على مدار عامين من الحرب المستمرة على غزة، أدارت مصر واحدة من أعقد ملفاتها الإقليمية بمنهج «دبلوماسية النفس الطويل»، راهنت خلالها على الوقت والعقل، لا على الانفعال، لتؤكد من جديد أنها صمام الأمان الذى يمنع الشرق الأوسط من الانزلاق إلى فوضى بلا نهاية، وليس فقط وسيطًا فى أزمات الإقليم الذى يقف منذ سنوات على فوهة بركان كان قاب قوسين أو أدنى من الانفجار أكثر من مرة خلال الشهور الماضية.
بين جولات تفاوض متعثرة، وضغوط دولية متشابكة، وتقلبات حادة فى المواقف بين واشنطن وتل أبيب، حافظت القاهرة على ثوابتها الراسخة ممثلة فى وقف نزيف الدم الفلسطيني، واستعادة الهدوء، وإبقاء القضية الفلسطينية حية فى وجدان العالم، رغم محاولات تهميشها أو تصفيتها، لتواصل دورها المحورى فى «صناعة التوازن» فى زمن الضجيج والبارود.
مصر التى فتحت معابرها للإغاثة، واستضافت وفود التفاوض المتكررة، وتحملت كلفة إنسانية وسياسية، تُدرك أن أى تهدئة حقيقية لن تمر إلا عبرها، وأن دورها لا يقاس بما يقال فى البيانات، بل بما يُنجز على الأرض، فى دلالة تليق بدولة تعرف قدرها وتعرف متى تتحرك.
هذا الأسبوع كانت القاهرة فى قلب المشهد من جديد، مع استضافتها لاجتماعات حاسمة بين وفدين من حركة حماس وإسرائيل، بهدف الاتفاق على الخطوط العريضة لخطة ترامب التى تستهدف بالأساس وقف الحرب فى غزة مع إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المحتجزين داخل القطاع منذ أحداث «طوفان الأقصى»، كما تأتى هذه التحركات فى ظل تصاعد الضغوط الدولية للانتقال إلى صياغة تسوية شاملة، فيما تراهن القاهرة على ما حققته من مكاسب سياسية خلال العامين الماضيين، لتثبيت موقعها كـ«وسيط موثوق» قادر على إدارة هذا المشهد المعقد، فى لحظة تبدو فيها المنطقة أكثر هشاشة من أى وقت مضى.
السفير على الحفنى، الأمين العام للمجلس المصرى للشؤون الخارجية، قال إن مصر تخوض حالياً واحدة من أكثر مراحل التفاوض تعقيدًا فى تاريخ القضية الفلسطينية، مستندة إلى خبرة تراكمت عبر عقود طويلة من العمل الدبلوماسى والتفاوضي، فالقاهرة تملك رصيدًا استثنائيًا فى هذا المجال، إذ كانت المفاوضات الدبلوماسية أحد أهم أسباب استعادة سيناء كاملة عقب حرب أكتوبر المجيدة، التى تحل ذكراها الـ52 هذا الشهر.
«الحفنى» أوضح أن مصر تشارك فى العملية التفاوضية بشأن وقف حرب غزة إلى جانب وسطاء دوليين وإقليميين، فى مقدمتهم الولايات المتحدة وقطر، لكن رغم تعدد الأطراف والوسطاء، ما زالت مصر تتصدر المشهد وتقود جهود الوساطة من موقع الخبرة والمسؤولية التاريخية، مضيفا: «نحن نمارس دورنا فى هذه المفاوضات بكامل مؤسسات الدولة، وبمنهجية تستند إلى ثوابت السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية منذ نكبة عام 1948، حين اعتُبرت فلسطين القضية الأم لمصر، على المستويات الوطنية والعربية والإسلامية، بل والدولية أيضًا».
وأشار السفير «الحفنى» إلى أنّ تزايد الاعتراف الدولى بدولة فلسطين، حتى من بعض الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن، يعكس قناعة متنامية بأن الأمن والاستقرار فى المنطقة لن يتحققا دون حل عادل للقضية الفلسطينية، يقوم على إقامة دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967، تكون القدس الشرقية عاصمتها، مشددا على أن مصر لا يمكن أن تتغيب عن أى مفاوضات تتصل بالقضية الفلسطينية، خاصة أنها خبرت التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، ومع شركاء ووسطاء من أطراف مختلفة، كما خبرته مع الفصائل الفلسطينية على تنوعها، ومن ثم فإن لمصر حقًّا ودورًا أصيلًا فى أى مسار تفاوضى يخص هذه القضية، انطلاقًا من مسؤولياتها التاريخية والتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني.
الأمين العام للمجلس المصرى للشؤون الخارجية شدد على أن مصر وضعت خلال المفاوضات الجارية حول غزة مجموعة من الخطوط الحمراء الثابتة، يأتى فى مقدمتها رفض التهجير القسرى للفلسطينيين، ورفض أى محاولات لتصفية القضية الفلسطينية، والتأكيد على ضرورة وقف الحرب كأولوية إنسانية وسياسية لا يمكن تجاوزها، والنهج الذى تتبعه القاهرة فى إدارة هذه المفاوضات ليس جديدًا، بل هو امتداد لمدرسة مصرية راسخة فى التفاوض تقوم على «النفس الطويل» و«الصبر الاستراتيجى»، وهى المدرسة ذاتها التى اتبعتها مصر بعد حرب أكتوبر 1973، حين بدأت باتفاقات فكّ الاشتباك الأول والثاني، واستمرت حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وصولًا إلى تحرير آخر بقعة من أرض سيناء فى طابا عبر التحكيم الدولي.
وأضاف: «نحن أصحاب مدرسة فى التفاوض، خبرنا الصبر ونعرف كيف نُدير الأزمات بتأنٍّ ووعي، هذه هى صنعتنا ومهارتنا التى يعرفها العالم عن مصر جيدًا، فطالما أن الأهداف واضحة، والتعامل مع جميع الأطراف يتم بشرف وشفافية، والرؤية متماسكة ومدركة للتحديات المحيطة بالمنطقة، فإن مصر تمضى فى طريقها بثقة حتى تحقق غاياتها، والعمل التفاوضى بطبيعته يتطلب الصبر والذكاء والقدرة على المناورة السياسية، لا التسرع أو الانفعال، وهناك من لا يدرك عمق الخطوات المصرية أو يسيء فهمها أحيانًا، سواء بسبب الغموض الذى تفرضه طبيعة الملفات، أو بسبب التسرع فى الحكم على نتائج المفاوضات».
ومضى قائلا: «مررنا بذلك مرارًا فى محطات سابقة، حيث كانت بعض الأطراف تُشكك أو تتساءل أو تستعجل النتائج، لكن ما أثبته التاريخ دائمًا هو صواب الرؤية المصرية، وحكمة المفاوض المصرى الذى يمتلك بعد النظر، والقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة بحنكة ودراية»، مشددا على أن سياسة «النفس الطويل» التى تنتهجها القاهرة ليست ترفًا سياسيًا، بل نهج استراتيجى أثبت فاعليته فى تحقيق الأهداف الوطنية والقومية عبر مراحل متعددة، فالتفاوض يحتاج إلى «طول بال، وإلى عقل راجح، وإلى وعى عميق بما يجرى فى الإقليم والعالم، وهذه السمات تتوافر فى الدبلوماسية المصرية المتجذرة فى تقاليد الدولة ومؤسساتها».
وأكد «الحفنى» أن مصر تتحرك فى هذه المفاوضات من منطلق الثوابت الوطنية، وبدافع الالتزام الأخلاقى والإنسانى تجاه الشعب الفلسطيني، فقد يختلف الآخرون فى وتيرة الفهم أو فى توقيت النتائج، لكن المؤكد أن حكمة المفاوض المصرى وحنكته، المتوارثة عبر أجيال من رجال الدولة والدبلوماسية، ستقود فى النهاية إلى تحقيق الأهداف التى وضعتها مصر لنفسها منذ بداية هذه الجولات، وفى مقدمتها وقف الحرب وصون الحقوق الفلسطينية المشروعة.
وأشار إلى أن الروابط بين الشعبين المصرى والفلسطينى تمتد عبر التاريخ الحديث والقديم على حدّ سواء، فالعلاقات بين الشعبين ليست وليدة العقود الأخيرة، بل تضرب بجذورها فى عمق التاريخ العربى المشترك، وهو ما يجعل القاهرة ملتزمة دومًا بالدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وبالتالى ركزت الجهود المصرية على تحقيق وقف شامل ودائم لإطلاق النار، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، فالقاهرة تعمل منذ اليوم الأول على تمكين دخول المساعدات الغذائية والطبية العاجلة، خاصة فى ظل تفاقم أزمة المجاعة وسوء التغذية التى يعانى منها الأطفال والنساء والحوامل وكبار السن داخل القطاع.
وأوضح أن مصر لا تكتفى بدورها الدبلوماسى فحسب، بل تتحمل كذلك مسؤولياتها الإنسانية والأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني، من خلال استقبال المصابين والجرحى فى مستشفياتها وتقديم العلاج اللازم لهم، كما فعلت فى أزمات سابقة وتواصل فعله اليوم، ولن تتوقف الجهود المصرية حتى يتحقق الهدف المنشود، وهو إنهاء الحرب العبثية على غزة وإعادة إطلاق مسار سياسى يضمن حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة، مضيفًا: «مصر تمارس دورها التاريخى بشرف وجدية واجتهاد، ولن تتراجع عن التزاماتها إلا بعد أن يتحقق السلام العادل، ويُمنح الشعب الفلسطينى حقه فى تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة».
بدوره، قال اللواء أحمد عيسى، الخبير فى الأمن القومى الفلسطينى والإسرائيلي، إن دور مصر فى الملف الفلسطينى ليس طارئًا أو حديث العهد، بل هو امتداد طبيعى لموقعها الجغرافى ودورها التاريخى فى القضية الفلسطينية، لاسيما فى ما يتعلق بقطاع غزة خلال حرب الإبادة الجارية التى عاشها سكان غزة لنحو عامين، مشددا على أن تصدّر مصر للمشهد الإقليمى فى هذا الملف يرتبط مباشرة بمحددات الأمن القومى المصرى والواقع الجيوسياسى للدولة، فالقاهرة هى المنفذ العربى الوحيد أمام سكان قطاع غزة إلى العالم الخارجي، فضلًا عن عمق العلاقات التاريخية والاستراتيجية التى تربط مصر بالقطاع.
«عيسى» أضاف أنّ مصر وضعت عددًا من الخطوط أمام التغيرات الإقليمية الأخيرة، خاصة أن أى تغيير ميدانى أو سياسى تفرضه إسرائيل داخل قطاع غزة أو يمس حياة الفلسطينيين فيه، يُعد مساسًا مباشرًا بالأمن القومى المصري، وهو ما تعتبره مؤسسات الدولة المصرية «خطًا أحمر» لا يمكن تجاوزه.
وأكد أن مصر، باعتبارها الدولة العربية الأكبر وصاحبة التاريخ الأطول فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لا يمكن أن تكون متفرجة على ما يجرى فى غزة، كما أن الثقافة السياسية والموقع الجغرافى والمسؤولية التاريخية تجعل من مصر طرفًا فاعلًا لا يمكن استبعاده من أى تسوية أو مسار يخص الفلسطينيين، وبالتالى فالقاهرة لا تتحرك من فراغ، بل من ثوابت وطنية واستراتيجية راسخة تجعلها فى قلب كل ما يتعلق بغزة وفلسطين.