«سامحينى يا أمى هذا هو الطريق اللى اخترته لمساعدة الناس، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».. رسالة بعث بها الشهيد رفعت رضوان إلى أمه قبل قتله برصاص القوات الإسرائيلية، هو وفريق من زملائه المسعفين التابعين للهلال الأحمر وبعض من رجال الدفاع المدنى وموظف أممى، ربما لم يكن الشهيد يدرك أن شريط الفيديو الذى سجله بهاتفه النقال لن يصل إلى أمه المكلومة فقط، بل سيكون إحدى الوثائق المهمة التى تسجل وحشية وبشاعة قوات الاحتلال، التى قتلت بدم بارد وعن قصد عمال الإسعاف والإغاثة، فى إحدى جرائم الحرب الكثيرة التى ترتكبها خلال حربها المستمرة طوال عام ونصف العام على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023.
صحيفة «نيويورك تايمز» كشفت تلك الجريمة البشعة فى الخامس من أبريل الماضى من خلال حصولها على شريط الفيديو من أحد الدبلوماسيين الكبار فى الأمم المتحدة، حيث تم عرضه فى جلسة لم يعلن عن فحواها بعد، وكانت الأونروا والصليب الأحمر الفلسطينى قد أرسلتا الشريط للأمم المتحدة، مطالبين بتوثيق تلك الواقعة، كإحدى جرائم الحرب ضد العاملين فى المنظمة الأممية التابعة للأمم المتحدة.
هل ستغير هذه الوثيقة من حالة اللامبالاة والتجاهل والسكوت عن جرائم الحرب الرهيبة ضد الإنسانية التى ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى فى الحرب على غزة والتى تصنف ضمن جرائم الإبادة الجماعية؟ هل ستدفع تلك الوثيقة بتشكيل لجنة أممية للتحقيق فى هذه الواقعة؟
هل يمكن أن يُعاقب مرتكبو هذه الجريمة على فعلتهم أم أن إسرائيل فوق القانون الدولى تفعل ما تشاء ولا تخشى العقاب، منذ نشأتها من 77 عامًا، وهى تقتل وتدمر وتحتل أراضى بالقوة وتضمها، وتنشئ المستوطنات، وتحاصر الشعب الفلسطينى 17 عامًا فى غزة؟، كل ذلك بالمخالفة للقانون الدولى، ولم يُوقع عليها عقاب واحد لأن الفيتو الأمريكى يحميها.
على الرغم من أن السوابق التاريخية تجعلنا متشائمين تجاه تحرك المجتمع الدولى ضد إسرائيل، مثلما حدث فى مذبحة (صبرا وشتيلا) ومعسكر (قانا) للأمم المتحدة فى لبنان، والتى ثبت بالتحقيقات تورط وقيام إسرائيل بارتكابها، ولم تعاقب على أى منها، إلا أن هذا الشريط على الأقل يكشف إسرائيل أمام العالم، ويفضح زيف الصورة التى يروجها الغرب عن أخلاقية إسرائيل وجيشها.
ماذا حدث لمجموعة الإنقاذ؟
فى يوم الثالث والعشرين من مارس الماضى هب فريق الإنقاذ الذى كان يضم 15 من مسعفين تابعين للهلال الأحمر الفلسطينى، ورجالا من عناصر الدفاع المدنى، وموظفا أمميا يتبع الأونروا (وكالة غوث اللاجئين)، لتلبية نداء استغاثة من مواطنين من غزة محاصرين فى تل السلطان فى رفح جنوب قطاع غزة، بعد قيام القوات الإسرائيلية، بتوسيع عمليتها العسكرية فى القطاع واستهداف المدنيين بضربات عنيفة، وتوالى سقوط مئات القتلى والجرحى، كان الفريق يتحرك بثلاث عربات، عربتى إسعاف تابعتين للهلال الأحمر الفلسطينى، وسيارة إطفاء تابعة للدفاع المدنى.
انقطع الاتصال بين فريق الإنقاذ والمسئولين فى الهلال الأحمر والدفاع المدنى والأونروا الذين ظلوا فى عملية بحث مستمرة حتى يوم الثلاثين من مارس، بعد ثمانية أيام عثروا على السيارات مدمرة فى منطقة تل السلطان وبجوارها على مسافة 200 متر مقبرة جماعية، يوجد بها فريق الإنقاذ، ثمانية شهداء من المسعفين، و5 من رجال الدفاع المدنى، وموظف الأونروا، وبعدها بيوم واحد أعلن المتحدث الرسمى للجيش الإسرائيلى، أن القوات الإسرائيلية لم تقتل مجموعة الإنقاذ عمدًا، بل شاهدت سيارات مطفأة الأنوار، تحركها مريب، وتوقفت بجوار سيارة للمقاومة، ومن ثم أطلقت القوات النيران عليها، لأنها استشعرت الخطر، وقالت إن من بين القتلى من فريق الإنقاذ عنصرا من الجناح العسكرى لحركة حماس، و8 ينتمون لحماس والجهاد من رجال المقاومة من حماس والجهاد.

فى اليوم الخامس من أبريل الحالى نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية شريط فيديو يكذّب كل الادعاءات الإسرائيلية، حصلت عليه -كما ذكرت- من دبلوماسى كبير فى الأمم المتحدة، وقالت إنها تحققت من الشريط ومن موقع وتوقيت الحادث، هذا الشريط الذى عثر عليه الهلال الأحمر بجوار جثمان الشهيد رفعت رضوان، الذى سجل بالصوت والصورة تفاصيل ما حدث، حيث يؤكد الفيديو أن السيارات الثلاث كانت مضاءة تمامًا، وعليها العلامات المميزة، وكذلك لمبات الطوارئ تدور بكفاءة، وأن الفريق يرتدى ستراته البرتقالية الفوسفورية، وأنهم عندما شاهدوا شخصًا ملقى على الأرض بجوار سيارة مدنية متوقفة ابتهل رفعت لله أن يكونوا أحياءً ليتمكنوا من إنقاذهم، وبمجرد نزوله هو وأقرانه للقيام بواجبهم أطلقت القوات الإسرائيلية النيران الكثيفة عليهم وقتلتهم.
تفريغ الشريط الذى نشرته النيويورك تايمز يظهر فيه صوت رفعت رضوان يقول: «سامحونا يا شباب.. يا أمى سامحينى لأننى اخترت هذا الطريق، أن أساعد الناس.. يا رب تقبلنا، نتوب إليك ونستغفرك، تقبّلنى شهيدًا، الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وكرر الشهادة.
وندّدت حركة حماس فى بيان لها بمحاولة إسرائيل متعمدة إخفاء الجريمة عبر دفن الضحايا فى مقابر جماعية وتغييب الحقيقة، وقالت إن توثيق المسعف الفلسطينى جريمة إعدام طواقم الإسعاف فى رفح يكشف الوجه الحقيقى للاحتلال، ويفند رواياته المضلّلة.
وطالبت الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتحرّك العاجل لتوثيق هذه الجريمة وسائر الجرائم، وإحالتها إلى المحاكم الدولية، ومحاسبة مرتكبيها كمجرمى حرب.
وأشارت المتحدثة باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطينى نيبال فرسخ، إلى أن هذا الفيديو «جاء ليفنّد بشكل واضح وصريح رواية الاحتلال الذى يستهدف بشكل متعمد مركبات الإسعاف والطواقم الطبية والصحية، ويقوم أيضا بتسويق رواية كاذبة.
وطالب الهلال الفلسطينى المجتمع الدولى بضرورة إجراء تحقيق مستقل وفورى وعاجل يضمن العدالة للضحايا، ويضمن محاسبة كل المتورطين فى جريمة استهداف الطواقم التابعة للجمعية، ووضع حدّ لهذا المسلسل المتواصل من الانتهاكات المستمرة، والاستهداف المتواصل للعاملين فى المجال الطبى والصحى، وكان 27 من طواقم الهلال الأحمر الفلسطينى قد لقوا حتفهم من جراء العدوان الإسرائيلى على غزة منذ 7 أكتوبر 2023.
وأمام هذه الحقائق، اضطر الجيش الإسرائيلى لتغيير روايته، والتراجع عن ذكره أن أضواء السيارات كانت مطفأة، وعلل دفن الضحايا فى مقبرة جماعية، بأنه لم يقصد إخفاء الجريمة، ولكنه دفع بجرار لوضع رمال فوق جثامينهم لحمايتهم من نهش الحيوانات!
منذر عابد الناجى الوحيد من طاقم الإنقاذ، قال إن السيارات كانت مضاءة منذ تحركها وحتى إطلاق النيران عليها، وأنه نجا لأنه اختبأ فى شنطة السيارة، ثم عثروا عليه، وعصبوا عينيه وقادوه إلى جهة تحقيق وظلوا يستجوبونه 15 ساعة متواصلة ثم بعد فترة أطلقوا سراحه، ويؤكد «منذر» أن الطاقم بأكمله ليس فيه مَن ينتمى لحماس أو للمقاومة، وأنهم كلهم يعملون فقط من أجل إنقاذ مَن يحتاجون إليهم جراء الحرب الإسرائيلية.
أكثر من 1300 فلسطينى لقوا حتفهم منذ استئناف الحرب على غزة فى 18 مارس الماضى وحتى يوم 5 أبريل الحالى، وعملية تجويع وتعطيش للفلسطينيين منظمة بتدمير آبار المياه، وخطوط مياه الشرب، هى بوضوح عملية إبادة جماعية، وتهدف إلى تهجير قسرى.. مخطط يعتمده رئيس الوزراء نتنياهو وحكومته اليمينية بدعم من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ، والعالم بعضه يؤيد هذه الوحشية الإسرائيلية ويلوم الفلسطينيين الضحية، وبعضه يمتعض ويصمت، وأضعف الإيمان مَن يدين على استحياء.
هل يمكن للفيديو الذى نشرته الصحيفة الأمريكية ذائعة الصيت عالية المصداقية، الذى يفضح إحدى جرائم إسرائيل، أن يدفع ولو مرة لمعاقبة الجناة الإسرائيليين؟
للأسف وأنا أشاهد بنيامين نتنياهو وهو يسافر هنا وهناك، على الرغم من قرار «الجنائية الدولية» ضده، باعتقاله أو توقيفه للتحقيق.. أرى أن يد العدالة بعيدة عن إسرائيل.