الوصول إلى قبول الفصائل الفلسطينية ودولة الاحتلال بخطة ترامب لوقف الحرب، وما تبعها من ردود الأفعال المؤيدة عالميًّا سبقتها محطات عظيمة للجهود المصرية، وتحركات دبلوماسية مضنية من القاهرة، وضغوط تنوءبحملها الجبال، تحملتها الدولة المصرية عن طيب خاطر من أجل القضية الفلسطينية؛ لتظل حاضرة فى ضمير الشعوب والمنظمات الأممية والدولية حتى تحين لحظة الميلاد، فلا تراجع ولا استسلام عن إقامة الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ولا تكلُّ ولا تملُّ القيادة المصرية ممثلة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى من التأكيد الحاسم على أن هذه الخطوة الأساسية هى الضمانة الوحيدة للاستقرار الدائم والسلام المستمر فى الشرق الأوسط، مهما حاولت تل أبيب التهرب من التزاماتها، والتنصل من تعهداتها، ولن يضيع حق وراءه مطالب، وقد أثبتت أيام حرب غزة الثقيلة، وأكدت لياليها العسيرة، وأحداثها الشاقة، ووقائعهاالمرهقة أن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أرضهم، ولن يبيعوا عرضهم، وأنهم صامدون فى وطنهم حتى يأتيهم الفرج بتبنى مصر لقضيتهم، ولن تخذلهم القاهرة أبدًا.
ويحسب للرؤية المصرية أنها الأكثر فهمًا لجولات الصراع العربى الإسرائيلى وليس الفلسطينى فقط، بحكمالخبرة الكاملة فى التعامل مع هذا الملف على مدى أكثر من 80 عامًا، وقد خاضت القاهرة تجارب عديدة، واجتازات اختبارات متنوعة، وتمرست فى تبريد المواجهات المتعاقبة بين الطرفين، وخصوصًا بين حكومة الاحتلال والفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، وفى كل مرة يأتى الحل من البوابة المصرية بالجلوس على مائدة المفاوضات؛ لأن القاهرة دائمًا وسيط نزيه ومفاوِض شريف، وتدرك عن قرب، وتعلم عن معرفة نقاط القوة والضعفلدى الجانبين، فتسعى لتقريب وجهات النظر بما يخدم الاستقرار فى المنطقة، ويمنع الاشتعال بعيدًا عن أية مصالح خاصة أو أغراض خفية، وفى كل نزاع لا تتوقف عن مواصلة تحركات التهدئة باستضافة وفود التفاوض، والتواصل مع الشركاء المعنيين والقوى المؤثرة لتخفيف المعاناة عن الفلسطينيين، مع توفير آلاف الأطنان من المساعدات للشعب الفلسطينى بكل السبل برًّا وبحرًا وجوًّا، وعلاج الجرحى، وصولًا إلى خطط إعادة الإعمار فى وقت قياسى، وتحمل فاتورة ضخمة حتى تظل فلسطين للفلسطينيين، ووأد أى مخطط لتهجيرهم إلى أى دولة أخرى لا طوعيًّا ولا قسريًّا، كما تريد دولة الاحتلال.
وهنا يشهد القاصى والدانى لصالح المصريين قيادة وشعبًا وحكومة، أنهم حراس القضية الفلسطينية عبر التاريخ، وتجسدت هذه السياسة الراسخة خلال الـ 24 شهرا الماضية منذ أحداث طوفان الأقصى التى اتخذتها حكومة المتطرفين فى إسرائيل ذريعة لاقتلاع أصحاب الأرض، وإحراق قطاع غزة وتحويله إلى بيئة غير صالحة للحياة، بالقضاء على الأخضر واليابس، وتدمير الحجر وقتل البشر، حتى تفتح أبواب غزة على مصراعيها لتنفيذ مخطط التهجير الملعون، وتصفية القضية الفلسطينية إلى غير رجعة، تارة بالتجويع المُمَنهج واستخدام الغذاء كسلاح، وتارة بالقصف الوحشى والمجازر الجماعية لإجبار المدنيين الأبرياء على الفرار، وفرض السيطرة على القطاع، لكن الدولة المصرية فطنت إلى هذه المؤامرة، وحذرت منذ البداية أن اتساع العمليات العسكرية الإسرائيلية يزيد الصراع اشتعالًا ولن تسمح بالتهجير، مع تدفق المساعدات المصرية من خلال معبر رفح الذى لم يُغلق ساعة واحدة لنجدة الأشقاء، ومساندتهم على صمودهم، وعندما ضرب جيش الاحتلال الجانب الفلسطينى من المعبر تحول جسر المساعدات إلى الجو من شمال غزة إلى جنوبها، مما أفقد مؤامرة التهجير مفعولها، وتوالت الإدانادت العالمية ضد تل أبيب وما ترتكبه من جرائم الإبادة، ثم تكلل النضال الفلسطينى بدعم مصرى وعربى وإسلامى بتتابع الاعترافات بالدولة الفلسطينية؛ رغم الدسائس الإسرائيلية لعرقلة هذه المسيرة المقدسة، ثم توجت الجهود المصرية مع الشركاء القطريين والأمريكيين بخطة ترامب، التى تضمنت النقاط الثلاث التى تصر عليها مصر وهى وقف الحرب، ومنع التهجير، ودخول المساعدات، مما يترجم فى تهيئة الأجواء لصناعة السلام الحقيقى والمستدام.
ودور مصر فى مقاومة مخطط التهجير غنىّ عن التعريف، وموثق بالصوت والصورة منذ اندلاع شرارة تلك الحرب الظالمة على قطاع غزة، وليس أدلّ على ذلك من عبارات الرئيس السيسى الواضحة بلا تفسير، والقاطعة بلا قسم، خلال كلمته فى قمة القاهرة للسلام فى 21 أكتوبر 2023 عندما نبَّه زعماء الدول الحاضرين فى القاعة وأقرانهم المتابعين عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعى بل والرأى العام العالمى أنه يجب ألا يقبل العالم، استخدام الضغط الإنساني، للإجبار على التهجير، ومصر تجدد التشديد، على الرفض التام، للتهجير القسرى للفلسطينيين، ونزوحهم إلى الأراضى المصرية فى سيناء؛ إذ إن ذلك، ليس إلا تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، وإنهاء لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة، وإهدارًا لكفاح الشعب الفلسطينى.
وفى قراءة للمشهد ـ آنذاك ـ راهن الرئيس على صمود أهل غزة، وشهد فى حقهم قبل الجميع، وهو ما أدركه رؤساء الدول والمنظمات الأممية والدولية بعد مرور شهور طويلة، فقد قال الرئيس السيسى نصًّا «يُخطئ فى فهم طبيعة الشعب الفلسطيني، منْ يظن، أن هذا الشعب الأبىّ الصامد، راغب فى مغادرة أرضه، حتى لو كانت هذه الأرض تحت الاحتلال، أو القصف».
ولم تتغير اللهجة المصرية المضادة للتهجير أبدًا، وتمسكت الدولة المصرية على المستويين الشعبى والرسمى برفض التهجير؛ رغم الإغراءات الباهظة بفاتورة اقتصادية ضخمة بعدة مئات من المليارات بالعملة الخضراء، سيتم ضخها فى شرايين الاقتصاد الوطنى، وتصفير الديون الخارجية مقابل عدة مخيمات للفلسطينيين فى سيناء، لكن القيادة المصرية لم تُفرط قيْد أُنملة فى ثوابتها حول حماية القضية، وظلت العبارة المشهورة للرئيس السيسى تتردد على كل ألسنة المصريين، وتطارد الإسرائيليين فى كل مكان، وهى: «أؤكد للعالم بوضوح ولسان مبين، وبتعبير صادق، عن إرادة وعزم جميع أبناء الشعب المصرى فردًا فردًا: أن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث، وفى كل الأحوال «لن يحدث على حساب مصر»، وبالصبر والعزيمة تصنع القاهرة السلام، وهى سبَّاقة فى هذا المضمار، انطلاقًا من موقف القوة، وامتلاك القدرة، وما معركة أكتوبر المجيدة ببعيد، فنحن أمة سلام، وفى ذات الوقت مستعدون لكل السيناريوهات، وقادرون على مجابهة جميع المهددات».
إن كفاح المفاوض المصرى على مدى 24 شهرًا بالتمام والكمال لوقف إطلاق النار معلوم بالضرورة، ولا يحتاج للاستدلال أو البراهين، فقد تحمل من حكومة المتطرفين، وفى مقدمتهم سيموتريتش وبن غفير ما ينوء بحمله أولو العصبة، من الأباطيل المضللة إلى المراوغات الخبيثة لتشويه دور القاهرة، أو على الأقل دفعها إلى مغادرة حلبة الصراع، والتخلى عن مساندة القضية الفلسطينية، فمع كل تطور فى جولات التفاوض للوصول إلى الهدنة من فترة لأخرى تدور ماكينة الأكاذيب الإسرائيلية حول انحياز فريق العمل المصرى إلى الجانب الفلسطينى، أو اتهامات باطلة بتهريب الأسلحة للفصائل الفلسطينية من الحدود مع مصر، وصولًا إلى الافتراء الأكبر بالتنسيق بين الكيان المحتل وإخوان تل أبيب حول إغلاق معبر رفح أمام المساعدات إلى القطاع.
ورغم هذه الشائعات الحقيرة لم يغادر المفاوض المصرى مسيرة المباحثات من أجل إنقاذ الشعب الفلسطينى من تلك المحرقة النازية على الطريقة الإسرائيلية، وفى نفس الوقت عانى المفاوض المصرى من أفعال حركة حماس غير المسئولة، فهم يتصرفون بصبيانية عجيبة عند الاتفاق على الهدنة وتبادل الأسرى والمحتجزين، فيبالغ الحمساويون فى الاحتفالات، ويفرِطون فى مراسم تسليم المحتجزين بهدف إيهام الناس أنهم انتصروا فىالحرب، مما كان يعطى كل مرة المبرر أو العِلة لحكومة نتنياهو فى الرجوع عن استكمال باقى مراحل الهدنة والعودة للقتال، ولولا الدور المصرى الكبير بالتنسيق مع القطريين فى إقناع حركة حماس بضرورة إحراج الحكومة الإسرائيلية، ووضع نتنياهو وعصابته داخليًّا وخارجيًّا فى مأزق المحتجزين عن طريق القبول بخطة ترامب من أجل وقف الحرب، ما اتخذت الفصائل الفلسطينية هذا القرار، ولضاعت هذا الفرصة مرة أخرى نتيجة لتعنت الطرفين بحثًا عن مآرب خاصة ومصالح شخصية لصناع القرار لدى الطرفين، ومحاولة كل منهما الظهور فى موقف المنتصر، لكنها دبلوماسية النفس الطويل التى تحلت بها القاهرة، فعالجت الأخطاء، وتجاوزت المطبات، وترفعت عن الصغائر فتحقق لها ما أرادت.
وبشهادة مسئولى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية فضلًا عن تأكيدات المراقبين والمحللين، أن القاهرة وحدها هى صاحبة التصور العملى لليوم التالى فى غزة، من خلال الخطة المصرية التى طرحها الرئيس السيسى بشكل متكامل خلال القمة العربية غير العادية بالعاصمة الإدارية فى مارس الماضى، والتى تحولت إلى خطة عربية لإدارة قطاع غزة بعد وقف الحرب وإعادة إعماره، من خلال تعاون مصر مع الفلسطينيين فى تشكيل لجنة إدارية من التكنوقراط المستقلين الفلسطينيين من أجل الإشراف على عملية الإغاثة وإدارة شئون القطاع لمدة مؤقتة تمهيدًا لعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، مع وضع خطة شاملة لإعادة تعمير القطاع دون تهجير أى فلسطينى، إلى جانب الدعوة المصرية لمؤتمر دولى حاشد للمشاركة فى إعادة الإعمار، بحكم أن هذا المسار يشهد على التوازى خطة للسلام من الناحيتين السياسية والأمنية، وتهدف لتسوية القضية الفلسطينية بصورة عادلة وشاملة، وفور موافقة حماس والفصائل الفلسطينية على خطة الرئيس الأمريكى أكدت مصر مواصلة التنسيق مع كافة الأشقاء بالدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة والجانب الأوروبى والمجتمع الدولى للوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإزالة المعاناة عن الشعب الفلسطينى، مع اعتزامها استضافة مؤتمر إعادة الإعمار، وبالفعلرحب العديد من الدول بالمشاركة فى هذا الحدث ومنها هولندا خلال زيارة وزير خارجيتها لمصر هذا الأسبوع.
وخلاصة القول النابع من حقائق راسخة، وبراهين ساطعة، أن دور مصر فى إنهاء العدوان الإسرائيلى على غزة لا تخطئه عين، وموقفها الثابت فى حماية القضية الفلسطينية معلوم بالضرورة، فمع احترامنا لخطة ترامب لكنهامستمدة من ثوابت فرضتها القاهرة بعزيمة لا تلين وإرادة لا تنكسر، مع القيام بجهود جبارة لوقف إطلاق النار، وهو ما أكده الرئيس الأمريكى بالصوت والصورة عندما شكر مصر على مساعدته فى إنجاز الاتفاق بين حماس وإسرائيل من خلال جهد عظيم فى هذا المسار ـ حسب تعبيره ـ ثم حظيت مدينة السلام شرم الشيخ بثقة الفصائل الفلسطينية وتل أبيب والوسطاء من قطر وأمريكا لاستضافة المباحثات الأولى لتنفيذ بنود خطة وقف الحرب، والإعداد لمناقشة توفير الظروف الميدانية لتبادل الأسرى الفلسطينيين والمحتجزين الإسرائيليين، إلى جانب التجهيز لحوار فلسطينى جامع لمناقشة مستقبل قطاع غزة، فالجميع يدرك عن قناعة، ويعلم عن خبرة دور مصر المحورى فى طريق الحل، ويا لها من محاسن الصدف أن تُعقد المشاورات فى يوم نصر أكتوبر العظيم، وعلى أرض سيناء المقدسة فى ذكرى احتفالات النصر المبين.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء