رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

وعى البسطاء سبق حسابات النخبة


5-7-2025 | 12:22

.

طباعة
بقلم: طارق أبو السعد

تظل ثورة 30 يونيو حدثًا فريدًا فى نوعه، سواء فى مجرياتها أو آثارها التى تعدت القطر المصري، وأزعم أننا لم نسبر أغوار الثورة كما ينبغى، ولم نكشف عن أهم أسرارها بعد، وأزعم أيضا أننا لم نجِب عن أهم الأسئلة على الإطلاق، وهى كيف، ولماذا تحرك البسطاء والمهمشون من الشعب المصرى رافضين حكم الإخوان، فى وقت كان الصفوة والسياسيون والنخب يقف سقف مطالبهم عند تعديل الدستور وأن يوافق محمد مرسى الرئيس الإخوانى على انتخابات رئاسية مبكرة لا أكثر؟

 

كل المقالات التى كُتبت أو البرامج التى أُذيعت كانت تنقل رؤية الصفوة والمفكرين بأعينهم، وهذا جيد، لكنها رؤية مختلفة عن رؤية البسطاء للثورة وهى التى لم ينقلها أحد، أزعم أن البسطاء والعمال فى الحارات والأزقة وعلى المقاهى الشعبية وفى ورش الصنايعية، كانوا أكثر وعيًا بخطورة الإخوان، فهم الكتلة الحرجة التى طالما راهن الإخوان على امتلاكها أو على الأقل لن تخرج ولن ترجح كفة فى لعبة التوازنات السياسية، فكانت المفاجأة التى زلزلت الإخوان إلى الآن هؤلاء البسطاء، فهم أول مَن خرجوا ليعلنوا بوضوح رفضهم الجماعة ويطالبوا بإسقاطهم من الحياة السياسية والعامة، خرجوا فى تيار شعبى جارف حتى إنهم أجبروا النخب على تبنى مطالبهم.

ونضال الشعب المصرى البسيط وموقفه من 30 يونيو يؤكد أنه ذكى، ويقرأ الأحداث أسرع من النخب أو الرموز الاجتماعية، فهم المثقلون بحمولة شديدة التعقيدات والحسابات والارتباطات والمصالح والتحالفات، أما البسطاء فهم لا يعنيهم سوى الوطن، والصورة لديهم واضحة، ولديهم حساسية مفرطة يكتشفون بها الوطنى من الخائن.

فى مقال اليوم سنتتبع كيف نظم البسطاء ثورتهم الشعبية فى 30 يونيو، وكيف ولماذا سحبوا الشرعية الشعبية من الإخوان ومنحوها للمؤسسة العسكرية، مرورًا بالفرح الشعبى التام والكامل بعد بيان وزير الدفاع وقتها الفريق أول عبدالفتاح السيسى، مساء يوم الأربعاء 3 يوليو، وانحيازه إلى الشعب.

المشهد الأول: الشارع المصرى يسبق الجميع ويقرر الحل

بدأ الغضب الشعبى تجاه الإخوان فى منتصف نوفمبر 2012، فقد أدرك الشعب أن تسلل الإخوان للحكم أكبر جريمة حدثت فى تاريخ مصر، فقرروا تصحيح الخطأ فإذا كانت الجماعة تسلقت رقاب المصريين لتصل للحكم عبر أصوات المخدوعين، فإن تصحيح الخطأ هذه المرة سيكون عبر أصواتهم التى تخرج من حناجرهم لتعلن إسقاطهم.

فى مدينتى دمنهور كنا نتحرك يمينا ويسارا للبحث عن الخروج من المأزق الإخوانى، وكانت كل أحلامنا لا تتجاوز «انتخابات رئاسية مبكرة»، ولا بأس أن يرشح الإخوان مرسى أو غيره، ولم نتخيل أن الشعب المصرى البسيط كان أسبق من الجميع، وقرروا من أنفسهم إنهاء حكم الإخوان، وسحب الشرعية الشعبية منهم، ومنحها للمؤسسة العسكرية.

ذهبت إلى منطقة شعبية بدمنهور تمتلئ بالورش والعمال، وعلى مقهى بسيط رأيت مجموعة تقترب من 20 شخصًا، تحلقوا جميعًا حول مائدة صغيرة، وُضع عليها العديد من أكواب الشاى الفارغة، كانوا يحتسون الشاى، ويدخنون السجائر، وبعضهم كان يدخن الشيشة، غير أن ما يميزهم هو حديثهم الجاد وأصواتهم المرتفعة، التى تبينت منها أنهم يستعدون للخروج فى مظاهرة 30/6، وأمام التكلفة المادية لتأجير سيارة ومكبر صوت وسماعات؛ قرروا جمع التكلفة، كلٌّ حسب طاقته، فمنهم مَن دفع أكثر، ومنهم مَن دفع أقل، وعندما حاول أحدهم الدفع بدلا من أحد العمال نظرا لظروفه المالية رفض بكل إباء، وأقسم على أن يشارك مثل أى منهم، وجمعوا جنيهاتهم القليلة، ولكن ظهرت أمامهم معضلة أخرى.

لم يكونوا يعرفون كيف يهتفون، فهم ليسوا من رجال المظاهرات، ولا محترفيها، لم يكونوا يعرفون ماذا يقولون، هم يريدون أن يعبروا عن غضبهم وعن رفضهم للإخوان، اقترح أحدهم أن يشغلوا أناشيد وطنية فى السماعات، واقترح النشيد الوطنى «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى»، واقترح أحدهم تشغيل أغانى الانتصار فى 73 مثل «السمرة بلادى»، أما أكثرهم خبرة فقال: لا بد من تجمعنا أن يعبر عن رفضنا للإخوان، واقترح أن يكتبوا لافتة بخط أيديهم يرفعونها كشعار ويهتفون به، فطالبوا منه أن يقترح شعارًا، فقال نهتف بشعار «يسقط يسقط حكم المرشد» أو «انزل يا سيسى.. مرسى مش رئيسى»، كانت المرة الأولى التى أسمع فيها هذا الهتاف.

الشارع المصرى يسبق الجميع، وشعارهم العبقرى العفوى «يسقط يسقط حكم المرشد» خير دليل، فهم لم يطالبوا بتعديل دستور ولا بانتخابات رئاسية مبكرة، بهذا الشعار حددوا مطلبهم الوحيد، أعلنوا أن عداءهم ليسمع «مرسى» وحزبه، إنما مع الجماعة فى الشخصية الاعتبارية للمرشد، ثم الشعار الأكثر عبقرية وهو «انزل يا سيسى.. مرسى مش رئيسى» الذى به سحبوا الشرعية من الإخوان، ومنحها للقوات المسلحة فى الشخصية الاعتبارية للمؤسسة العسكرية ووزير الدفاع وقتها، بهذين الشعارين العبقريين اختصروا الأزمة وهى وجود الإخوان، ووضعوا لها الحل بيد المؤسسة العسكرية.

لماذا اختار الشعب المؤسسة العسكرية ليمنحها ثقته وشرعيته؟، فقد علم الشعب على مر العصور أنها هى المؤسسة الوحيدة التى لم يصِب رسالتها الفساد، ولم تتحول عن هدفها حتى بتغير قادتها فهم أقسموا على حماية الوطن «شعبًا ومؤسسات وحكومة»، وأنها لن تتحرك إلا لحمايته، وأن دعوتهم للفريق أول عبدالفتاح السيسى بالنزول، أى أنهم يطلبون منه أن يحكم الشارع، وأن يحكم الدولة، وأن يخلّصهم من الإخوان.

المشهد الثانى: المصريون أصحاب الأرض وليسوا رعايا المرشد

جاء اليوم الموعود الأحد 30 يونيو، ورأيت بأم عينى نفس مجموعة العمال يتحركون بسيارتهم المؤجرة، ضمن غيرهم من مجموعات متشابهة تشابهًا لحد التطابق، يجمعهم نفس الحرقة وذات الألم والإحساس بالضياع، كان وجود الإخوان فى حد ذاته كفيلًا بزرع الخوف على مستقبل الدولة المصرية، وأنها تُسرق منهم، وأنهم لن يكونوا مصريين فى وطنهم، بل سيكونون رعايا المرشد.

شهد يوم الثورة الأول تحركًا شعبيًّا جارفًا، فامتلأت ساحات مدينة دمنهور بالشعب المصرى الحقيقي، واختلط البسطاء مع الصفوة وكبار السياسيين، الكل ذاب فى تيار شعبى مصرى أصيل، وكل مَن أراد أن يستثمر لحظة الثورة فى مكاسب سياسية طُردوا من الميادين، لم يبقَ فى الشارع إلا المخلصون البسطاء المهمشون الذين دفعوا من جيوبهم ثمن «30/6»، وما بعدها.

لم يكن لهم قائد ولا زعيم ولا خطيب، استمر عمال الورش وعمال ورش الخشب وعمال المصانع وعمال المعمار كمعتصمين أمام مبنى محافظة البحيرة، لا أعلم لماذا اختاروا مبنى المحافظة، ربما لأن محافظ البحيرة وقتها كان أحد قيادات الإخوان، وأن بقاءه فى المحافظة ودخوله لممارسة عمله أمر مرفوض من قِبل الشعب الثائر.

وفى صباح الاثنين استمر الاعتصام، ووصل لأسماع المتظاهرين أن المحافظ الإخوانى اجتمع برؤساء الأحياء خارج مبنى المحافظة، وأخبرهم أن مظاهرة 30/6 ستنتهى بعد ساعات وعليهم أن يستعدوا لتنظيف الشوارع من مخلفات المتظاهرين، استشاط المتظاهرون غضبًا، وقرروا جمع كل مَن ذهب لبيته ليستريح، فتدفق الآلاف أمام المحافظة يهتفون بهتافات متداخلة، وبدا عليهم الغضب أكثر، واستمروا فى غضبهم حتى بعد أن خرج وزير الدفاع، وأمهل الجميع 48 ساعة لوضع حل للأزمة الداخلية التى تهدد سلامة الوطن.

وفى يوم الثلاثاء فجرًا، سرت شائعة أن الإخوان سينقضون على الاعتصام لفضّه بالقوة كما فعلوا من قبل أمام «الاتحادية»، وأمام التوتر كنت أتحدث إلى رجل كبير فى السن، ربما يتعاون معى فى خفض التوتر قليلا، فابتدرته قائلا بأن الإخوان لن يفعلوها فهم مصريون أولا وقبل أى شيء، فقال بصورة شعبية عفوية: «أنت الظاهر مش من هنا، وباين لك ما تعرفش الإخوان»، ثم بلغة المعلم قال: «يا أستاذ.. الإخوان إرهابيين وخونة من زمان ولا بنعترفوا بمصريتهم».

وأعلن التليفزيون المصرى أن «محمد مرسى» سيخرج للشعب فى خطاب يوضح التحديات التى تواجه الدولة المصرية فى اللحظة الراهنة، تطلعت آمال السياسيين والنخب، وانشرحت أساريرهم؛ أملا فى أن يخضع مرسى لإرادة الشعب ويعلن عن انتخابات رئاسية مبكرة، وربما يضع خارطة زمنية مع إعلانه تعديل الدستور، أخبرت رفيقى المخضرم كبير السن والمقام بتلك التطلعات، فابتسم ساخرا: «هو انتو مش عاوزين تتعلموا ليه؟ مرسى إيه اللى يخضع لإرادة الشعب، يابنى ده مندوب الجماعة فى الرئاسة، ولن يقول إلا ما يمليه عليه خيرت الشاطر ومكتب الإرشاد»، وراهننى الرجل أن مرسى لن يقول شيئًا ذا قيمة سوى تمسكه بالشرعية، وسيهدد المتظاهرين بالإخوان وبإراقة الدماء، وأكد أن كل المنتظرين لخطاب مرسى بُلهاء، وأن الحل بيد وزير الدفاع ولكنه حل محفوف بالمخاطر، فهل يعرض نفسه للخطر من أجل الشعب؟ هكذا تساءل الرجل.

وصلت أخبار حزينة أن ثمة اعتداءات على المعتصمين فى الجيزة وإمبابة، وسقط جرحى قرابة 50، وبعض القنوات نقلت أن ثمة قتلى فى صفوف المتظاهرين بسبب هجوم الإخوان على المتظاهرين، نظر إلىّ الرجل المخضرم، وكله حزن، لأننا لم نفهم الإخوان على حقيقتهم بعد، وها هى الأحداث تؤيد ما قاله لنا بخبرة السنين.

وفى المساء وفى منتصف الليل خرج مرسى ليقول للناس إنه الشرعية، والخروج عليه خروج عن الشرعية، كررها عشرات المرات فى دقائق معدودات، ثم هدد بطرف خفى أن ثمة مَن يريد إراقة دماء هذا الشعب، تأكد لدىّ أن الشعب المصرى سابق للجميع، فقد عرف طريقه وعرف مشكلته وحدد عدوه ووضع الحل.

المشهد الثالث: الجيش ينحاز إلى الشعب

وفى صباح الأربعاء تحلق البسطاء فى أحد المقاهى المجاورة لمكان الاعتصام، منتظرين رد القوات المسلحة بعد انتهاء مهلة الـ48 ساعة، كنا جميعا لم نغادر الميدان، وكلما تأخر البيان توتر الناس، فالكل منتظر الكلمة النهائية من وزير الدفاع وليس من مندوب الإخوان فى الرئاسة، فالكلمة التى ستخرج ستحدد مصير الشعب لعقود تالية.

مما زاد توتر البعض من شائعات الإخوان أن وزير الدفاع سينحاز إلى مرسى تسربت للمتظاهرين، ورغم تكذيب الجميع للشائعة، فإن ثمة خوفًا دبّ فى القلوب، خشية أن يصدق الإخوان هذه المرة، وهم الكاذبون.

اشتد الخوف والترقب خصوصًا أن البيان تأخر للساعة التاسعة، عندها بلغت القلوب الحناجر، وتوقف الجميع وانتظروا ماذا سيعلن وزير الدفاع، وبدأ التليفزيون يذيع البيان، وشاهدنا وزير الدفاع يعتلى المنصة، وإلى جواره قادة الأحزاب وشيخ الأزهر وقداسة بابا الإسكندرية، ولاحظنا أن ثمة كرسيا فارغا لا يجلس عليه أحد.

وبعد مقدمة تلاها وزير الدفاع كانت على قصرها أطول مما يتحملها المتظاهرون فى الشارع المصري، وفور إعلانه عزل «محمد مرسى»، صرخ الجميع مهللين ولم يستمعوا لبقية البيان الذى تضمن عرض خارطة طريق سياسية للبلاد اتفق عليها المجتمعون، تتضمن تسليم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية العليا حتى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية.

انفجر الشارع المصرى بالتهليل والتكبير، رأيت النساء يتدفقن مع أزواجهن وأطفالهن، رأيت كبار السن وهم يلتحقون بالمتظاهرين، ليحتفلوا بانتصار الشعب، كان فرحًا ممزوجًا بالبكاء، أما الفرح فلأنهم تمكنوا من عزل الإخوان، وصححوا أخطاءهم، أما البكاء فكان خوفًا على الرجل الذى انحاز لهم وفرض إرادتهم، معرضًا نفسه للخطر، ووضع روحه على كفه كما يقولون؛ حبًا فى الوطن، وانتماءً للشعب وللبسطاء والمهمشين، بكاء لأن المهمة تمت بحمد الله، فإذا كانت 30 يونيو ثورة شعبية، فهى لم تكن تكتمل إلا بقرارات 3 يوليو التى استعادت الروح والذات والهوية الوطنية.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة