رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

احتفالية مئوية د. مراد وهبة.. الصوت الحاضر والعقلانية


26-12-2025 | 11:59

.

طباعة
بقلـم: إيمان رسلان

وسط جمع كبير من المثقفين وأساتذة الفلسفة والاجتماع احتفلت مكتبة الإسكندرية والمجلس العربى للطفولة والتنمية، بالصوت الحاضر للدكتور مراد وهبة وهو على أعتاب مائة عام، إنها ليست احتفالية برقم وبمئويات، كما درجت مؤسسات الثقافة مؤخرا، لكنها احتفال بالإنسان والوطن، فإنتاج د. مراد وهبة ليس رقما فقط وإنما هو احتفاء بالعقلانية والفلسفة وفى القلب منها التعليم، فالدكتور مراد وهبة لم يفصل بين الفلسفة والتعليم بل حارب فى كليهما وكانت له إسهامات ومشاريع كبرى به، حتى لو لم تتحقق، ولكن يكفى أنه أطلقها فى سماء التعليم والمعرفة، فالأفكار لها أجنحة، كما قال ابن رشد.

 
 

فى أواخر الثمانينيات كان أول تعرف لى بالدكتور مراد وهبة، وجاء ذلك عبر مؤتمر قومى للتعليم أيام د. فتحى سرور، وطرح د. مراد أفكارا بديعة، وهذه الكلمة كان دائم الاستخدام لها وأقتبسها منه للتعبير عن حسن الأفكار، ومن هذه الأفكار العظيمة حديثه المستمر فى قضايا الفكر وربطه بالتعليم والإبداع، فهو أستاذ الفلسفة بكلية التربية، وكنت أتابع مقالاته بمجلتى الحبيبة «المصور»، فتوطدت علاقتى العقلية به أولا ثم الصحفية، فتحاورت معه فى حوارات منشورة بـ«المصور» ليس فقط عن التعليم وسنينه وإنما فى الفكر وربما السياسة أيضا!

وأذكر منها أنه سرد لى وقائع إلغاء مادة الفلسفة بالثانوي من وزير التعليم فى عهد الرئيس عبد الناصر كمال الدين حسين، وحكى لى تفاصيل هذا القرار والمعركة التى قادها ضد القرار واستمرت حوالى شهر، وكان وقتها مشرفا على صفحة الثقافة والأدب بجريدة وطنى، وتم إلغاء القرار بالفعل من الرئيس عبدالناصر، والآن أستعيد ذلك والفلسفة يتم إلغاؤها من شهادة الثانوية أو البكالوريا؟!

وأتذكر من الحوار أيضا تفاصيل ما قاله لى عن الإخوان وسيطرتهم على التعليم منذ مراحل مبكرة قبل ثورة يوليو 1952، وأنه لذلك طلب مرشد الإخوان الهضيبى من الرئيس عبد الناصر تأجيل موعد الثورة؛ لأنهم أى الإخوان فى طريقهم للسيطرة على التعليم، وذلك سيفتح الباب أسرع للسيطرة على الحكم أو الدولة!، ترى لماذا لم يتم محاربتهم بقوة بمؤسسات التعليم والاستمرار بذلك عبر العقود المتوالية، وإعطاء القيادة والأولوية للتيار المحافظ فكريا داخل مؤسسات التعليم، واستمرار كمال الدين حسين والسيد يوسف لسنوات طويلة فى مراكز القرار التعليمى، حتى تشبعت الأرض والأجيال من بعدهم بالتفكير المحافظ ولن أقول بأفكار الإخوان فقط، وهو السؤال الذى ما زال يشغل ذهنى!

إن مشروع د. مراد وهبة والاحتفاء به هو مشروع للعقلانية أى سيادة التفكير العقلى والنسبى لمختلف القضايا، وليس سيادة الفكر المطلق أو الحقيقة المطلقة وهو أحد عناوين كتبه المهمة، وكما قال المفكر د. أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية إن الاحتفال بمراد وهبة يعنى أننا نحتفل بأن العقل يكون حاضرا والإنسان هو مركز هذا العقل، لذلك فالاحتفال به هو احتفال ودفاع عن العقل فى مواجهة كل أشكال الخطاب الماضوية، فالعقل هو صانع الحضارة، ولذلك فالتنوير يمثل الأساس للحضارات، ومن هنا تأتى أهمية الربط مع التعليم كما قال «زايد» والاهتمام بالأجيال الجديدة وتعليمهم على الأسس العقلانية، فهذا هو عنوان العبور لمستقبل أفضل.

وكان للدكتور حسن البيلاوى أمين عام مجلس الطفولة والتنمية، والطرف الثانى المهم فى التعاون لعقد هذه الاحتفالية المهمة دور مهم لتكريس دور د. مراد وهبة وللجهد المبذول لتكريم العقل والفكر ممثلا، أو كما وصفه «البيلاوى» أنه امتلك شجاعة طرح ضرورة إعمال العقل فى معركة التقدم، وحكى البيلاوى عن قصة اشتباكه معه عندما كان طالبا حول مقالة كتبها د. مراد عن البطل فى التاريخ، ودار النقاش وكيف أنه بفكره شرح المفهوم الصحيح المقصود، والفارق بين البطل والملهم، واقتنعت وتحرر فكرى من الأيديولوجيا المغلقة السائدة وقتها لرحاب العقلانية، وأكثر ما شدنى إليه هو محاربته للأصولية بدون هوادة أو تراجع عبر سنواته المديدة وحتى الآن، ويذكر له فى حربه هذه أنه كان صاحب صك الرأسمالية الطفيلية وربط الاقتصاد بالطبقة الطفيلية وعلاقة ذلك بالأصولية، فكان أول فيلسوف يكشف عن الأبعاد الطفيلية التى تتاجر فى كل شىء بما فيه الإنسان، وهو منْ ساهم فى وضع شعار المجلس العربى «عقل جديد لمجتمع جديد»، وهى الصيغة التى ما زلنا نطمح إليها، وأكد حلمى النمنم وزير الثقافة الأسبق فى الجلسة الأولى التى أدارها ضرورة إعادة طبع أعماله لأن د. مراد كان له مشروع واضح هو محاربة الأصولية على كافة الجبهات لأنها الأخطر على المجتمعات.

وكان د. سامح فوزى كبير الباحثين بمكتبة الإسكندرية ودينامو الاحتفالية قد قرأ رسالة من د. مصطفى الفقى مدير المكتبة السابق وبمشاركة منه فى الاحتفالية والذى وصفه بها أنه مبدع وفيلسوف حقيقى.

كثيرا ما تساءلت عن نمو التيارات اليمينية الحاكمة فى الغرب وربطها بالدين، وهنا تعود بى الذاكرة إلى تفسير قاله د. مراد وربط ذلك ربط مهم وهو أن عام 1979 كان عاما حاسما فى العالم وبدء التغيرات وتوغل الأصوليات، ففى هذا العام بدأت حرب أفغانستان، قيادة التيارات المسلحة لهذه الحرب باسم الدين، قيام الثورة الإسلامية بإيران، وبداية إعلان الرئيس ريجان ترشحه وانتشار مقولات اليمين الدينى من القس جيرى فلوول، وفى مصر نمو واستقواء التيارات الإسلامية المتشددة، فقد كان د. مراد أيضا يبغض الطائفية الدينية، وهنا لا بد أن نتذكر معركته وهجومه بمقالات شديدة الوضوح على تقرير من مجلس الكنائس العالمى فى الستينيات، فى التسعينيات طرح د. مراد وهبة ضرورة تأسيس تيار الرشيدية العربية، كما أكد الفنان محمود حميدة على ذلك حيث رأى «وهبة» أن فى ذلك خلاصا لهذه المنطقة أو بداية الطريق نحو العقلانية، كما كان ابن رشد العربى هو بداية التنوير فى أوروبا، ومن هنا خاض المعارك بالمجلس الأعلى للثقافة لتأسيس منتدى صالون ابن رشد الذى استطاع أن يحدث حراكا فكريا ويجذب الشباب والكبار لحضوره، وهنا تذكرت ما قالته د. صفاء عبد العزيز ود. كمال نجيب من أن د. مراد أسس بجامعة عين شمس فى السبعينيات «جمعية فلسفية بكلية التربية»، حيث كان رئيس القسم بها وكيف أن هذه الجمعية والتى انتخبت امرأة رئيسة لها ولأول مرة بالجامعات؛ لتمثل نقطة مضيئة لكل الطلاب وكانت تجتذب الكثير لحضور النقاشات الفكرية، والغريب أن د. مراد فُصل من عمله وقتها نتيجة أنه يتحاور مع الطلاب وكانت التهمة أنه خطر على عقل الشباب. إلى هذا الحد كان مجرد طرح أفكار واسم ابن رشد يثير تحفظ أنصار الحفظ والتراث.

لقد توقفت بعملى كثيرا عند أعمال ابن رشد ليست الفلسفية فقط والعقلانية بل التعليمية، فخلال بحثى بالتعليم اكتشفت جانبا خفيا، وهى أن ابن رشد قد كلف وشغل منصبا مهمًا أيام دولة الموحدين لتطوير التعليم بأكمله ووضع المناهج التعليمية، وهيكلة وبناء المدارس، وهو منصب أشبه بوزير التعليم أو رئيس مجلس التعليم الآن، فقد ربط ابن رشد دائما بين التعليم والفكر والتنوير ومحاربة الانغلاق وليس فقط فى مناداته بضرورة التأويل فى فهم النص الدينى، ولذلك واجه مقولات وأفكار الغزالى التى كانت فى طريقها للسيطرة فكريا خاصة فى المشرق.

إننا نحتاج ليس لإعادة منتدى ابن رشد للعمل، وذلك على الأقل لنكفر به عن سيئاتنا الفكرية، كما وصف ذلك أحمد عبدالمعطى حجازى بل لعدم إضاعة فرصتنا للنهوض.

إن د. مراد وهبة كان أول من نزل لقضايا رجل الشارع وطرحه للحوار مع قضايا الناس ولم ينعزل مع نخبة وراء جدران الجامعة أو الفكر، بل إنه كثيرا ما اشتبك مع النخبة نفسها حول قضايا الناس، وهو عن حق ومجهوده الفردى استطاع أن يربط الفلسفة برجل الشارع وقضايا المجتمع، كما وصفه د. كمال مغيث، إن إحياء وإعادة طبع كتب وجمع المقالات المتناثرة لـ«د. مراد وهبة» هى عمل فرض عين على الثقافة لمواجهة طغيان الفكر السلفى، كما أشار د. حسن حماد، ويتبقى أن أعمال د. مراد والتى يبلغ عددها ما يزيد على 20 كتابا، تمثل ضرورة ملحة الآن فى إعادة طبعها لأنها هى منْ أخرجت الفكر والفلسفة للاحتكاك بالجمهور، كما أشار د. مجدى عبد الحافظ ولا تصبح أفكارا داخل قاعات الدرس بل تتضمن تحليلا اجتماعيا للمجتمع وقضاياه. كما قال د. سعيد توفيق فى شهادته وطالب بذلك د. أشرف منصور ود. عدلى كساب وإبتهال عبد الوهاب وهند محمد، وأن تعتبر المؤسسات الثقافية عام 2026 هو عام مراد وهبة للتنوير والعقلانية، كما اقترح الزميل طه فرغلى.

إن مسيرة د. مراد وهبة ليست مسيرة مفكر فقط، وإنما هى تعكس كيف أن الفيلسوف والعالم الفرد يمكن أن يساهم فى قضايا المجتمع والنهوض به اشتباكا عضويا من إجلال نهضة وإعمال العقل، وعدم إلغاء الفلسفة كما يحدث أو مواجهة فكر الغزالى بأطروحات ابن رشد.

 
 
 
 
 
 
 

أخبار الساعة