لم تعد السجائر الإلكترونية مجرد بديل عصرى للتدخين التقليدي، بل تحولت إلى ظاهرة شعبية فى المجتمع، تنتشر بسرعة لافتة فى المحال التجارية، وعلى الأرصفة، وداخل المولات والمقاهي، وخصوصًا بين الشباب والمراهقين ويطلق عليها اسم «الفيب»، ورغم هذا الانتشار الظاهرى الذى يوحى بأن المنتج متاح بشكل قانونى ومنظم، فإن الحقيقة أكثر تعقيدًا، حيث تقف خلف هذه الأسواق شبكة غير شرعية من المهربين ومصانع بير السلم المحلية، محققين أرباحًا طائلة بعيدًا عن أعين الجهات الرسمية، ودون أدنى التزام بالمعايير الصحية أو الضريبية.
يُشار هنا إلى أنه لا تقتصر عمليات التهريب على المعابر البرية والوسائل التقليدية، بل امتدت أيضًا إلى المطارات، فى محاولة لاستغلال حركة السفر فى تمرير كميات ضخمة من السجائر الإلكترونية ومستلزماتها، وفى واحدة من أبرز هذه الوقائع، تمكن رجال الجمارك بمطار برج العرب الدولى مؤخرا من إحباط محاولة لتهريب شحنة كبيرة بالمخالفة للقوانين المنظمة، وعلى رأسها قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955، وقانون الجمارك رقم 207 لسنة 2020، وقانون الاستيراد والتصدير رقم 118 لسنة 1975، وبحسب محضر الضبط، فقد اشتبهت سلطات الجمارك فى أحد الركاب المصريين القادمين من دبي، وبتفتيش حقائبه، عُثر بداخلها على 170 سيجارة إلكترونية و2390 قطعة من مستلزمات الشيش الإلكترونية المختلفة، قُدرت قيمتها بنحو 221 ألفا و900 جنيه، هذه الواقعة وغيرها من الضبطيات المتكررة فى منافذ الدولة المختلفة، تؤكد أن سوق السجائر الإلكترونية المهربة لم تعد هامشية، بل أصبحت جزءًا من منظومة متكاملة تعمل فى الخفاء، وتتحدى الرقابة والقانون، وتغذى سوقا موازية وتنمو على حساب صحة المجتمع وأمنه الاقتصادي.
«نصف مليار دولار».. رقم أوردته مؤسسة «statista» للأبحاث حول أرقام مبيعات السجائر الإلكترونية المتوقعة فى مصر خلال العام الجاري، بزيادة 15,5 فى المائة عن العام الماضي، مشيرة إلى أن السوق ستشهد معدل نمو سنوى قدره 12,47 فى المائة خلال الفترة من عام 2025 حتى عام 2029.
الوصول إلى «السجائر الإلكترونية» لم يكن صعبًا، فهناك العديد من الصفحات والمجموعات المنتظرة على مواقع التواصل الاجتماعى والتى تروج لهذه المنتجات بشكل علني، ودون أدنى رقابة، ولا يتطلب التواصل معهم سوى رسالة واحدة عبر موقع «فيسبوك» قبل أن يأتى الرد سريعًا، ليقدم مجموعة متنوعة من المنتجات، ما بين أجهزة «فيب» حديثة بأنواع وأشكال متعددة، وسوائل إلكترونية بنكهات تتراوح بين الفواكه والحلوى، وحتى نكهات التبغ التقليدية، اللافت أن بعض هذه المنتجات كانت تحمل أسماء علامات تجارية عالمية معروفة، فى حين أن البعض الآخر كان مجهول المصدر، معروضًا بأسعار أقل بكثير من تلك المتداولة فى المتاجر المرخصة، وهو ما يثير الشكوك حول مصدرها وجودتها.
المثير هنا أن البائع لا يطلب أى مستندات تثبت السن القانونية، بل يؤكد أن التوصيل متاح خلال 24 ساعة داخل القاهرة، و48 ساعة لبقية المحافظات، مع عروض مغرية تشمل خصومات تصل إلى 20 فى المائة عند شراء أكثر من عبوتين، وهدايا مجانية على الطلبات الكبيرة، هذا إلى جانب إرسال جدول تفصيلى بالأسعار، يبدأ من 250 جنيهًا للجهاز الواحد، ويصل إلى أكثر من 1000 جنيه للأجهزة الأعلى فى الأداء، فى حين تراوحت أسعار السوائل ما بين 100 و300 جنيه، حسب النوع والنكهة والحجم.

ومن جانبه، قال إبراهيم إمبابي، رئيس شعبة الدخان باتحاد الصناعات، إن «تهريب السجائر الإلكترونية إلى السوق المصرى بات يشكل تحديا كبيرا، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضًا من حيث قدرة الدولة على ضبط حركة تداول هذه المنتجات وتنظيمها بشكل فعال، حيث إن دخول كميات متزايدة من السجائر الإلكترونية من أجهزة وسوائل إلى البلاد بطرق غير مشروعة إلى الأسواق، عبر قنوات غير شرعية، سواء من خلال الشحن السريع أو عبر الأفراد القادمين من الخارج، دون المرور بالمسارات الجمركية المعتادة يصعب من عملية تتبع هذه المنتجات أو إخضاعها لأى شكل من أشكال الرقابة الصحية أو الضريبية، ويجعل من الصعب الوصول إلى الجهات المسئولة عن تداولها ومحاسبتها قانونيًا».
«إمبابي»، أكد أن استمرار تهريب أجهزة الفيب وسوائلها يلحق ضررا مباشرا بالشركات المستوردة الرسمية، التى تلتزم بدفع الضرائب والرسوم الجمركية، بينما تجد نفسها فى منافسة غير عادلة مع منتجات مجهولة المصدر تباع بأسعار منخفضة، دون أن تخضع لأى ضوابط صحية أو مالية، كما أن هذا الخلل يهدد بتقويض أى جهود تبذل لتنظيم سوق الفيب فى مصر، ويضعف من قدرة الدولة على بناء منظومة واضحة لتتبع المنتجات ومراقبة جودتها.
كما أشار إلى أن بعض المنصات الرقمية أصبحت تستخدم كواجهة لتسويق وبيع منتجات الفيب المهربة، خاصة عبر تطبيقات مثل «فيسبوك» و«تيك توك» و«إنستجرام»، حيث تنتشر حسابات غير مرخصة تروج لمنتجات غير معلومة المصدر، وتستهدف فئة المراهقين على وجه الخصوص، كما أن المشكلة لم تعد تقتصر فقط على دخول أجهزة وسوائل الفيب المهربة إلى الأسواق، بل أصبحت أكثر خطورة لأنها تستهدف عقولا صغيرة تتعرض يوميًا لحملات ترويج ممنهجة تقدم الفيب كرمز للموضة أو التحرر، نحن لا نواجه مجرد منتجات غير مرخصة، بل أمامنا موجة إدمان جديدة تتسلل فى صمت، وتتغذى على ضعف الوعى، وسرعة انتشار المحتوى الرقمي.
كما لفت إلى أن حداثة هذا النوع من المنتجات وغياب تنظيم واضح له فى بدايات دخوله إلى السوق المصري، أتاح الفرصة للبعض من معدومى الضمير للالتفاف على القوانين، إما عبر تهريبها بالكامل خارج الأطر الجمركية، أو من خلال إدخالها تحت بنود جمركية لا تعكس طبيعتها الحقيقية، ولا تلزمهم بالخضوع للرقابة الصحية أو الالتزام بالمواصفات القياسية، وهذا التلاعب لا يسهم فقط فى الإضرار بصحة المستهلك، بل يفتح ثغرات خطيرة فى منظومة الاستيراد، ويمنح الأفضلية للمخالفين على حساب المستوردين الملتزمين بالقانون والمعايير الرسمية.
رئيس شعبة الدخان باتحاد الصناعات، أضاف أن المشكلة لا تقتصر على الكميات المهربة فحسب، بل تمتد أيضًا إلى ما يُصنع محليًا من أجهزة أو سوائل فى مصانع غير مرخصة تعرف بـ«مصانع بير السلم»، حيث تنتج هذه المواد بعيدًا عن أى رقابة صحية أو فنية، وتطرح فى الأسواق بجودة متدنية ومخاطر صحية غير محسوبة، كما أن هذا النوع من التصنيع العشوائى يفاقم من خطورة الظاهرة، لأنه يجعل من الصعب تتبع أصل المنتج أو مكوناته، ويضاعف من حجم التهديد الذى تتعرض له الصحة العامة، خصوصًا بين الفئات صغيرة السن التى لا تملك وعيا كافيا بخطورة ما تستخدمه.
واختتم «إمبابي» تصريحاته، مؤكدًا أن المعركة ليست اقتصادية فقط، بل صحية وأمنية واجتماعية أيضًا، وتتطلب تنسيقًا كاملًا بين الوزارات المختلفة، لضمان حماية المستهلك، ووقف نزيف الأموال المهربة، والحفاظ على ما تبقى من هيبة السوق الرسمية.
أمام هذا التمدد السريع وغير المنضبط لسوق السجائر الإلكترونية، لم تعد المسألة تتعلق بتهريب أجهزة أو سوائل نكهية فحسب، بل بخطر أعمق يتسلل إلى العقول قبل الأجساد، مستهدفًا فئات عمرية هشة تبحث عن ما يسمى «تقليعة جديدة» أو مظهر عصرى، دون أن تدرك حجم المخاطر الصحية والنفسية التى تترصدها.
إن استمرار دخول هذه المنتجات بشكل غير مشروع، بعيدًا عن رقابة الجهات الصحية والجمركية، لا يهدد فقط سلامة الأفراد، بل يفتح الباب لتكوين سوق سوداء موازية، تتحدى الدولة وتفقدها السيطرة على أحد أخطر أنواع التدخين المستحدثة.
