رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ريادة مصر فى السياسة الخارجية.. استقلال القرار وبناء التوازنات الدولية


5-7-2025 | 12:14

.

طباعة
بقلـم: د. عمرو حسين

منذ اندلاع ثورة 30 يونيو عام 2013، دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها السياسى والدبلوماسي، عنوانها الأبرز استعادة الريادة الإقليمية والدولية، واستعادة الدولة المصرية قدرتها على الفعل لا مجرد التفاعل. فعلى مدار سنوات طويلة سبقت الثورة، عانت السياسة الخارجية المصرية من التراجع والجمود، تحت وطأة الأزمات الداخلية، والانكفاء على الذات، وفقدان الرؤية الاستراتيجية الواضحة، إلا أن التحولات العميقة التى أعقبت الثورة، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، أعادت صياغة موقع مصر فى العالم على أسس جديدة، قوامها استقلال القرار الوطني، وتنويع الشراكات، والانخراط النشط فى القضايا الإقليمية والدولية.

 

أولًا: استقلالية القرار الوطني.. إعادة تعريف العلاقات الدولية

تعد استقلالية القرار السياسى والدبلوماسى من أبرز ملامح السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 30 يونيو. فالدولة المصرية، بقيادة مؤسساتها السيادية، قررت أن تمارس سيادتها الخارجية دون وصاية أو تبعية لأى قوة دولية، مهما كانت درجة تحالفها معها. هذا التوجه ظهر مبكرًا فى الموقف من الضغوط الأمريكية والأوروبية التى أعقبت عزل جماعة الإخوان من الحكم، حيث تمسكت القاهرة برؤيتها الوطنية دون التفريط فى مصالحها أو هيبتها السياسية.

وقد أعاد هذا المبدأ تعريف علاقة مصر بالقوى الدولية: لا خصومة مع أحد، ولا تحالف على حساب الآخر. فمصر لا تنتمى إلى محور سياسى ضد محور آخر، بل تسعى إلى تكوين شبكة مصالح متداخلة مع مختلف الأطراف، بما يخدم أمنها القومي، ويعزز من استقلاليتها الاستراتيجية.

ثانيًا: توازن الشراكات الدولية: من القطب الواحد إلى التعددية

من أبرز ما ميّز السياسة الخارجية المصرية فى عهد الرئيس السيسى هو تنويع الشراكات الدولية وتجاوز نموذج الاعتماد على طرف واحد. فبدلًا من الارتكان إلى الولايات المتحدة كمرجعية شبه حصرية فى الشئون الدولية –كما كان الحال فى العقود السابقة– بدأت مصر بتبنى شراكات استراتيجية متوازنة مع القوى الدولية الصاعدة والكبرى.

مع الولايات المتحدة:

رغم التوتر الذى ساد العلاقات المصرية-الأمريكية بعد ثورة 30 يونيو، بسبب موقف إدارة أوباما المُنحاز لجماعة الإخوان، نجحت مصر فى فرض احترام قرارها السيادي، وأجبرت واشنطن لاحقًا، عبر الإدارات المتعاقبة، على الاعتراف بأن القاهرة شريك لا يمكن تجاوزه. وجاءت العلاقات الأمنية والعسكرية لتؤكد عمق المصالح المشتركة بين الطرفين، خصوصًا فى ملف مكافحة الإرهاب والتعاون الاستخباراتى والعسكري.

مع روسيا:

العلاقات المصرية-الروسية شهدت انطلاقة جديدة بعد 2014، فى إطار رؤية مصرية واضحة لبناء تحالفات استراتيجية متعددة. وتم توقيع اتفاقيات كبرى، فى مقدمتها إنشاء محطة الضبعة النووية، والتوسع فى صفقات السلاح، والتنسيق المشترك فى ملفات ليبيا وسوريا. وتُعد روسيا بالنسبة للقاهرة شريكًا استراتيجيًا مستقلًا عن الغرب، يوفر لمصر عمقًا دوليًا وخيارات بديلة.

مع الصين:

فى سياق التوجه شرقًا، طورت مصر علاقاتها مع الصين فى إطار مبادرة الحزام والطريق، وأصبحت شريكًا أساسيًا لبكين فى إفريقيا والشرق الأوسط. وقد وقّعت القاهرة عشرات الاتفاقيات الاستثمارية مع الجانب الصيني، شملت البنية التحتية، والنقل، والطاقة، والتكنولوجيا، خصوصًا فى مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة، ومنطقة قناة السويس.

ثالثًا: استعادة مصر لمكانتها فى إفريقيا.. من التراجع إلى الريادة

القارة الإفريقية كانت تمثل عمقًا طبيعيًا لمصر، إلا أن العقود السابقة شهدت تراجعًا مصريًا واضحًا فى التفاعل مع القضايا الإفريقية، ما أتاح لقوى إقليمية ودولية أخرى ملء الفراغ، لكن عقب ثورة 30 يونيو، سعت مصر لاستعادة دورها التاريخى فى إفريقيا، ونجحت فى ذلك تدريجيًا من خلال أدوات سياسية ودبلوماسية واقتصادية متكاملة.

رئاسة الاتحاد الإفريقي:

شكّلت رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى عام 2019 تتويجًا لاستراتيجية العودة الإفريقية. فخلال هذه الفترة، طرحت مصر عددًا من المبادرات، أبرزها «منتدى أسوان للسلام والتنمية»، و«المنصة الإفريقية لإعادة الإعمار والتنمية»، فضلًا عن اهتمامها بملفات الأمن الغذائى والمائى والرقمي، وتقديم الدعم الفنى والتقنى للدول الإفريقية.

الأمن والاستقرار:

لم تكتفِ مصر بالدور التنموي، بل مارست دورًا محوريًا فى حفظ الأمن والاستقرار فى القارة، من خلال الوساطات الدبلوماسية فى السودان، ودعم الاستقرار فى الصومال، والمساهمة فى بناء القدرات العسكرية لعدد من الدول الإفريقية من خلال أكاديمياتها ومؤسساتها الأمنية.

رابعًا: الحضور العربى.. مصر قلب العروبة النابض

بعد فترة من الجمود، استعادت مصر موقعها المركزى فى المنظومة العربية، خصوصًا فى ظل الأزمات الكبرى التى تعصف بالمنطقة، كالأزمة السورية، والليبية، واليمنية، وملف القضية الفلسطينية.

القضية الفلسطينية:

تعتبر القضية الفلسطينية حجر الزاوية فى السياسة الخارجية المصرية. فمصر ما زالت الراعى الأول للحوار بين الفصائل الفلسطينية، وهى الطرف المحورى فى مفاوضات التهدئة بين غزة وإسرائيل، كما كانت المبادرة المصرية دائمًا حاضرة فى كل جولة تصعيد، وكان دورها حاسمًا فى وقف إطلاق النار فى 2021 و2023.

وقدمت مصر دعمًا ماليًا ولوجستيًا للشعب الفلسطيني، وساهمت فى إعادة إعمار غزة، واستضافة الحوارات الوطنية الفلسطينية، وبلورت رؤى دبلوماسية لإنهاء الانقسام.

الملف الليبي:

فى ليبيا، لعبت مصر دورًا متميزًا فى دعم التسوية السياسية، وكانت راعية مبادرة «إعلان القاهرة»، ودعمت الجيش الوطنى الليبى فى مواجهة الميليشيات. وتستند السياسة المصرية فى ليبيا إلى رفض التدخلات الأجنبية، ودعم الحل السياسى الذى يحفظ وحدة الدولة الليبية ومؤسساتها.

العلاقة مع دول الخليج:

العلاقات المصرية مع دول الخليج (السعودية، الإمارات، البحرين، الكويت) شهدت نقلة نوعية، وتحولت إلى شراكة استراتيجية كاملة تشمل الأمن والسياسة والاقتصاد. وتم تنسيق المواقف فى القمم العربية والإسلامية، والعمل المشترك فى مواجهة النفوذ الإيرانى والتطرف السياسى والديني.

خامسًا: الانفتاح على أوروبا.. بناء الشراكة مع الغرب دون تبعية

اتبعت مصر سياسة انفتاح مدروسة مع أوروبا، وركزت على بناء علاقات نفعية متبادلة تشمل الاقتصاد والأمن والطاقة والمناخ.

وقد شهدت العلاقات مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان وقبرص زخمًا كبيرًا، حيث تم توقيع اتفاقيات دفاعية واقتصادية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون فى ملف الطاقة، وخاصة الغاز فى شرق المتوسط. كما شارك الرئيس السيسى فى العديد من القمم الأوروبية، وأبدى اهتمامًا خاصًا بمسائل الهجرة غير الشرعية، والتنمية المستدامة، والتغير المناخي.

زيارات الدنمارك والنرويج:

شكلت زيارة الرئيس السيسى إلى الدنمارك والنرويج علامة فارقة فى تعزيز العلاقات مع دول الشمال الأوروبي، وفتحت الباب أمام استثمارات فى الطاقة المتجددة، والمياه، والتكنولوجيا النظيفة، وأكدت أن مصر شريك مهم فى الاستقرار الإقليمى والبيئي.

سادسًا: التوسع جنوبًا وشرقًا.. حضور فى أمريكا اللاتينية وآسيا

ضمن استراتيجية تنويع التحالفات، توجهت السياسة المصرية نحو أمريكا الجنوبية وآسيا لتعزيز التوازن فى علاقاتها الدولية.

فى أمريكا الجنوبية، طورت مصر علاقاتها مع البرازيل، الأرجنتين، المكسيك، وأقامت شراكات اقتصادية وثقافية، وسعت إلى فتح أسواق جديدة أمام المنتجات المصرية.

وفى آسيا، شملت الشراكات دولًا مثل الهند، وكوريا الجنوبية، واليابان، من خلال التبادل التجارى والتعاون التقنى والاستثماري، خاصة فى مجالات الدواء والتكنولوجيا والطاقة.

سابعًا: الدور فى القضايا الدولية.. من الوسيط إلى صانع الاستقرار

برز الدور المصرى كوسيط سياسى فى العديد من الأزمات الدولية، إذ مارست القاهرة دبلوماسية هادئة ولكن فعالة، عززت من مكانتها كمركز للثقة والاعتدال فى عالم يعانى من الاستقطاب.

الملف النووى الإيراني:

اتخذت مصر موقفًا متوازنًا من الملف النووى الإيراني، فأكدت أهمية خلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، لكنها فى الوقت ذاته رفضت التصعيد العسكرى أو فرض سيناريوهات المواجهة، مفضلة الحلول الدبلوماسية والعودة إلى الاتفاقات الدولية كأرضية للتفاوض.

قضايا المناخ والطاقة:

أصبحت مصر فاعلًا رئيسيًا فى قضايا البيئة والطاقة المتجددة، وتم تتويج ذلك باستضافة مؤتمر المناخ COP27 فى شرم الشيخ، حيث طرحت مصر نفسها كقوة إقليمية تجمع بين التنمية والاستدامة.

منذ ثورة 30 يونيو، لم تعد مصر مجرد طرف فى معادلات إقليمية أو دولية تصوغها قوى خارجية، بل باتت قوة صاعدة تمتلك أدواتها، وتحدد أولوياتها، وتبنى توازناتها باستقلالية. نجحت السياسة الخارجية المصرية فى تحقيق توازن نادر بين الانفتاح والتماسك، وبين المبادرة والحذر، وبين المصالح القومية والالتزامات الأخلاقية.

وفى عالم مضطرب تشتد فيه النزاعات وتضعف فيه المؤسسات الدولية، تقدم مصر نموذجًا فريدًا فى القيادة المسئولة، والوساطة النزيهة، والتحالفات الذكية، وهى ماضية بثبات نحو ترسيخ مكانتها كـ»دولة محورية» فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وصاحبة كلمة مسموعة فى المحافل العالمية.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة