريين.. مثل السد العالى – بناء المصانع – استصلاح الأراضى – بناء المدارس والمستشفيات – إلخ.. ومثل هذه المشروعات تحتاج إلى كل قرش من ميزانية الدولة.. وقد يرى البعض أن الفنون والآداب.. التى تشكل أهم روافد الثقافة.. أقل أهمية من تلك المشروعات.. ولكن التنمية الثقافية هى القاطرة الحقيقية.. لدفع وتسيير أى نوع آخر من التنمية.
وقد حسم أمر الانحياز إلى الثقافة.. شخصية جمال عبدالناصر.. الذى كان موسوعى القراءة.. لدرجة أن دفاتر الاستعارة فى مكتبة الكلية الحربية تؤكد أنه قد قرأ كل الكتب الموجودة فى المكتبة.. وقد ظهرت هذه الثقافة لزعيم الثورة واضحة جلية.. ليلة نجاح الثورة.. عندما سأل زملاءه فى مجلس القيادة.. ماذا سنفعل مع الملك فاروق.. فرد صلاح سالم نحاكمه بسرعة ثم نعدمه.. فرد عبدالناصر «طالما سنعدمه يبقى إيه لزمة المحاكمة».. ثم سأل كل زملائه هل قرأتم رواية «قصة مدينتين».. فأجابوا جميعًا بالنفي.. فقال إنها رواية للأديب الإنجليزى تشارلز ديكنز.. وتتحدث عن الثورة الفرنسية.. وتؤكد أن الثورة التى تبدأ بالدم.. لن ينتهى فيها الدم.. بما يعنى أن الثقافة هى التى أنقذت رقبة الملك فاروق.. الذى خرج من مصر بوداع رسمى شديد الاحترام.. وقد اختار عبدالناصر الأستاذ فتحى رضوان.. لكى يتولى وزارة الإرشاد القومي.. تلك الوزارة التى تضم أعمال الثقافة والإعلام معًا.. وقد أصدر رضوان كتابًا مهمًا.. بعنوان 54 شهرًا مع عبدالناصر.. قدم من خلاله شرحًا وافيًا لكيفية إنشاء كل قواعد وأساسات الثقافة المصرية.. وكيف كان عبدالناصر مشجعًا وداعمًا ومحفزًا.. للدرجة التى جعلت رضوان يقيم أول نادى سينما فى ساحة قصر عابدين.. ليحضره الغلابة والبسطاء من فقراء هذا الوطن.. كما استعان رضوان بأصحاب الكفاءات ليديروا العمل الثقافي.. وفى مقدمتهم الأديب يحيى حقي.. الذى كان أول من يتولى إدارة مجلس الفنون والآداب.. واستطاع تقديم العديد من الإنجازات فى كل مجالات الفنون والآداب.. ومن أبرزها أوبريت يا ليل يا عين.. الذى يحتفى بإحدى قصص التراث الشعبي.. التى كانت مخبوءة فى حكاوى المصريين.
وبعد أن أدى الأستاذ فتحى رضوان دوره على أكمل وجه كان لا بد من القفز بالثقافة المصرية خطوات كبيرة وراسخة.. فقرر الرئيس عبدالناصر فى عام 1958 اختيار د. ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة.. وهى وزارة جديدة لم يكن لها مثيل فى كل وزارات مصر السابقة.. وهى الوزارة الثامنة على مستوى العالم.. وكان د. ثروت عكاشة فى ذلك الوقت سفيرًا لمصر فى إيطاليا.. فذهب إلى صديقه جمال عبدالناصر غاضبًا ورافضًا تولى منصب الوزير.. وعلى مدى أربع ساعات.. دار حوار ساخن بين الصديقين.. قدم عكاشة تفاصيله فى مذكراته.. ولم يتوقف هذا النقاش إلا عندما قال عبدالناصر «يا ثروت الثورة مش جاية تبنى مصانع وعمارات بس.. الثورة لازم تبنى الإنسان».. وبعد هذه الكلمات وافق عكاشة على تولى منصب وزير الثقافة كأول مصرى يتولى هذا المنصب.. وفى اليوم التالى ذهب إلى مكتب عبدالناصر.. يحمل بين يديه خطة شديدة الطموح للعمل الثقافى فى مصر.. من خلال إنشاء مؤسسات ضخمة ومؤثرة «هيئة المسرح – مؤسسة النجار للفنون الشعبية – الثقافة الجماهيرية – هيئة الكتاب – أكاديمية الفنون... إلخ.. متخيلًا أن عبدالناصر سوف يرفض كل تلك المشروعات الطموحة.. خاصة أن الرجل قد بدأ بالفعل خطة التصنيع العملاقة.. بإنشاء مصنع الحديد والصلب عام 1957.. وكانت المفاجأة أن عبدالناصر قد وافق على كل تلك المشروعات.. بل وأضاف بخط يده خطة عمل الثقافة الجماهيرية.. وحتمية وصولها إلى كل القرى والنجوع.. للبحث عن الموهوبين فى كل المجالات.
وعلى مدى أربع سنوات، راح د. ثروت عكاشة ينفذ خططه الثقافية المستنيرة.. فبرز المسرح بنهضة غير مسبوقة.. خاصة بعد إرسال كثير من الفنانين الشباب مثل كرم مطاوع – نبيل الألفى – حمدى غيث... إلخ.. إلى بعثات فى الخارج للتعرف على أهم التقنيات المسرحية.. وعملت هذه النهضة على تفريخ جيل كامل من كتب المسرح المتميزين مثل محمود دياب – ألفريد فرج – سعد الدين وهبة – نعمان عاشور... إلخ.
وحدث نفس الشيء فى السينما على يد مجموعة كبيرة من المخرجين المبدعين صلاح أبوسيف – كمال الشيخ – يوسف شاهين – عزالدين ذو الفقار... إلخ.
كما نجحت مؤسسة السينما فى إنتاج العديد من الأفلام.. التى أصبحت من كلاسيكيات السينما المصرية.. والتى تحتل قمة التصنيف.. عند فرز أهم مائة فيلم أو أكثر أو أقل.
والأهم من كل هذا أن المؤسسات الثقافية.. التى خرجت من رحم المشروع الثقافى لثورة يوليو.. عاشت وواصلت العطاء.. رغم التقلبات السياسية والمجتمعية.. التى شهدتها مصر منذ منتصف السبعينيات وحتى الآن.. فما زالت هذه المؤسسات موجودة وقادرة على العطاء.. بل قادرة على أن تكون حائط الصد الأقوى.. ضد كل الأفكار المتطرفة الهدامة.. وإذا كانت الأجهزة الأمنية منوط بها مقاومة الإرهابيين.. فإن الأفكار الإرهابية.. التى تفرز هؤلاء الإرهابيين.. لا يمكن مقاومتها والقضاء عليها إلا بالثقافة والاستنارة.. ولذلك علينا أن نستلهم أهم النقاط المضيئة فى مشروع ثورة يوليو الثقافي.. نستلهم لنضيف ما يمكن أن يفيدنا فى مواجهة تحديات العصر الذى نعيشه.. ورغم خطورة تلك التحديات.. إلا أن الثقافة المستنيرة قادرة على سحقها.