لسنوات كثيرة ظل القطاع التعدينى فى مصر مهمشًا، أرباحه لا تتناسب بأى شكل مع الثروة الهائلة التى تحفظها الأراضى المصرية، غير أن هذا كله بدأ فى التلاشى بعدما بدأت الدولة المصرية فى اتخاذ خطوات جادة لوضع وتنفيذ استراتيجية واضحة للاستفادة من ثروات مصر المعدنية، ورفع مساهمة قطاع التعدين فى الناتج المحلى الإجمالى من 1 إلى 6 فى المائة، ومن أحدث هذه الخطوات توقيع عقود مجمع مصانع الفوسفوريك بالوادى الجديد، حيث أكد الخبراء أن التحول من تصدير الخامات المدفونة فى الرمال بالصحراء بأزهد الأسعار، يمكن أن يمنح الاقتصاد المصرى ثروة تدر ما يقرب من 100 مليار جنيه سنويا إذا تم التوسع فى تصنيع تلك الخامات ومنحها قيمة مضافة قبل تصديرها.
محافظة الوادى الجديد، أبرمت العقود النهائية لتنفيذ مجمع مصانع حمض الفوسفوريك بين مساهمى المشروع، كذلك عقد المقاول العام مع تحالف شركتين صينيتين لتنفيذ المجمع الصناعى لتعظيم القيمة المضافة من الخامات التعدينية بإجمالى تكلفة استثمارية 658 مليون دولار، ويستهدف المجمع فى مرحلته الأولى إنتاج 250 ألف طن من حامض الفوسفوريك التجارى عالى التركيز، باستخدام خامات الفوسفات المستخرجة من مناجم أبو طرطور بدلا من تصدير خام الفوسفات مباشرة.
أعين الدولة لم تكتف بالنظر إلى الفوسفات، بل أعلن الفريق المهندس كامل الوزير عن إنشاء محطة تداول واستقبال خام الحديد لتحويل مصر إلى مركز عالمى لتصنيع وتجارة الحديد، مؤكدا أن «مصر حاليا تستورد خام الحديد لكنها ستتجه قريبا إلى تصنيعه محليًا».
تمتلك مصر مليارات الأطنان من الخامات المعدنية المتنوعة، كلها خيرات مدفونة وحتى ما يستخرج يجرى تصديره خاما بأسعار زهيدة منذ عشرات السنوات، بينما مؤخرا بدأت الدولة تتجه نحو الصناعات التحويلية لتلك الخامات لكن بخطوات بطيئة، لذا طالب الخبراء بضرورة وضع خطة قومية عاجلة لسرعة استغلال ثروات مصر التعدينية وتصنيع الخامات لزيادة الدخل القومى ومواجهة الأزمات الاقتصادية بأيدى مصرية.
وفى هذا السياق، قال الدكتور محمود فهمى، عضو مدير إدارة الخامات والمناجم بالشركة المصرية للسبائك الحديدية، إن خام الفوسفات يتم تصديره خام، إلى جانب وجود بعض المصانع الصغيرة التى تستخدمه فى تصنيع الأسمدة الفوسفاتية وبعض الأحماض الكيميائية ولكن على نطاق محدود، أما بعد إقامة المجمع الصناعى الجديد سيكون هناك استغلال أكبر لخام الفوسفات بقيمة مضافة مرتفعة.
وأضاف: بالطبع الدولة تنبهت مؤخرا لأهمية تصنيع الخامات ومنها «الكوارتز» وهو خامة استراتيجية ذات أهمية تصنيعية كبرى، فتم منع تصدير الخام كما طالبت أصحاب مناجم استخراج الكوارتز بتصنيعه لإضافة قيمة مضافة عليه قبل التصدير، كما افتتح الرئيس عبدالفتاح السيسى بالعين السخنة مصنعا للكوارتز منذ ثلاث سنوات، وبالفعل يتم تصنيع ألواح الكوارتز بدلا من استيرادها من الخارج، وهناك شركة فى إدفو بمحافظة أسوان تتبع قطاع الأعمال تقوم بتصنيع الكوارتز واستخدامه فى صناعة سبيكة سليكون والتى تستخدم فى صناعة الحديد والصلب، أيضا هناك تجهيزات لعمل مشاريع خلايا الطاقة الشمسية من الكوارتز، وهناك مشروع جارٍ تنفيذه حاليا لإقامة مصنع بالعلمين تابع لقطاع الأعمال لعمل سبيكة السليكون «ميتال» وهى سبيكة كوارتز عالى المقام، وهى تعد المرحلة الأولى من الخلايا الشمسية، كما أن تصريحات وزير الصناعة بتحويل مصر لمركز عالمى لصناعة خامات الحديد خطوة هامة خاصة أننا نمتلك خامات الحديد فى أسوان والواحات ويتم تصديرها مباشرة، وبالتالى إتاحة الفرصة للمستثمرين الأجانب لعمل مصانع لإنتاج الحديد لدينا بشرط استخدام الخامات المصرية سيكون له مردود اقتصادى كبير.
«د.محمود»، أوضح أن «رؤية الدولة للثروة المعدنية أصبح أكثر عمقًا، بدليل تغيير مسمى هيئة الثروة المعدنية فأصبحت هيئة اقتصادية وتحول اسمها إلى هيئة الثروة المعدنية والصناعات المعدنية، فلم تعد مهمتها ترخيص وتأجير المناجم والمحاجر، بل أصبح هناك اهتمام بالتصنيع، وبخلاف تعديلات القانون لعمل قيمة مضافة على الخامات المعدنية، حاليا التحرك نحو الخامات الاستراتيجية مثل الفوسفات والكوارتز والحديد ورمل السيلكا بالزعفرانة والمستخدم فى صناعة الزجاج، ومن المنتظر التوسع فى استغلاله خلال الفترة المقبل».
«د.محمود»، انتقل بعد ذلك للحديث عن دور القطاع الخاص، مطالبًا بأن يكون له دور فعال إلى جانب قطاع الأعمال فى عمل مصانع للخامات واستغلالها فهى مشروعات مربحة لكنها تتطلب رؤوس أموال مرتفعة.
بدوره، أوضح الدكتور مصطفى إسماعيل، خبير استشارى فى العلوم الجيولوجية، مدير عام سابق بهيئة الثروة المعدنية، أن «الوادى الجديد به نحو مليار طن من خامات الفوسفات، وبالفعل تم التفكير والحديث عن مجمع حمض الفسفورريك منذ خمس سنوات تقريبا، بينما حاليا بدأت الخطوات الجدية فى التنفيذ، لكن هناك عائق يجب حله سريعًا وهو الخاص بالنقل، فخط قنا سفاجا الوادى الجديد تم سرقة جزء كبير من قضبانه الحديدية منذ عدة سنوات، ويجب سرعة إحياء هذا الطريق لضمان نجاح المشروع، أيضا هناك منطقة ذات أهمية كبرى لخام الفوسفات يجب سرعة الاستثمار بها وهى وادى النيل بين قنا والبحر الأحمر، حيث يوجد بها مليار ونصف المليار طن من خامات الفوسفات والمسافة بينها وبين موانئ البحر الأحمر لا تتجاوز 200 كيلو متر وبالتالى يسهل التصنيع بها تمهيدا للتصدير أو الاحتياجات المحلية أيضا».
«د.مصطفى»، أكد أن «هيئة الثروة المعدنية لديها خرائط وبيانات بحجم احتياطيات مصر من الخامات المعدنية، فمصر لديها 43 نوعًا من الخامات منها 18 خامة ذات وفرة بكميات تساهم فى التصنيع الاقتصادى، لكن ما يحدث حاليا عمليات تصدير جائر للخامات المعدنية، ومن أهمها الحديد والمنتشر بالواحات لكن يتم تصديره مباشرة إلى الصين فلديهم أفران متقدمة للتصنيع، وبالتالى يجب سرعة إقامة مجمع للحديد والصلب بالواحات البحرية مع استغلال الفحم والمقدر بنحو 120 مليون طن فى تلك المنطقة لتوليد الكهرباء لتشغيل مصنع الحديد».
وأضاف: لدينا ثروة هائلة من خامات مواد البناء، فمصر رقم 3 عالميا فى امتلاك الخامات المحجرية، والاهتمام بالتصنيع يجعلنا رقم واحد فى إنتاج مواد البناء، فيجب سرعة الاستفادة منها خاصة الحجر الجيرى والرمال، فهناك جبل الضوى فى القصير به خامات تمتد 30 كيلو مترا يمكن استغلاله فى صناعة الأسمنت، أيضا جبل المطلة جنوب سيناء وجبل أبو حاد بنطاق المثلث الذهبى، كذلك لدينا كنز من خام الملح والذى يستخدم فى عشرات الصناعات الكيماوية وصولا إلى ملح غسالات الأطباق فلدينا 5 مليارات طن أغلبها بمنخفض القطارة وسيوة فيجب عمل مصانع لغسيل وتصنيع الملح.
كذلك، تحدث «د.مصطفى» عن الرمال البيضاء المنتشرة بطريق مرسى علم على امتداد 400 كيلو، وسمك من 80 إلى 100 متر من طبقة الأرض، حيث تستخدم فى صناعة أشباه الموصلات وألواح الطاقة الشمسية، فسعر تصدير الطن خام 100 دولار لكن بعد التصنيع محليا يرتفع لما بين 10 إلى 20 ألف دولار، كما أن مصر لديها الرمال السوداء وهى من ضمن المعادن النادرة، وبالفعل لدينا مصنع واحد لكن هناك احتياطى نحو 500 مليون طن، وبالتالى مطلوب عمل أكثر من مصنع، على حد قوله.
وشدد «د.مصطفى»، على أن «استغلال الثروة المعدنية لمصر وإقامة صناعات متعددة عليها يمكن أن يحقق نحو 100 مليار جنيه سنويا من التصدير بعد تحقيق قيمة مضافة للخامات بما يرفع من مساهمة قطاع التعدين فى الناتج القومى الإجمالى، وليتحقق ذلك يجب تيسير إجراءات إنشاء الشركات الخاصة بالتعدين والعمل على مشاركة الشباب فى الخامات ذات التكلفة الاستثمارية أقل من 5 ملايين جنيه مثل الماغنيسيوم والكوارتز، كذلك إقامة وزارة مستقلة للتعدين مع دعم الشركات المساهمة وتيسير إجراءات المصانع العاملة بهذا المجال».
من جهته أكد تامر أبو بكر، رئيس غرفة البترول والتعدين باتحاد الصناعات، أن «مصر تستورد 55 فى المائة من احتياجاتها من المواد الخام الخالصة أو النصف مصنعة بأسعار مرتفعة بسبب النقل، لكننا نمتلك أغلب هذه الخامات نحن بحاجة إلى استخراجها وتصنيعها لتوفير تكاليف الإنتاج والاستيراد، وبالفعل مصر تمتلك قاعدة صناعية كبرى يمكن أن تتضاعف عشر مرات، ومن أهم مقومات الصناعة هى توافر المواد الخام وبالفعل صحراء مصر مليئة بالخامات الهامة، فمثلا الحجر الجيرى يدخل فى صناعة 3 آلاف منتج نهائى، بدءا من أدوات التجميل ووصولا إلى مواد البناء، وإذا تحدثنا عن الملح فنسبة الجزء المخصص للطعام لا تتجاوز 3 فى المائة، لكنه يدخل فى آلاف الصناعات بما يقدم قيمة مضافة للاقتصاد مع توفير آلاف فرص العمل وتقليل استيرادنا من منتجات نهائية أو نصف مصنعة بما يوفر العملة الصعبة، بخلاف زيادة التصدير وخاصة السوق الإفريقية مفتوحة أمامنا ومتعطشة لمنتجاتنا» .
«أبو بكر»، أضاف: بدأنا نشعر باهتمام الدولة بقطاع التعدين منذ 12 عاما حينما طالب الرئيس عبدالفتاح السيسى الاهتمام بالتعدين، وبدأنا فى تغيير القانون سنة 2014 ثم 2019، ورغم تميز سطح مصر بأننا دولة مسطحة، ولدينا موانئ وخبرات ماهرة من الجيولوجيين، لكننا غير قادرين على تسويق أنفسنا، هناك بعض التحديات أمام استغلال تلك الثروات أهمها البيروقراطية فى الجهاز الإدارى للحكومة سواء بهيئة الثروة المعدنية أو الجهات الخاصة بالتراخيص، أيضا عدم طرح أراضى وفقا لخطة محددة، خاصة أن نتائج الطرح لا نراها إلا بعد 5 سنوات من العمل الجاد، فيجب طرح عوامل جذب للمستثمر الأجنبى فى هذا المجال فهم يمتلكون أحدث تكنولوجيا لتجهيز المناجم واستكشافها ويتحملون التكاليف العالية للتعدين والاستكشاف مقابل الحصول على حصص محددة، أما أهم عائق فهو عدم وجود نماذج للتعاقد فلا يوجد وضوح وشفافية فى هذا الملف أمام الشركات العالمية الكبرى العاملة فى مجال التعدين».

