ومع غزو التكنولوجيا، تطورت أشكال التنمر أيضًا، حيث أصبحت الظاهرة تواكب العصر الحديث، ألا وهو «التنمر الإلكترونى»، الذى بات شائعًا، يستخدمه رواد وسائل التواصل الاجتماعى والإنترنت من أجل التنمر على الآخرين.. ونؤكد هنا أن هذا النوع من التنمر، يمكن أن يكون أكثر خطورة بسبب انتشار المعلومات بسرعة وعدم القدرة على الهروب من التنمر أو تفاديه.
وهناك عدة أنواع من التنمر، بما فى ذلك التنمر الجسدى الذى يتضمن استخدام القوة الجسدية لإيذاء أو تخويف شخص آخر أضعف.. والتنمر اللفظى الذى يتضمن استخدام الكلمات لإيذاء أو تخويف شخص ما.. ثم التنمر الاجتماعى الذى يتضمن استبعاد شخص ما من مجموعة أو نشاط مجتمعي.. وأخيرًا التنمر الإلكترونى الذى يتضمن استخدام التكنولوجيا لترهيب الأشخاص.
(المصور) هنا تلقى الضوء على هذه الظاهرة، وتناقش تأثيرات التنمر على الأفراد والمجتمعات، وسنقدم استراتيجيات لمنع التنمر ودعم الأشخاص الذين يتعرضون له.
د. عاصم حجازي: التنمر عدوان غاشم يحتاج علاجاً غير تقليدي.
فى البداية، يوضح د. عاصم حجازي، أستاذ علم النفس التربوى المساعد بكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، أن التنمر أوشك على التحول إلى ظاهرة، نظرا لوجود العديد من العوامل التى تعزز وجوده وتساعد على انتشاره، مشيرًا إلى أن التنمر - باعتباره شكلا من أشكال العدوان، يتطلب وجود شخص يشعر بقوته فى الجانب الجسدى أو اللفظى أو الاجتماعى أو الإلكتروني، وشخص آخر يعتبر الضحية، ويرى الشخص القوى أنه أقوى من الآخر، وهذه هى المكونات الأساسية لموقف التنمر، التى ينبغى دراسته جيدا قبل اقتراح علاج لهذه المشكلة.
ويأخذ التنمر صورا وأشكالا مختلفة، حيث يمكن أن يكون جسديا من خلال إلحاق الأذى الجسدى بالطرف الأضعف أو لفظيا من خلال السخرية وتوجيه الإهانات والتهكم والانتقاص من قدر الطرف الأضعف وهو الأكثر شيوعًا، وفى كثير من الأحيان يكون هو المقدمة للتنمر الجسدي، وقد يكون التنمر اجتماعيا ونفسيا من خلال التلاعب بمشاعر الضحية أو جعله يشعر بالقهر أو الظلم أو الخزى أو الحزن أو محاصرته اجتماعيا بالشائعات وتشويه سمعته ومنع الأصدقاء من التواصل معه وإفساد علاقته بأصدقائه ونبذه، وهناك شكل آخر أصبح منتشرا بشكل أكبر فى ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعى وهو التنمر الإلكترونى الذى يعتمد على استخدام الإنترنت كوسيلة لمضايقة الآخرين وإلحاق الأذى بهم.
وعن أسباب التنمر، فهى عديدة ومتنوعة، وعلى رأسها الهشاشة النفسية والفكرية التى يعانى منها الغالبية العظمى من الأبناء، والتى جعلتهم يتقبلون الأفكار السامة والسلوكيات الشاذة بكل سهولة، ولا يستطيعون مقاومة تسللها وتوغلها داخل شخصيتهم.. ويرجع سبب هذه الهشاشة - بالطبع، إلى أساليب النشأة الاجتماعية الخاطئة التى تعتمد على التدليل المبالغ فيه، والحماية الزائدة وعدم تدريب الأبناء على تحمل المسؤولية واتخاذ القرار وحل المشكلات..
ومن ضمن الأسباب أيضًا: دعم وتحفيز العدوان لدى الأبناء وهو ما يدفعهم فى المستقبل لكى يكونوا متنمرين، فحينما يأتى الطفل بسلوك عدوانى ويتم تشجيعه من قبل الأسرة وإظهار السرور بهذا السلوك، فإن العدوان يتأصل فى شخصية الطفل وينمو معه ويظهر بعد ذلك فى صورة تنمر.. ومن الأسباب التى أصبحت أكثر انتشارا فى العصر الحالي، هو ما يرتبط بالتنمر والعنف والعدوان عبر الشاشات، سواء من خلال بعض الأعمال الفنية أو من البرامج التى تؤصل لظاهرة التنمر وتشجعها مثل برامج المقالب، سواء على القنوات التليفزيونية أو التى يتم بثها عبر منصات التواصل الاجتماعى المختلفة، والتى أصبحت بدورها بوابة للشهرة وكسب المال، بل وانتشرت فى الفترة الأخيرة بمعدلات غير مسبوقة.
ويضيف د. عاصم حجازي، أن خطورة هذا السبب تحديدا، من شأنه أن يجعل التنمر مألوفا ومعتادا، بل وأسلوب حياة، ويضفى عليه قدرا أكبر من الشرعية والمقبولية الاجتماعية، فكل شىء مباح طالما أن الهدف هو إضحاك الناس، هذا وتجدر الإشارة إلى أن المدرسة نظرا لأنها تضم عددا كبيرا من الطلاب فى مراحل عمرية خطرة، ولا يتسمون بالقدر الكافى من النضج، فإنهم يحاولون أن يبرزوا ما تعلموه من سلوكيات وأساليب حياة داخل مدارسهم، وهذا هو السبب فى ظهور التنمر داخل الأوساط الطلابية بشكل أكبر.
وإذا أردنا وضع خطة للعلاج، فلابد من استعادة الدور التربوى للأسرة والمدرسة، حيث يجب أن تتوفر النماذج الطيبة التى يقتدى بها الطلاب، وأن يتم تسليط الأضواء على هذه النماذج الحسنة، بالإضافة إلى اتباع أساليب تنشئة اجتماعية تدعم الثقة بالنفس وتحمل المسؤولية والقدرة على الحوار واحترام الآخر والتعاون المثمر والبناء وتشجيع العمل الجماعى ومهارات التواصل الفعالة.. هذا بالإضافة إلى الكشف عن قدرات الطلاب ونقاط تميزهم وتوفير الأنشطة المناسبة التى يستطيعون من خلالها إبراز مواهبهم وقدراتهم واستثمارها والشعور بالفخر والإنجاز.. كما أن عنصر التوعية بمخاطر التنمر وأضراره من خلال ندوات وأنشطة مختلفة، يجب أن يحظى بقدر أكبر من الاهتمام، بالإضافة إلى تغليظ العقوبات وتدريب الطلاب على كيفية التعامل بشكل صحيح مع مواقف التنمر وتقديم الدعم النفسى اللازم لكل من المتنمر والضحية.
فى حين تؤكد داليا الحزاوي، مؤسس ائتلاف أولياء أمور مصر والخبيرة التربوية والأسرية، أن ظاهرة التنمر هى واحدة من أهم القضايا الاجتماعية التى تحتاج إلى وقفة فعالة، ومحاولة الوصول لعلاج جاد، نظرًا كونها تترك آثارا نفسية سلبية على «المتنمر عليه»، وقد تدفعه للتخلص من حياته، وهناك وقائع مأساوية حدثت يدمع لها القلب، ونجد أن الفئات الأكثر عرضة للتنمر هم طلاب المدارس، الذى قد يؤثر بشكل كبير عليهم فيما يخص الأداء الأكاديمى للمتنمر عليه، وقد يحاول أن يمارس هو الآخر التنمر على المحيطين به، كمحاولة منه تقليد لموقف ما، مر به.
وتوضح أن التنمر يقع على عاتق الأسرة، كونها لها دور كبير فى نشأة أولادهم، مشددة على ضرورة تنشئة الأطفال على قيم الاحترام والتعاطف والبعد عن الأذى النفسى للآخرين، ولابد أن يدركوا أن وجود الاختلافات بينهم وبين أصدقائهم، هو أمر طبيعي، ويجب أن يتفهموه ويتقبلوه، سواء اختلافا فى لون البشرة والدين والهيئة وغيرها.
واستكملت الحزاوى قائلة: إن غياب الرقابة فى المدارس على تصرفات الطلاب، قد تسهم فى انتشار ظاهرة التنمر بشكل موسع، كذلك فإن غياب العقاب من خلال عدم الالتزام بتطبيق ما قررته الحكومة المصرية، من عقوبات فى لائحة الانضباط المدرسية، واصفة الأمر بمقولة (من أمن العقاب أساء الأدب).. وعلقت تقول: «يمكن أن تساهم المدارس فى تعزيز قيم الاحترام بين الطلاب ونبذ التنمر من خلال التوعية المستمرة للتلاميذ والأهالى على حد سواء، من خلال الورش التثقيفية والندوات.
وأوصت داليا الحزاوى، بأنه لابد من وجود أخصائيين نفسيين بالمدرسة لدعم الطلاب المتضررين، وذلك لتخطى أزمة التنمر وعودة الثقة فى أنفسهم من جديد، وكذلك تعديل سلوكيات الطالب التنمر من خلال التعاون مع الأسرة فى خطة العلاج.
وانتقدت وسائل الإعلام، لدورها فى نشر ثقافة التنمر، وهذا ما نجده فى الدراما التى تحتوى على سيناريو درامى يشمل أساليب ومشاهد تنمر واستهزاء بالآخرين، لذلك يجب على الإعلام أن يقوم بدوره فى تعديل السلوكيات غير المنضبطة وإنتاج برامج وأفلام موجهة للأطفال، يكون فيها «نص» يحتوى على القيم و المبادئ.
واختتمت داليا الحزاوى فى هذا الصدد، أطلق ائتلاف أولياء أمور مصر، مبادرة «التربية أولا ووسطا وآخرا»، تستهدف إحياء القيم الأخلاقية من خلال حث المدارس والبيت والإعلام، على القيام بأدوارها المطلوبة بإيجابية.
ففى المدرسة، عودة مصطلح الطالب المثالى يحفز الطلاب على التفوق دراسيًا وأخلاقيًا، كذلك يجب الاهتمام بعقد ندوات بالمدارس لجعل الطلاب مهتمين بنبذ العنف والتحلى بالأخلاق الكريمة، ويجب عودة الدور الفعال للأخصائى الاجتماعى بالمدرسة، لتعديل السلوكيات الخاطئة، وإذا رأى أن هناك خللا فى الشخصية، يجب التواصل مع الأسرة.
كما أن على الأسرة متابعة أحوال أبنائهم، فانشغالهم عن الدور المنوط بهم فى تربية الأبناء نتيجة ضغوط الحياة والسعى لتحسين الأحوال المادية للأسرة، كان سببا لتراجع سلوكيات الأبناء.
واتفقت معهم فى الرأى، الدكتورة مايسة فاضل، الخبيرة التربوية، وأستاذة علم النفس التربوى، حيث تؤكد أن التنمر يجعل الطفل شخصًا انطوائيًا فى المستقبل يهاب التفاعل الاجتماعي، وقد يتجه إلى العنف تجاه الآخرين كرد فعل للتنمر المُمارس عليه.
كما أن للتنمر آثارا نفسية خطيرة ومدمرة، لأن الطفل فى تلك المرحلة العمرية يكون فى أمسّ الحاجة إلى دعم نفسى وعاطفى ليشعر بالأمان والانتماء، وحين يتلقّى ما هو عكس ذلك، يؤثر على نفسيته بشدة، لذلك لابد أن تضع المدارس آلية واضحة لمكافحة التنمر.
وتشير إلى عدم وجود آلية محددة داخل وزارة التربية والتعليم لردع التنمر فى المدارس، سوى أنه فى سبتمبر 2024، أصدرت الوزارة لائحة التحفيز التربوى والانضباط المدرسى بمرحلة التعليم ما قبل الجامعي.. واعتبرت اللائحة أن التنمر أحد أشكال الإساءة والإيذاء المُتعمّد النفسي، وتنصّ اللائحة على عقوبات لكل مخالفة تتعلق بالتنمر، وفى حال كانت المخالفة من الجرائم الكبرى، تُحوّل إلى القضاء كقضية جنائية حتى يُبتّ فيها.
تُرجع د. مايسة فاضل، التنمر إلى عدة عوامل منها عدم التوجيه من الأهل، أو بث القيم الإيجابية، أو التعرض لممارسات عنيفة فى المنزل، مُوضحة أنه على الرغم من أهمية تفعيل لائحة مكافحة التنمر بالمدارس، إلا أنها غير فعالة بسبب عدم المساعدة من الأسر.
وتلفت الانتباه هنا، إلى أن حوالى 130 مليون طالب سنويًا يتعرضون للتنمر على مستوى العالم، وِفق تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة خلال العام 2023، لذلك فإن عملية مكافحة التنمر تتطلب تعاوناً بين الأسرة والمدرسة، وفق ما أكدته بأن اللوائح لا تطبق أو تكون فعالة بشكل منشود، بسبب عدم تعاون أولياء الأمور.
كذلك ترى د. مايسة فاضل الخبيرة التربوية، أن إيجاد حل لظاهرة التنمر يعتمد على جذب الطلاب نحو الأنشطة الجماعية، كون الأخيرة تشغل فراغ الطلبة وتعزز روح التنافس الشريف بينهم بعيدًا عن ممارسة التنمر.
وتعدد «مايسة» فى بعض النقاط، كيف نواجه التنمر من قبل الشخص المتنمر عليه أولا، ألا أقوم برد فعل ضعيف مثل البكاء أو الحزن حتى لا نشعر الجانى بأنه نجح فى إيذائه، بل ابتعد عنه بهدوء، واستمر بتذكر نقاط قوتك، وأن المتنمر كل هدفه إشعارك فقط بأنك ضعيف وهذا ليس صحيحا.. ويجب ألا تتواجد مع هؤلاء فى نفس المكان بل تواجد رفقة الأصدقاء الأسوياء، ويجب اختيارهم بعناية، لأن الصديق الحقيقى الإيجابى هو من يرفع من قدرك وقيمتك ويشجعك بل ويدافع عنك.
