رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

عندما تتحدث الآثار المصرية بحكايات من المجد والترف والجمال


26-12-2025 | 11:58

.

طباعة
كتبت: أمانى عبد الحميد

أيام حافلة بالاكتشافات المذهلة عاشتها مصر دون أن تأخذ حقها من الحفاوة. العالم تحدث عنها باستفاضة. فى حين اكتفت وزارة الآثار والسياحة المصرية بالتنويه عنها بشكل عابر. ها هو الملك المعظم أمنحتب الثالث يعود ليطالعنا أمام معبده ذو الاسم العجيب «ملايين السنين» بعد تجميع تمثالين له يجسدانه جالسا على العرش. فى حين تتصدر بعض من أجزاء مراكب الشمس الخاصة بالملك خوفو قاعات العرض بالمتحف الكبير، كما تأخذنا عظمة اكتشاف «أبوصير» والسفينة الترفيهية الغارقة وإطلالات الملكة «نفرتاري» وعودة التابوت المذهب البديع بعد غربة طويلة، نحو عالم علمى أثرى مليء بالحكايات والتفاصيل التى وجب علينا سردها بشكل أفضل، لما لها من تأثير إيجابى على حركة السياحة العالمية المتعطشة لكل ما هو فريد ومثير ومميز، يستطيع أن يحكى تاريخ الحضارة المصرية القديمة بطريقة غير تقليدية.

 

يتحدثون ليلا ونهارا، عن الجهود المبذولة من أجل تنشيط السياحة العالمية الوافدة إلى مصر. ويتناسون أن الحضارة المصرية بمختلف عصورها هى القلب الجاذب للعالم أجمع. والسبب الرئيسى الدافع لزيارة أرض مصر. وهو ما شهدناه عند افتتاح المتحف المصرى الكبير من حفاوة غير مسبوقة بمصر وحضارتها القديمة. لذا عندما يمتلك المجلس الأعلى للآثار اكتشافات، مشروعات علمية، ترميما، معارض، آثارا مستردة من الخارج، وجب على الوزارة تسليط الضوء عليها بشكل أكبر. وهى الإنجازات العلمية التى من شأنها منح السياحة المصرية دفعة قوية إلى الأمام. بشكل أقوى بكثير من الحملات الإعلانية مدفوعة الثمن بملايين الدولارات.

وهو ما عاشته مصر طوال ديسمبر، شهر الاحتفالات والأعياد حول العالم. حيث بدت الخريطة الأثرية والسياحية فى مصر مليئة بزخم من الأحداث والاكتشافات الجديدة. ومنها ما كشفت النقاب عنه وزارة السياحة والآثار داخل المتحف المصرى الكبير. حيث أعلنت عن عرض جزء كبير من مركب الشمس الثانية التى تخص الملك «خوفو» للمرة الأولى داخل المبنى المتحفى المخصص لمراكب الملك والملحق بالمتحف الكبير. كى يخوض الزائر تجربة فريدة لا مثيل لها داخل أبرز المتاحف النوعية فى العالم. وهو المتحف الذى يحتضن قطعتين أثريتين نادرتين من أقدم وأضخم الآثار العضوية التى وصلت إلينا عبر آلاف السنين، وهما مركب الملك «خوفو» الأولى والثانية. ولأول مرة يتم عرض المركبين الملكيين جنبا إلى جنب فى موقع واحد، بعد نقل المركب الأول من منطقة أهرامات الجيزة إلى المتحف. واليوم نستطيع أن نتأمل جزءا من مركب الملك خوفو الثانى، بعد استخراج ألواحه الخشبية وجميع أجزائه من موقعه الأصلى بجوار الهرم الأكبر. سنتمكن من متابعة عملية الترميم الدقيقة لأخشابه بشكل مباشر وحى. حيث تم تجميع وتركيب بعضها أمام الزوار. وهو نوع مختلف أو تجربة متحفية غير اعتيادية باتت متاحة. ويتم عرض نموذجا مطابقا لإحدى الحفر الأصلية التى تم اكتشاف المراكب داخلها، بنفس الأبعاد والمقاييس، مع عرض 18 كتلة حجرية أثرية كانت مستخدمة لتغطية الحفرتين، وتحمل نقوشا أصلية. وعليها رسوم الجرافيتى التى سجلها العمال المصريون القدماء. إلى جانب مقاسات الأحجار وخراطيش الملوك «خوفو» و«جدف رع»، لتمنح الزائر تصورا واقعيا ودقيقا لموقع الاكتشاف.

ومن الجيزة إلى الأقصر، وبعد أكثر من عشرين عاما من العمل والتجميع والترميم العلمى ها هو الملك أمنحتب الثالث يطل علينا من جديد. يجلس بشموخ ويداه مستقرّتان على فخذيه. مرتديا غطاء الرأس «النمس» يعلوه التاج المزدوج والنقبة الملكية ذات الطيات، وتزين ذقنه لحية احتفالية. بينما يكتمل زيه بذيل الثور التقليدى. يصاحبه عدد من تماثيل الملكات، تتقدمهن الزوجة الملكية العظيمة «تي» إلى جانب تماثيل للأميرة «إيزيس» والملكة الأم «موت إم ويا». كما تزيّنت جوانب العرش بمنظر «السماتاوي» الذى يرمز إلى توحيد مصر العليا والسفلى، مع بقايا ألوان أصلية ما زالت ظاهرة على بعض العناصر الزخرفية.

حيث نجحت البعثة التابعة للمعهد الألمانى للآثار بالقاهرة برئاسة الدكتور ديترش راو بالتعاون مع المجلس الأعلى للآثار برئاسة الدكتور محمد إسماعيل فى تجميع تمثالين ضخمين من الألبستر للملك أمنحتب الثالث وذلك بعد ترميمهما وإعادة تركيبهما ورفعهما بموقعهما الأصلى بالصرح الثالث بالمعبد الجنائزى للملك بالبر الغربى. وذلك ضمن أعمال مشروع الحفاظ على تمثالى «ممنون» ومعبد الملك أمنحتب الثالث الذى بدأ العمل عليه عام 1998. بالتعاون مع جامعة يوهانس جوتنبرج فى ماينتس، بهدف حماية ما تبقى من المعبد وإعادته إلى شكله الأصلى قدر الإمكان.

وكشفت الدكتورة نايرى هابيكيان رئيسة البعثة الألمانية أن المشروع العلمى شمل ترميم وإعادة تركيب ورفع زوج من التماثيل الجالسة المصنوعة من الكوارتزيت عند مدخل الصرح الثانى. كما تم رفع تمثالين ملكيين واقفين من الكوارتزيت عند البوابة الشمالية لحرم المعبد. حيث بدأت عمليات الإنقاذ باستخراج الآثار المفككة من الطمى والمياه المالحة، وإعادتها إلى مواقعها الأصلية بفضل تنفيذ نظام شامل لخفض منسوب المياه الجوفية.

وهو المشروع الذى كشف عن معالم المعبد الجنائزى للملك أمنحتب الثالث، المعروف باسم معبد «ملايين السنين». والذى شيده خلال النصف الأول من القرن 14 قبل الميلاد على مدى 39 عامًا من فترة حكمه. ويعتبر المعبد الأكبر بين المعابد الجنائزية وأكثرها ثراءً فى عناصره المعمارية والتجهيزية. لكن المعبد انهار نتيجة زلزال عنيف تعرضت له الأقصر فى عام 1200 قبل الميلاد.

ومن الأقصر إلى الإسكندرية، حيث أعلن المعهد الأوروبى للآثار البحرية الغارقة عن اكتشاف حطام مركب ترفيهى مصرى قديم يعود تاريخه إلى نحو ألفى عام قبالة سواحل مدينة الإسكندرية. وأوضح البيان الصادر عن المعهد أن الغواصين عثروا على هيكل المركب الغارق داخل ميناء جزيرة «أنتى رودس» الغارقة. ويبلغ طوله أكثر من 35 مترًا، وعرضه نحو 7 أمتار. ومن المرجح أن المصرى القديم استخدمه كمركب ترفيهى مخصص للأمراء والحاشية الملكية خلال العصر الرومانى فى مصر. ويضم المركب الفخم كتابات يونانية على هيكله. ومن الأرجح أنها تعود إلى النصف الأول من القرن الأول الميلادى. وهو ما يؤكد فرضية أن المركب تم تصنيعه فى مدينة الإسكندرية، خاصة وأنه يضم مقصورة فاخرة ومزخرفة، ويعتمد فى حركته على المجاديف فقط.

وأكد عالم الآثار الفرنسى فرانك جوديو مدير المعهد والمتخصص فى الآثار المصرية الغارقة، أن الاكتشاف الأثرى يعتبر سابقة فى علم الآثار المصرية. فالمركب هو الأول من نوعه الذى يتم العثور عليه فى مصر. والذى أكد ما جاء فى كتابات عدد من كتابات المؤرخين القدماء من بينهم الجغرافى الإغريقى «سترابو» عن وجود نوع من المراكب التى وصفوها بأنها «ترفيهية». وهو الأمر الذى يكشف عن جوانب من الحياة الاجتماعية والدينية وطرق الترفيه والنقل المائى فى مصر خلال العصرين البطلمى والرومانى. خاصة وأن مدينة الإسكندرية التى بناها الإسكندر الأكبر عام 331 قبل الميلاد، قد غرقت نتيجة زلازل وأمواج مد عنيفة ولاتزال آثارها غارقة قبالة سواحلها حتى اليوم وتحتاج مزيدا من الحفائر العلمية.

ومن الشمال إلى «منف» عاصمة الدولة القديمة مرة أخرى، طالعتنا أخبار عن كشف أثرى مثير للدهشة للبعثة الأثرية الإيطالية، برئاسة كل من الدكتور ماسيميليانو نوتسولو والدكتور روزانا بيريللى من جامعتى تورينو ونابولى، العاملة بمنطقة «أبو غراب» داخل منطقة «أبوصير» الأثرية، عن بقايا معبد الوادى للمجموعة الشمسية للملك «نى أوسر رع» من عصر الأسرة الخامسة من الدولة القديمة، مما يساهم فى فهم نشأة وتطور معابد الشمس فى مصر القديمة.

الكشف الأثرى يتميز بتخطيط معمارى فريد، مما يجعله أكبر وأبرز معابد الوادى بجبانة «منف» الملكية. حيث نجحت البعثة الإيطالية فى الكشف عن أكثر من نصف بناء المعبد، أحد معبدى الشمس وفق حضارة مصر القديمة، والذى بدا كمبنى ضخم تتجاوز مساحته الألف متر. وكان الألمانى لودفيغ بورخارت كان قد حدد موقع المعبد عام 1901، إلا أن ارتفاع منسوب المياه الجوفية آنذاك حال دون تنفيذ حفائر به. لذا كانت طبقة كثيفة من طمى النيل تغطى مدخل المعبد بلغ ارتفاعها نحو 1.20 متر. وكشفت الحفائر العلمية عن الأرضية الأصلية للمدخل، وقاعدة عمود من الحجر الجيرى، وبقايا عمود دائرى من الجرانيت من المرجح أنه جزء من الرواق الرئيسى للمدخل. طبقا لما ذكره الأثرى محمد عبد البديع رئيس قطاع الآثار المصرية بالمجلس الأعلى للآثار. وأشارت الدكتورة روزانا بيريللى إلى اكتشاف عتبة حجرية ضخمة منقوشة بنصوص هيروغليفية، تتضمن تقويمًا للاحتفالات الدينية الخاصة بالمعبد، إضافة إلى ذكر اسم الملك «نى أوسر رع». وتشير الدراسات الأولية إلى أن المعبد، بعد انتهاء دوره كمكان للعبادة الملكية، تحول إلى منطقة سكنية صغيرة سكنها أهالى المنطقة خلال عصر الانتقال الأول، مما يساهم فى فهم تفاصيل الحياة اليومية لسكان منطقة «منف» خلال فترة زمنية تعتبر قليلة التوثيق من تاريخ مصر القديم.

وداخل المتحف المصرى بالتحرير تتواصل العلاقة التاريخية بين مصر وإيطاليا كدولتين من دول العالم القديم. عبر إقامة معرض مؤقت للصور التى تكشف جمال مقبرة الملكة «نفرتاري» زوجة الملك رمسيس الثانى. المعرض يحمل عنوانين. الأول عنوان «المتحف المصرى بالقاهرة وإيطاليا: حكاية علاقة خاصة». والثانى بعنوان «نفرتاري: إحياء جمال أجمل الجميلات والمقبرة وتاريخها. وذلك داخل القاعة رقم 7 بالدور العلوى للمتحف ويستمر لمدة ثلاثة أشهر، ضمن سلسلة الفعاليات التى ينظمها المتحف احتفالًا بالعلاقات المتميزة بين مصر وإيطاليا فى مجال العمل الأثرى، والتى تمتد لعقود من التعاون البحثى والعلمى والمشاريع المشتركة. ويسلط المعرض الضوء على التاريخ الفريد لمقبرة الملكة نفرتارى (QV66) إحدى أروع وأجمل مقابر وادى الملكات. إلى جانب استعراض مراحل أعمال الترميم التى قام بها الجانب الإيطالى لإعادة رونقها وإتاحتها للزيارة من جديد.

وما بين الاكتشافات العلمية والمعروضات الأثرية هناك دوما قطع أثرية خرجت من مصر موطنها بطرق غير شرعية. والتى من أجلها تواصل السلطات المصرية كافة الجهود حتى تعود إلى موطنها مرة أخرى بعد سنوات طويلة قضتها فى الغربة. وذلك ضمن استراتيجية وطنية متكاملة تعمل من خلالها الدولة المصرية على استرداد آثارها المنهوبة، والتصدى لأى محاولات للاتجار غير المشروع بالتراث الثقافى. لذا فإن استرداد قطعتين أثريتين من مملكة بلجيكا بعد خروجها بطريقة غير شرعية يمثل نصرا كبيرا للدولة المصرية فى سبيل محاولاتها فى الحفاظ على تراثها الثقافى بالتعاون والتنسيق الكامل مع وزارة الخارجية ومكتب النائب العام وكافة الجهات المعنية فى بلجيكا. حيث أكد الأثرى شعبان عبد الجواد مدير عام الإدارة العامة للآثار المستردة والمشرف على الإدارة المركزية للمنافذ الأثرية بالمجلس الأعلى للآثار، أن القطع الأثرية المستردة عبارة عن تابوت خشبى مطلى ومذهب من العصر المتأخر. مشيرا إلى تميزه بزخارفه الدقيقة التى تعكس الطقوس الجنائزية وتقنيات صناعة التوابيت فى ذلك العصر. بالإضافة إلى لحية خشبية أثرية كانت جزءًا من تمثال مصرى قديم، من عصر الدولة الوسطى، وتمثل نموذجا لأحد العناصر الرمزية المهمة فى فن النحت المصرى القديم.

وبسبب الزخم الأثرى العلمى داخل مصر، حرص شريف فتحى وزير السياحة والآثار على حضور الاجتماع الوزارى التاسع لمنتدى الحضارات القديمة المقام بالعاصمة اليونانية أثينا. كى يتحدث عن صون التراث الثقافى للشعوب وأهمية حمايته من مخاطر الاندثار كى يظل متوارثا عبر الأجيال المقبلة. مؤكدا بقوله: «التراث المصرى ليس مجرد مقتنيات أثرية، بل هو قصة شعب، وهوية وطن، وإسهام حضارى للإنسانية جمعاء...». ومؤكدا أن مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية يأتى فى ظل الاستراتيجية الوطنية لحماية التراث التى ساعدت مصر خلال السنوات العشر الماضية فى استرداد ما يقرب من 30 ألف قطعة أثرية بفضل التشريعات الصارمة، والتعاون الدبلوماسى، والمتابعة الدقيقة من قبل الإدارة العامة للآثار المستردة لصالات المزادات والأسواق الدولية. وأوضح أن مصر ترتبط بالعديد من الاتفاقيات الثنائية مع دول عدة من بينها الولايات المتحدة وإيطاليا وسويسرا وقبرص ولبنان والأردن والسعودية، فضلا عن التعاون الوثيق مع منظمة اليونسكو والإنتربول والمجلس الدولى للمتاحف. مستعرضا عددا من المشروعات الكبرى التى تنفذها الدولة المصرية لحماية وصون التراث بالتعاون مع شركاء محليين ودوليين، ومن أبرزها حماية قلعة قايتباى بالإسكندرية من التآكل الساحلى، وخفض منسوب المياه الجوفية فى دير أبو مينا بالإسكندرية، والذى أسهم فى خروجه من قائمة منظمة اليونسكو للتراث المعرض للخطر. إلى جانب خفض منسوب المياه الجوفية فى عدد من المواقع الأثرية الكبرى منها معبد كوم أمبو بأسوان، ومقابر كوم الشقافة بالإسكندرية، وترميم معبد دندرة بقنا، وقاعة الأعمدة الكبرى بمعابد الكرنك، ومقبرة الملك توت عنخ آمون والملكة نفرتارى بالبر الغربى بالأقصر.

وفى ختام الاجتماع تم إصدار إعلان أثينا 2025، الذى أكد على أهمية التعليم وتعزيز المعرفة والوعى العام فى صون التراث الثقافى وقيمته الإنسانية. كما تم الإقرار بأهمية التعاون الدولى، ووجود إطار قانونى متين لحماية التراث الثقافى، وخاصة فى مجال مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، بهدف استعادتها واستردادها إلى دول منشئها. وذلك وفقًا لاتفاقية اليونسكو لعام 1970. وهى التى تختص بحظر ومنع الاستيراد والتصدير والنقل غير المشروع لملكية الممتلكات الثقافية. ومن المقرر أن تترأس دولة إيطاليا الاجتماع الوزارى لمنتدى الحضارات فى عام 2026، على أن تتولى مصر رئاسته فى 2027.

أخبار الساعة