لم يترك المصريون مناسبة وطنية أو دينية أو اجتماعية إلا واحتفلوا بها عن طريق الموسيقى والغناء، وقد تركت لنا نقوش المعابد الفرعونية إرثًا عظيمًا من تلك الاحتفالات، خاصة فى وداع واستقبال الجيوش المحاربة، أو الطقوس الدينية، أو العادات الاجتماعية.
واستمرت تلك العادة عند المصريين على مر العصور، وهو ما كان يتواتره الأبناء جيلًا بعد جيل، إلى أن أظلنا عصر الأسطوانة والتسجيلات الصوتية بداية القرن العشرين وما بعده، فأصبح بالإمكان الإبقاء على تراثنا الغنائى مسموعا ومحفوظا لأجيال تالية، ومن ثم بتنا نمتلك رصيدا ضخما من أغنيات المناسبات، لا سيما تلك التى كانت تنتجها الإذاعة المصرية منذ بداية إرسالها الرسمى فى الحادى والثلاثين من مايو 1934، أو تلك التى غصت بها أفلام السينما المصرية قبل نحو مائة عام.
ويمكن التأكيد أن الغناء الدينى له نصيب وافر من هذه الأغنيات، ما يعكس اهتمام الفن المصرى بالاحتفالات الروحية، خاصة ما يتعلق بمناسبتى شهر رمضان المبارك وأداء فريضة الحج، وفى هذه المناسبة المباركة وحجاج بيت الله الحرام يؤدون مناسكهم، دعونى أستعرض سريعا أهم هذه الأغنيات التى واكبت أداء فريضة الحج بأصوات كبار مطربينا مع التأكيد أنها مجرد نماذج وليست حصرا.
فى عام 1910 وقبل نفيه إلى إسبانيا كتب أمير الشعراء أحمد شوقى قصيدته المشهورة «إلى عرفات الله»، وقيل إنه كتبها فى وداع الملك فؤاد وهو فى طريقه لأداء مناسك الحج، ولا أظن أن المعلومة دقيقة، فقد كان الخديو عباس حلمى الثانى صديق أحمد شوقى هو ساكن قصر عابدين، وليس الملك فؤاد الذى تولى العرش بعد السلطان حسين كامل الذى جاء عقب عزل الخديو عباس حلمى الثانى، على أثر إعلان الحماية البريطانية على مصر مع قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914، المهم أنه مع بدايات الخمسينيات أشار شاعر الشباب أحمد رامى على كوكب الشرق أم كلثوم بغناء هذه القصيدة بعد إجراء بعض التعديلات على أبياتها، فخرجت واحدة من أجمل القصائد الدينية التى واكبت هذه المناسبة الجليلة، ولأم كلثوم أغنية شهيرة أخرى هى «القلب يعشق كل جميل» غنّتها فى سنواتها الأخيرة من نظم محمود بيرم التونسى ولحن رياض السنباطى، ويقال إن الشيخ زكريا أحمد هو الذى كان من المفترض أن يقوم بتلحينها لولا أن وافاه الأجل، فجاءت واحدة من أجمل ألحان السنباطى، وهى الأغنية التى تقول فيها أم كلثوم: «دعنى لبيته لحد باب بيته ولما تجلى لى بالدمع ناجيته»، إلى آخر كلمات بيرم التونسى التى يصف فيها تجربته فى حج بيت الله الحرام.
وقدم المطرب صالح عبدالحى مع بدايات الإذاعة المصرية أغنية بعنوان «ضيف النبى مكروم» من تأليف بديع خيرى وألحان محمد القصبجى، كما كتب بديع خيرى أغنية أخرى غنتها أسمهان هذه المرة، هى «عليك صلاة الله وسلامه» من ألحان فريد الأطرش، وكذلك شدت كثير من المطربات أمثال نجاة على وحياة صبرى وأحلام ببعض الأغنيات فى هذه المناسبة العطرة، وهناك أكثر من أغنية للمطرب محمد الكحلاوى، ربما كانت أشهرها «لجل النبى» التى يصل فيها لزيارة مسجد رسول الله بالمدينة المنورة، حينما يقول: «دى القعدة حلوة والنبى عند النبى» كذلك للموسيقار محمد فوزى محاولاته فى هذا المقام، حتى إنه –على غير المعتاد فى الأفلام– قدم سنة 1948 فى فيلم «حب وجنون» من إخراج حلمى رفلة أغنية بعنوان «الله أكبر» من تأليف عبد العزيز سلام. يقول مطلعها: «ياللى انت زرت البيت وللحرم حجيت، من زمزم اتوضيت وع النبى صليت، نادى الهوى لبيت من فوق جبل عرفات، وبالسلامة جيت وعدت بالبركات».
غير أن أكثر أغنيات الحج انتشارا هى أغنية المطربة ليلى مراد «يا رايحين للنبى الغالى»، من تأليف أبو السعود الإبيارى، وألحان رياض السنباطى، وهى الأغنية التى يتم استحضارها عشرات المرات مع كل موسم حج واحتفال بعيد الأضحى المبارك، وبصرف النظر عن صحة الرواية الشائعة بأن ليلى مراد كانت تنوى أداء فريضة الحج، لكن ظروفا حالت دون ذلك، فأصرت على الغناء للذاهبين لأداء الفريضة داعية فى كلماتها أن يكتبها الله لها، فإن تلك الأغنية لم تكن مجرد أغنية فى مناسبة، وإنما كانت تحمل رسالة وتعبر عن موقف شديد الوضوح من جانب ليلى مراد تجاه ديننا الحنيف؛ ففى سبتمبر 1952 وقت أن كانت ليلى مراد فى باريس بصحبة أنور وجدى انتشرت شائعة زيارتها لإسرائيل وتبرعها بمبلغ خمسين ألف جنيه على خلفية أصولها اليهودية، وكانت ليلى تعد لفيلمها الأخير مع أنور وجدى «بنت الأكابر» الذى تم عرضه العام التالى، فأوعزت إلى المؤلف أبو السعود الإبيارى بكتابة أغنية فى وداع الحجيج مستغلة من موقف قيام جدها برحلته الحجازية وفق أحداث الفيلم، وقام رياض السنباطى بتلحينها بأجواء صوفية تعتمد على الكورال والدفوف، وغناء خاشع رزين يناسب جلال الموقف الدرامى وهيبة المناسبة الدينية التى قدمت فيها الأغنية من أجلها، كرسالة واضحة من جانب ليلى مراد على إخلاصها لإسلامها وتمسكها بدينها؛ ردا على الشائعة السخيفة التى طالتها فى تلك الفترة.
وبعد توقف الإذاعة المصرية عن إنتاج أغانى المناسبات، ومن بينها الإغنيات الدينية، وعدم حماس صُناع الأفلام لتقديم مثل هذه الأغنيات، اختفت تقريبا الأغنيات التى تواكب موسم الحج، اللهم إلا من بعض المحاولات العابرة التى كانت أهمها أغنية فاطمة عيد «رايحة فين يا حاجة»، وهى الأغنية التى قدم أكثر من مطرب ومطربة تنويعات لحنية عليها مستفيدين من طقسها الشعبى وطابعها الفولكلورى، فضلا عن أغنيات أخرى لكل من وائل جسار وإيمان البحر درويش ومجموعة من الأصوات الشعبية، لكن تبقى «يا رايحين للنبى الغالى» أشهر ما تم تقديمه فى مناسبة أداء فريضة الحج.
