الضريبة بين التشريع والواقع
ينص الدستور المصرى فى مادته (38) على أن إنشاء أو تعديل أو إلغاء الضرائب لا يكون إلا بقانون، وأن الإعفاء منها لا يتم إلا بنص صريح، وهو إطار واضح وحاسم يرسّخ من حيث الشكل مبدأى العدالة والمساواة، لكنه لا يضمن بالضرورة إحساس المواطن بالمردود العادل لمساهمته، خاصة أن العدالة القانونية لا تكفى فى غياب العدالة الشعورية - أى شعور المواطن بأن ما يقدمه يعود عليه فى شكل خدمات عامة ملموسة مسألة مختلفة عن تنظيم الضريبة قانونيا.
ورغم أن القانون متضمن لطبيعة التصنيفات الضريبية إلا أن المواطن العادى لا يزال يجد صعوبة حقيقية فى التفرقة بين الضريبة وهى التزام مالى عام، يُدفع دون مقابل مباشر، لتمويل الإنفاق العام، والرسم الذى يُفرض نظير خدمة محددة تقدمها الدولة، وأخيرا مقابل الخدمة والتى تحصل لتغطية تكلفة خدمة خاصة أو اختيارية.
وهذا التداخل بين المفاهيم الضريبية فى الواقع العملي، وتعدد الجهات المحصِّلة وعدم ثبات قيمة الأموال المحصلة، يخلق إحساسًا متفاقمًا بالاستنزاف غير المبرر وغير المعلوم وجهته، ويعمّق فجوة الثقة مع النظام المالي.
العدالة فى التطبيق لا تزال غائبة
كذلك مسألة العدالة فى التطبيق لا تزال غائبة؛ إذ تميل المنظومة الضريبية فى مصر إلى الاعتماد على الضرائب غير المباشرة، وعلى رأسها ضريبة القيمة المضافة، التى لا تراعى فروق الدخول، وتحمل طابعًا تراجعيًا نسبيًا، وفى المقابل تظل ضرائب الدخل، وهى الأكثر عدالة بطبيعتها، محدودة الأثر والتطبيق، ما يجعل الشرائح الدنيا والمتوسطة تتحمل نسبيًا عبئًا أعلى كنسبة من الدخل، دون معادلة ذلك بمردود ملموس.
الإشكالية الحقيقية، تكمن فى استمرار الشكوى رغم أن الحصيلة محدودة، فالضرائب لا تمثل أكثر من 12 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالي، وهى نسبة متدنية مقارنة بالمتوسط العالمي، ومع هذا يوحى الشعور المجتمعى العام بعكس ذلك تماما.
وفى الحقيقة، فالسبب لا يكمن فى النسبة، بل فى عدم وضوح ما يقابل الضريبة من خدمات، وأيضا تكرار الرسوم وتعدد مصادر التحصيل، وكذلك فرض رسوم بدون سند قانونى كما هو الحال فى أزمة نقابة المحامين الأخيرة مع مجلس محاكم الاستئناف، كما أن ضعف المصداقية المؤسسية فى إدارة المال العام تتحمل نصيبا فى هذه الأزمة.
وهكذا، تحولت الضريبة من مساهمة وطنية -كما يفترض فيها- إلى عبء شخصى فى نظر المواطن، أو جباية غير مستحقة يتم صرفها على أمور لا تخص المواطن ولا ترتبط بخدمة أو جهد مقابل من الحكومة يعود بأثر فعلى عليه.
وهذه الثقة المنشودة فى أى نظام ضريبى ناجح، ليست مجرد انطباع، بل نتيجة تراكمات فى السلوك المؤسسي، والشفافية، والإنصاف فى التطبيق، أى أن تحول المشهد العام من النظرة للضريبة على أنها عبء كما هو عليه إلى كونها هدفا لا يمكن تحقيقه بشكل فورى بل يتطلب مراحل عديدة وتوافر إرادة وتكامل الجهود.
وفى هذا الإطار أطلقت الحكومة مبادرة «موازنة المواطن»، لتبسيط مفردات المالية العامة، لكنها بقيت وثيقة إعلامية أكثر من كونها أداة فعالة لبناء الثقة، نظرًا لغياب الطابع المحلى والتفاعلي، وعدم ربطها بمشروعات واقعية يرى المواطن أثرها على الأرض.
فى المقابل، تطبق دول مثل كندا نظام الميزانية المجتمعية، حيث تُعرض مخصصات الضرائب على مستوى الأحياء أمام المواطنين، ويتم إشراكهم فى ترتيب الأولويات، أما كوريا الجنوبية فتبعث إلى كل دافع ضريبة كشفًا سنويًا يُوضح كيف تم استخدام مساهمته، وفى إستونيا، يمكّن النظام الرقمى المواطن من تتبع علاقته الشخصية مع الدولة مالياً وخدميًا.
كيف نبنى الثقة فى المنظومة؟
إذن، فالمطلوب يكمن فى تحويل «موازنة المواطن» إلى أداة رقمية محلية تفاعلية، وإصدار كشف سنوى مبسط يوضح مساهمة كل فرد ومقابلها من خدمات، بجانب إتاحة آلية حوار على المستوى المحلى تربط التحصيل بالإنفاق.
كذلك هناك حاجة ماسة إلى الفصل التنفيذى الواضح بين الضريبة، والرسم، ومقابل الخدمة -كما هو الحال عليه فى التشريع-، وتطبيقها على الجميع من منطلق المساواة والعدالة الضريبية، وأيضا التزام الجهات بعدم فرض أية رسوم دون سند من القانون ودون أن يتم صرفها على خدمات للمواطن.
فالضريبة ليست مجرد نسبة تُقتطع من الدخل لصالح الحكومة، بل يجب معاملتها كمرآة تعكس عمق العلاقة بين الدولة والمجتمع، وعندما يشعر المواطن أن ما يدفعه يُترجم إلى تعليم لائق، وبنية تحتية صالحة، ونظام رعاية محترم، فإن تلك الضريبة تتحول من عبء إلى مساهمة طوعية، ومن تذمر إلى شراكة فى البناء، خاصة مع العدالة فى تطبيقها.
ختاما، فالمسألة قد لا تتوقف عند ما طرحه الاقتصادى الأمريكى الشهير أوليفر ويندل هولمز ذات مرة من أن «الضرائب هى الثمن الذى ندفعه مقابل مجتمع متحضّر»، بل تنتقل -فى تقديرى – إلى أنه لا مجتمع متحضّر بلا ثقة، ولا ثقة بلا عدالة، وشفافية، وربط مباشر بين الواجب والنتيجة.
فيما يلى سوف أتناول سلسلة موضوعات نوعية تمس جوهر العدالة الاقتصادية، مع البداية أولًا بضريبة الثروة: هل غابت، أم أُقصيت عمدًا؟ ما هو إطارها العادل؟ وهل يمكن تطبيقها دون التأثير على جاذبية الاستثمار؟، ثم سوف أتبع ذلك بملف الضريبة العقارية.
