رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الذهـــــب.. سيــد المــلاذات الآمنــة!


31-3-2025 | 02:41

.

طباعة
بقلـم: د.وفاء على

لا شك أن الملاذات الآمنة تتأثر بالدورة الاقتصادية التى يمر بها العالم، سواء كان ذلك فى فترات النمو أو التباطؤ أو الركود أو حتى فى استقرار الأسواق، للدرجة التي أصبحت الملاذات الآمنة رهينة لعمليات الإكراه الاقتصادى وقرارات التشديد النقدى، التى جعلت الصراع قائمًا بين البيانات الحقيقية والمؤشرات المتوقعة.

تقلصت جميع المؤشرات بفعل مخاوف الفيدرالى الأمريكي، خصوصًا أن رسوم ترامب تضغط على الأسواق، وأولها السوق الأمريكية تحت بند «أمريكا أولًا».. وها هو الملاذ الآمن، أو المعدن الأصفر، أو أونصة الذهب تنتصر لنفسها وسط كل هذا التصعيد المستمر.. ومع زيادة حالة التوتر العالمى اقتصاديًا، والتى أصبح من الصعب وصفها وبعدما تراجع المزاج الاقتصادى الدولي، وضعفت المعنويات الاقتصادية وساد الارتباك، أصبح الملاذ الآمن هو قوس الانتشار.. وهنا نصل إلى السؤال العالق دومًا: هل الأسواق تلبى النداء؟ لذلك لا بد من الإبحار بالأرقام والبوصلة الاقتصادية التى تحدد الاتجاه، بعدما صار الذهب يجتاز الثلاثة آلاف دولار أو حولها أخيرًا.

لا شك أن الذهب يمثل أهمية اقتصادية كبيرة، وهو يمثل للإنسان أهمية خاصة جعلته من الكنوز، حيث حرص الأفراد منذ الزمن البعيد على استخدامه فى الزينة والحُلي، وزين به الفراعنة مقابرهم تعظيمًا للمعدن النفيس، ولذلك، اهتمت به الدول وجعلت له بورصة عالمية تتغير أسعارها كل يوم، شأنه شأن العملات والسلع الأخرى التى يتم تداولها، ولها مضاربات وسوق للعرض والطلب، كما تحرص كل دولة على امتلاك احتياطى كبير من الذهب يمثل قاعدة حماية، مما يجعله يلعب دورًا هامًا فى «النظام النقدى العالمى»، إذ تم صكه كعملات واحتفظ بارتباطه القوى وصلته بالنقد العالمى من خلال ما يُعرف اقتصاديًا بـ«قاعدة الذهب».

ومنذ الحرب العالمية الأولى، بدأت الدول تفرض قيودًا على صادراتها من المعدن الأصفر، إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية وبدأ نظام آخر، وهو نظام «التثبيت»، ليحل محل «قاعدة الذهب» بشكل تدريجي، حينها، قررت الولايات المتحدة وضع سعر أدنى للذهب بالدولار تستخدمه البنوك المركزية الدولية فى البيع والشراء، وأكملت خطتها عام 1971 عندما انخفض احتياطى الولايات المتحدة من الذهب وارتفع عجز ميزان المدفوعات، مما دفعها إلى اتخاذ قرار بإلغاء قاعدة الذهب. ومنذ ذلك الحين، أصبح النظام النقدى العالمى يعتمد على الدولار وغيره من العملات الورقية.

وأصبح الجميع، خصوصًا فى وقت الأزمات، يلجأ إلى الادخار فى المعدن النفيس، الذى يتميز بغلاء ثمنه وسهولة حمله، كما أنه عملة دولية يمكن بيعها فى أى مكان فى العالم، كما تلجأ الدول إلى رفع احتياطياتها من الذهب لتحتمى به وقت الأزمات، فروسيا مثلًا كدست كميات كبيرة منه فى الأعوام الماضية لمساعدتها فى تقليل الآثار الاقتصادية لأى عقوبات تُفرض عليها.

فكل الدول تحتمى به فى حالات عدم الاستقرار الاقتصادي. وقد كان الحديث فى مصر خلال الفترة الماضية عن ارتفاع أسعار الذهب وتكالب الأفراد على شراء السبائك والجنيهات باعتباره ملاذًا آمنًا، دون النظر إلى أى طريق آخر للادخار، وذلك على حساب الاقتصاد القومي، فى ظل المخاوف الواسعة وحالة عدم اليقين بشأن قيمة الجنيه، ومحاولات صموده أمام الدولار، شأنه شأن العملات العالمية الأخرى، سواء على المدى القصير أو الطويل أو المتوسط، مع ارتفاع مستويات التضخم فى البلاد، والتى دفعت البنك المركزي، كغيره من البنوك فى جميع أنحاء العالم، إلى رفع أسعار الفائدة.

ومع ارتفاع معدلات التضخم، ومع عادات الثقافة المتوارثة بين عديد من المصريين والشعوب الأخرى ممن لديهم فائض مالي، يلجأون إلى تحويل أموالهم إلى ذهب كوسيلة للتحوط والحفاظ على القيمة، ولذلك شهدت الأسواق فى الأسابيع الماضية حجم إقبال على شراء المعدن النفيس مع قلة المعروض، ويرتبط السعر المقوَّم للذهب فى مصر بعدة عوامل، ألا وهي:

أولاً: السعر العالمى للذهب.

ثانياً: قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار.

ثالثاً: آليات ومرونة العرض والطلب.

ولا شك أن تراجع وانخفاض قيمة الجنيه أسهما كثيراً فى زيادة سعر الذهب مع قلة المعروض، ولذلك جاءت التصريحات بالسماح بالاستيراد من الخارج لتغطية الطلب المحلي، فى محاولة لخفض الأسعار، ومعه أيضاً عدم توافر المعروض من الدولار.

قراءة الأسواق وسبائك الذهب

ومن اللافت للنظر أن هناك طلباً متزايداً من قبل الأفراد وفئات الشعب الراغبة فى الاستثمار فى شراء السبائك الذهبية، وليس المشغولات التى تشهد حركة بطيئة فى عملية البيع حالياً، ومن خلال استطلاع رأى المتخصصين وغرفة التجارة الخاصة بالذهب، يتضح أن هناك ضبابية كبيرة فى معرفة متى تنتهى هذه الموجة، لارتباطها بعوامل كثيرة تؤثر على أسواق الذهب.

وبالتأكيد فالارتفاعات غير المنطقية فى سوق الذهب والإقبال الكبير على شراء السبائك والجنيهات الذهبية يتطلبان من الجميع التريث فى الإقبال على المعدن النفيس حتى تتراجع الأسعار وتعود إلى وضعها الطبيعي.

الأحداث الجيوسياسية وتأثيرها

لا شك أن قطاع الذهب يتأثر أيضًا، كأى سلعة أخرى، بالأحداث السائدة على المشهد العالمى والإقليمي. فقد جاءت الأزمة السودانية المفاجئة لتلقى بظلالها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، على سوق الذهب، إلى جانب الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة «طوفان الأقصى»، والتهديدات التى يواجهها الاقتصاد العالمي، مما يجعل من الصعب التنبؤ بمسار سوق الذهب فى أى مكان.

فالمستثمر فى كل مكان بات تفكيره ينحصر فى التمسك بالمعدن النفيس والاستحواذ عليه، دون النظر إلى الاستثمار طويل أو قصير الأجل فى مشروعات ذات عوائد وقيمة مضافة للاقتصاد القومي. ويؤدى ذلك إلى حالة التسييل عند الحاجة، مما يمثل خطرًا حقيقيًا على المسار الاقتصادي، خصوصًا أن أحدًا لا يعلم إلى أين يتجه هذا السوق، ولا متى سيتوقف التسارع فى الأسعار، أو كيف يمكن خفضها، فى ظل عدم وجود تغير يذكر فى حركة البورصة الخاصة بسوق الذهب.

فى السابق، كان التجار يحصلون على الدولار من البنوك لشراء الذهب من الخارج، أما الآن، ومع تغير الأولويات الحكومية فى ملف الاستيراد، لم يعد الذهب ضمن هذه الأولويات.

تأثير الذهب على الاقتصاد المصري

ونتيجة للأجندات الاقتصادية المتخبطة عالميًا، ظهرت تأثيرات سلبية واضحة لأسواق الذهب على الاقتصاد المصري. فقد لجأ العديد من المصريين إلى وضع مدخراتهم فى المعدن النفيس، لا سيما مع التصريحات السلبية لبعض المسؤولين على وسائل التواصل الاجتماعى حول الأوضاع الاقتصادية. وقد دفع ذلك البعض إلى شراء الذهب خوفًا من عدم استقرار الجنيه المصري، الذى يحتاج إلى دفعة قوية لرفع قيمته، مما قد يؤدى فى النهاية إلى استقرار أسواق الذهب.

ومع الحديث عن ارتفاع أسعار الذهب فى مصر، لا يمكن إغفال أن البلاد أصبحت أكبر مشترٍ للذهب من البنوك المركزية على مستوى العالم خلال الربع الأول من العام قبل الماضي، وفقًا لتأكيدات مجلس الذهب العالمي.

وقد ازداد احتياطى الذهب المصرى بعد شراء 44 طنًا من الذهب خلال فبراير 2022، مما رفع إجمالى ما تملكه الدولة بنسبة 54 فى المائة ليصل إلى 125 طنًا، أى ما يعادل 17 فى المائة من إجمالى الاحتياطيات المصرية، وهى النسبة الأعلى فى المنطقة.

وفى فترة سابقة، كان المصريون فى الخارج يفضلون شراء الذهب عندما كانت هناك أسواق موازية، أما الآن، ومع استقرار سعر الصرف ووجود حالة من الانكشاف العميق نتيجة ارتفاع أسعار الذهب، وغياب السعر الموازى للعملة، ظهرت العديد من الأسئلة التى تحتاج إلى دراسة معمقة. وهنا، لا يكفى أن تعتمد الأجهزة المالية على التقارير فقط، بل يجب تشكيل فرق عمل تتواصل مع المصريين فى الخارج، ليس فقط من منظور الانتماء، وإنما باعتبار أن تحويلاتهم تمثل أحد أهم مصادر النقد الأجنبى للدولة.

الأوزان الاقتصادية للعالم

ارتفع سعر الذهب فى البورصة العالمية ضمن المستويات العادية، لكن سعره عالميًا له مقاومة محورية، حيث لا يرتبط كالمعتاد بالبورصة العالمية فقط، وإنما بسعر صرف الدولار، خصوصًا فى هذا التوقيت الذى يشهد أداءً باهتًا للاقتصاد واحتمال ركود كبير مع استمرار التصعيد. فسوق الذهب، كأى سلعة أخرى، يتأثر بالتصريحات والمعنويات السائدة فى الأسواق.

لقد اتفق الجميع على أن تشابك العوامل المحلية والدولية فى وقت واحد شكّل سببًا رئيسًا فى هذا الارتفاع القياسى للمعدن النفيس. أما الأمر المحير فى سوق الذهب المصري، فهو أنه من المفترض ارتباطه بالسعر فى البورصة العالمية، إذ يجب على التجار مواكبة الأسعار العالمية لحظة بلحظة. وكما هو متعارف عليه، فإن الذهب والدولار مرتبطان كوجهين لعملة واحدة، حيث يُقيَّم المعدن عالميًا وفقًا لسعر الدولار، ومصر جزء من هذا النظام. فعند استيراد الذهب، يدفع التاجر قيمة الخام بالدولار، ورغم تراجع استيراد الذهب الخام بسبب شح الدولار وعدم توافره، فإن التجار يواكبون الأسعار العالمية ليس للذهب فقط، ولكن للأسعار العالمية المقيمة بالدولار.

ومع سياسة التشديد النقدى وتراجع البيانات الأمريكية، انخفض الذهب فى المعاملات الفورية للأونصة، وهبطت العقود الأمريكية الآجلة للذهب، خاصة مع توافد قرارات الفيدرالى الأمريكى برفع سعر الفائدة وتثبيته لمدة أطول خلال هذا العام، مما جعل حالة الارتباك تسيطر على أسواق الأسهم والسندات الأمريكية ومنطقة اليورو بأكملها، الأمر الذى يؤثر على الأسواق، ومنها أسواق الذهب، باعتباره ملاذًا آمنًا وقت الأزمات.

ومن هنا، بدأت الدول خلال الفترة الماضية، استشعارًا بالأزمة الاقتصادية، باللجوء إلى شراء كميات كبيرة من الذهب، ومنها الصين وروسيا ومصر.

تأثير الركود على الذهب فى المرحلة المقبلة

تواصل أسعار الذهب قفزاتها القياسية فى الأسواق، تحت ضغط ارتفاع الدولار فى الأسواق العالمية، وكذلك ارتفاع الأسعار فى البورصة العالمية، تزامنًا مع شهية مفتوحة من قبل المستهلكين للشراء فى ظل ندرة المعدن النفيس وتراجع حجم المعروض فى الأسواق.

ولا شك أن الركود العالمى الذى يلوح فى الأفق أثّر على أسواق النفط، رغم تخفيضات أوبك+ وروسيا الطوعية للإنتاج، إلا أن نتائج الأسواق جاءت عكس التوقعات، وانخفضت الأسعار رغم شح المعروض. فهل يلحق الذهب بالنفط؟

الإجابة التى تلوح فى الأفق، بعد تلميحات الفيدرالى الأمريكى عن احتمالية استمرار تثبيت أسعار الفائدة فى المرحلة القادمة، تتضح من تصريحات رئيس الفيدرالى الأمريكى چيروم باول، الذى أكد أن الفيدرالى ليس بحاجة إلى التسرع فى خفض الفائدة، متوقعًا تقلص معدلات النمو وأداءً أضعف للاقتصاد العالمي. ويأتى ذلك مع استمرار سياسات الرسوم الجمركية الترامبية الجديدة، التى ستبدأ فى الثانى من أبريل القادم، إضافةً إلى تأثير الهدنة بين روسيا وأوكرانيا، التى قد تضغط على أسواق المعدن الأصفر، إلى جانب الحروب التجارية المتزايدة.

لقد أدرك المستهلك خلال الأشهر الستة الماضية أهمية الاستثمار فى الذهب، مما أثر على حجم المعروض وزاد الطلب عليه. وتشير التنبؤات الاقتصادية إلى أن الركود سيلحق بالذهب، ما سيؤدى إلى تراجع القوة الشرائية، وانخفاض عائد السندات الأمريكية، وزيادة الخلاف على سقف الديون، وهو ما قد يعزز مشتريات المعدن النفيس عالميًا، كأحد التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية.

أما على الصعيد المصري، فنحن بانتظار ما ستسفر عنه السياسة النقدية المنتظرة، وإطلاق صندوق للذهب المصرى فى البورصة، إلى جانب قرارات الدولة بشأن شراء الذهب من الخارج بالنسبة للمواطنين العائدين من الخارج. ومع ذلك، لا بد من التريث فى عمليات شراء الذهب، وعلى المواطن أن يسأل نفسه: هل الملاذ الآمن له يكمن فى جعل اقتصاد بلده فى حالة تنافسية كلاعب أساسي؟

يجب الأخذ فى الاعتبار المخاوف المتعلقة بالركود، والعقود الآجلة للذهب، التى قد تصل إلى أرقام قياسية، فى ظل ترقب الأسواق لنتائج سياسات ترامب، ووجود توقعات بانخفاض وتيرة النمو الاقتصادى العالمي. والسؤال الأهم: هل الأسواق الناشئة أمامها فرصة للاستفادة من هذا الاحتفال بالمعدن الأصفر، أم أن «الملاذ الآمن» سيظل صديق الشدة؟

 
 
 
 

الاكثر قراءة