رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«معاوية» ليس الأول ولن يكون الأخير


31-3-2025 | 02:42

.

طباعة
بقلـم: أشرف غريب

لا أدرى لمصلحة منْ يتم بين الحين والآخر إنتاج أعمال درامية تكون مدعاة للفرقة بين الناس، ومثارا للجدل الدينى والمذهبى فى وقت نحن فيه فى أمس الحاجة للوحدة واللحمة فى مواجهة كل التحديات التى يواجهها العالمان العربى والإسلامى، أتحدث عن مسلسل «معاوية» المعروض حاليا وسط حالة من اللغط الشديد حول شخصية مؤسس الدولة الأموية، وما يثيره من استدعاء لمرحلة من أشد مراحل التاريخ الإسلامى تشرذما وفرقة بل ودموية أيضا.

هذا بالطبع فضلا عن الخلاف العقائدى الأزلى بين الفن والدين فيما يتعلق بمشروعية تجسيد الأنبياء والرسل والصحابة على الشاشة، وهو الملف الشائك الذى يتجدد فتحه مع ظهور كل عمل جديد يتجاوز المحظور ويُظهر واحدا من هؤلاء، رغم أن موقف المؤسسة الدينية فى مصر ثابت ومعلن، فقد أكدت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف مرارا أن الأنبياء والرسل والصحابة الأجلاء لا يجوز شرعا تجسيدهم فى الأعمال الفنية لأنها تسعى لتجسيد الواقع، بينما حياة الأنبياء وسيرهم فيها من الوحى والإعجاز والصلات بالسماء ما يستحيل تجسيده وتمثيله، ومن ثم فإن تجسيدهم إساءة محققة إلى سيرتهم وحياتهم، وحذت دار الإفتاء المصرية حذو هيئة كبار العلماء وأفتت بحرمانية تجسيد الأنبياء فى الأعمال الفنية مشيرة إلى أن عِصْمَةَ الله لأنبيائه ورُسُله من أن يتمثل بهم شيطان مانعة من أن يمثل شخصياتهم إنسان، ويمتد ذلك إلى أصولهم وفروعهم وزوجاتهم وصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، فيما أعلن مجمع البحوث الإسلامية فى هذا الشأن إنه يحرم تمثيل الأنبياء والرسل أو تصويرُهم أو التعْبِير عنهم بأية وسيلة، وأن درءَ المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح، فإذا كانت الثقافة تحتاج إلى خروج على الآداب فإن الضرر من ذلك يفوق المصلحة.

وربما كان هذا الموقف الحاسم من جانب المؤسسة الدينية فى مصر مرده إلى واقعة شهيرة حدثت قبل مائة عام تقريبا، وكنت أول من كشف عنها فى الصحافة المعاصرة فى موضوع نشرته فى مجلة الكواكب سنة 1994 أثناء أزمة فيلم «المهاجر» للمخرج يوسف شاهين، ثم أعاد د. يونان لبيب رزق ذكرها فى «الأهرام» بعد سنوات، وهى تتعلق بنية الفنان يوسف وهبى فى تجسيد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى فيلم صامت بعنوان «حب الأمير» سنة 1926، وتبدأ الحكاية عندما وفد إلى القاهرة مخرج تركى اسمه وداد عرفى، شاء القدر أن يرتبط اسمه بنشأة السينما الروائية فى مصر حينما شارك فى إخراج فيلم «ليلى» سنة 1927، المهم أن الرجل جاء مندوبا عن شركة «ماركوس وستيجر» الفرنسية التى كانت قد صورت فى مصر بعض مشاهد فيلم «بئر يعقوب» المعروض سنة 1926 حاملا توصيات من وزيرنا المفوض فى باريس لتسهيل مهمته فى إنتاج مجموعة من الأفلام التاريخية فى مصر، وأولها فيلم بعنوان «حب الأمير» وعرض «عرفى» على الممثل يوسف وهبى ألمع ممثلينا فى ذلك الوقت القيام ببطولة الفيلم المذكور الذى تبين أنه يحكى سيرة حياة الرسول الكريم، والمفترض أن يؤدى وهبى دوره فى الفيلم، وما إن تسرب الخبر حتى قامت الدنيا وتعرض يوسف وهبى لهجوم عنيف دخل فيه رجال الأزهر على الخط، الأمر الذى دعاه لأن يكتب فى صحيفة الأهرام بتاريخ 22/5/1926 وتحت عنوان «كيف يصورون النبى؟» ما يلى:

«اطلعت فى عدد الأمس على مقال كتبه مسلم غيور وبه يشكو إلى ولاة الأمور ما قرأه فى مجلة المسرح عن عزمى على تمثيل رواية النبى محمد بشكل وهيئة لا تليق بكرامة النبوة ولا تتفق مع عظمة الدين، مع أن هذا خبر كاذب وحقيقة لا أصل لها.. سيدى إنى إذا كنت قد رضيت أن ألعب هذا الدور فى السينما فليس إلا لرفعة شأن محمد صلى الله عليه وسلم وتصويره أمام العالم الغربى بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلامى الذى تعضده الحكومة التركية نفسها».

ثم عاود يوسف وهبى الدفاع عن نفسه من جديد بعد يومين فى «الأهرام» قائلا:

«من يوسف وهبى الممثل إلى حضرات السادة العلماء وجميع الشعب الإسلامى .. سادتى: أتقدم إليكم طالبا منكم الإرشاد والنصيحة وأن تدلونى على السبيل القويم الذى يجدر بى أن أسلكه.. بعث إلىّ منذ شهر الأستاذ وداد بك عرفى الكاتب التركى المعروف الذى هبط أرض مصر قريبا ومندوب شركة ماركوس السينماتوغرافية التى اتخذت لها محلا فى باريز برسالة يطلب منى مقابلته، فبادرت إليه.. حدثنى عن شركة سينماتوغرافية تريد أن تأخذ بعض المناظر فى مصر وتقوم بإخراج روايات شرقية ومصرية وعربية.. تاريخ جزيرة العرب.. حياة محمد على باشا.. حبذت له الفكرة إذ إننا نتمنى أن تكون فى مصر شركة سينماتوغرافية.. طلب منى الأستاذ عرفى بك أن أهديه بعض صورى الفوتوغرافية، وسافر إلى باريز، وبعد ذلك بخمسة عشر يوما وصل إلى القاهرة جناب الدكتور ماركوس رئيس هذه الشركة وطلب مقابلتى.. قال لى إن الشركة وقع عليها اختيارى أنا لتمثيل أدوار البطولة، وعرض علىّ شروطه وبعد مناقشة قبلتها، بادرنى قائلا: وسنبدأ بعمل تاريخ سيدنا محمد، فوجمت قليلا وسألته عما يعنى فأجابنى: نريد أن نظهر للعالم أجمع.. نريد أن يؤمن الجميع بعظمة محمد ومجد الدين الإسلامى، ولكنى لم أندفع، وأجبته بأننى لا أستطيع، أجاب لماذا؟ قلت لأن ديننا يحرم علينا أن نصوّر هذا الرجل العظيم مهما كان قصدنا حسنا، فقال ولكنك إذا رفضت أنت القيام بهذا الدور فسيلعبه أجنبى غيرك لا يعلم عن الدين الإسلامى حرفا.. أيها المسلم لا تدع مسيحيا يلعب هذا الدور.. لقد كانت المناقشة حادة بينى وبين الدكتور ماركوس.. هذه قصة المشروع يا سادتى، والآن ما هو رأيكم؟ إن أمثال هذه الشرائط يمكن منعها من الدخول فى البلاد الإسلامية، فلا أظنكم تستطيعون منعها فى البلاد الأجنبية وفى هذا تكون الطامة أم ندع القوم يعبثون بنا ويمسخون حقيقتنا؟ وليعلم إخوانى المصريون أن شعارى هو دينى قبل كل شىء».

ولم تشفع هذه المبررات ليوسف وهبى إذ استمر الهجوم عليه وعلى المسرح الذى يقدمه حتى بعد أن أصدرت مشيخة الأزهر فى آخر مايو 1926 قرارا حاسما بتحريم تجسيد الأنبياء والصحابة وخاصة الرسول الكريم على الشاشة، وهو القرار الأول من نوعه والذى دأبت المؤسسة الدينية بعد ذلك على تكراره فى كل أزمة مشابهة، وتبين لاحقا أن التركى وداد عرفى يهودى الديانة وكذلك أصحاب الشركة الفرنسية، فضلا عما يثار دائما عن ماسونية يوسف وهبى نفسه، ونجحت المؤسسات الدينية فى كل المواجهات اللاحقة فى فرض قبضتها وكلمتها، ولكن يبدو أن التطورات التكنولوجية فى السنوات الأخيرة وخاصة فى عصر السماوات المفتوحة قد غلت يد تلك المؤسسات أو على الأقل خففت من قبضتها، فقد نجحت مسلسلات تليفزيونية مثل «عمر» و«الحسن والحسين» وغيرهما فى المرور إلى المشاهد عبر فضائيات عربية شهيرة، ويبدو أن مسلسل «معاوية» لن يكون المواجهة الأخيرة فى هذا الملف الشائك.

 
 

أخبار الساعة