من معابد الأقصر إلى قاعات اليونسكو، مصر تواصل بعث رسالتها الحضارية التى تقول إن الثقافة لا تنتمى إلى الماضى وحده، بل هى الطريق نحو مستقبل أكثر إنسانية وتفاهما، وبالفوز العزيز الذى ناله «د. العنانى» أعاد مصر إلى موقعها الطبيعى فى قيادة الوعى الإنسانى، وكشف بصدق أن الثقافة مازالت أقوى أذرع الدبلوماسية، وبهذه الروح يدخل ابن النيل أروقة المنظمة العريقة، حاملا معه إيمانا بأن اليونسكو ليس مجرد مبنى فى باريس، بل حلم مشترك للبشرية كلها وأن فوز مصر فى جوهره انتصار للثقافة على الانقسام، وللأمل على الفوضى، وللإنسان على النسيان.
لم يكن فوز الدكتور خالد العنانى بمنصب المدير العام الثانى عشر لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» حدثا عابرا فى سجل المناصب الدولية، بل كان عودة رمزية لمصر إلى قلب المشهد الثقافى العالمى، «هى دعوة للعمل المشترك بين كافة الثقافات والحضارات ومنارة لصون التراث الإنسانى والحضارى وهو إنجاز وعلامة فارقة فى تاريخ منظمة اليونسكو» تلك بعض من كلمات الدكتور بدر عبدالعاطى، وزير الخارجية الذى تحدث بها خلال جلسة الإعلان عن فوز المرشح المصرى وهو ما بدا جليا عندما وقف د.خالد العنانى داخل القاعة الكبرى بمقر المنظمة فى باريس، محاطا بأعلام الأمم التى تصنع الذاكرة الإنسانية، وكأنه يحمل فى ملامحه امتدادا لرموز الحضارة التى عرفها العالم ذات يوم على ضفاف النيل.
«العالم أصبح فى حاجة إلى اليونسكو» تلك بعض من كلمات «العنانى» الذى ألقاها وسط حضور ممثلى الدول الأعضاء بمنظمة اليونسكو وهى التى آمن بها منذ أن بدأ مسيرته الأكاديمية فى جامعة حلوان أستاذًا لعلم المصريات، كان واضحا أنه لا ينظر إلى التاريخ كأثر ساكن، بل كطاقة حية تبنى المستقبل، وعلى مدار مسيرة حافلة بالعمل وسط آثار مصر قاد مشروعات كبرى غيرت وجه السياحة الثقافية فى مصر، من الإشراف على موكب المومياوات الملكية وافتتاح المتحف القومى للحضارة المصرية، الذى خطف أنظار العالم وجعل من القاهرة مسرحًا للاعتزاز بالهوية والإشراف على افتتاح طريق الكباش وسط احتفالات رسمية غير مسبوقة واستكمال مشروع المتحف المصرى الكبير الذى سيفتح أبوابه للعالم فى الأول من نوفمبر المقبل، ولأن الثقافة لا تكتمل دون رؤية سياسية، فقد أصبح أول وزير يجمع بين حقيبتى السياحة والآثار وأدار منظومة ضخمة تضم أكثر من 35 ألف موظف و 2000 موقع أثرى، واضعا أسس إدارة حديثة للتراث المصرى والسياحة المستدامة معا.
وفى قلب العاصمة الفرنسية التى تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسى، جرت انتخابات اليونسكو وسط أجواء تنافسية قوية بين اثنين من المرشحين ينتميان إلى القارة الإفريقية وإن ظلت فرصة «العنانى» هى الأقوى بسبب رؤيته الواضحة والتى نجح فى طرحها بشكل واضح على مدار رحلة الترشح التى استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، والتى وصفها المراقبون بأنها تميّزت بالصدق والبساطة، حيث انطلقت من خبرة ميدانية تؤمن أن الثقافة والتعليم والعلوم ليست شعارات للنخبة، بل أدوات لحماية الإنسان من الجهل والانقسام وبالتأكيد جاء انسحاب المرشحة المكسيكية جابرييلا راموس لتدعم موقف المرشح المصرى، الذى بدا ممثلا لصوت التوازن بين الجنوب والشمال.
رؤية «د.العنانى» لدور المنظمة الدولية ارتكزت على أربع قضايا رئيسية، السلام من خلال المعرفة والاحترام المتبادل، التعليم من أجل التنمية والتمكين، العلم من أجل الإنسان والطبيعة، الثقافة كجسرٍ بين الشعوب وهى الرؤية التى من شأنها رد الاعتبار للمنظمة كبيت للضمير الإنسانى، وهى التى تضع الإنسان فى مركز القرار، وتربط بين التعليم والتراث والبيئة فى منظومة واحدة هدفها بناء السلام عبر المعرفة.
«اليونسكو من أجل الشعوب» هو عنوان للرؤية المكتوبة فى دراسة مكونة من 15 صفحة، والتى قدمها «د.العنانى» عن الدور المطلوب من المنظمة الدولية من وجهة نظره، حيث بدأها بقوله: «وجب عليها وضع الإنسان فى صميم رسالتها، دون تمييز أو استثناء، بحيث لا يُترك أى فرد خلف الركب» فهو يرى أنها منظمة تعمل بفعالية لتحسين حياة الشعوب أجمع، عابرة للحدود، وتمكّن الدول من الازدهار فى عالم يعمه السلام والكرامة، وتُعزز الأمل الجماعى نحو غد ٍأفضل مؤكدا بكلمات مؤثرة بقوله: «هذه الرؤَيُة ليست رؤَيُتى وحدى، بل هى رُؤَيُتِكُمْ أولا وقبل كل شيء جاءت كثمرة نقاشات ثرية وأكثر من 60 دولة زرتها منذ عام 2023، حيث استمعت وتعلمت من أشخاص من خلفيات وثقافات متنوعة إنها رؤية متجذرة فى قيمى الأساسية، وغنية بخبرتى وفهمى العميق للتحديات الحقيقية التى تواجه التعليم والبحث العلمى والثقافة وإدارة المؤسسات الكبرى، الى جانب اطلاعى على أفضل الممارسات الدولية…» على حد تعبيره الذى جاء فى رؤيته المكتوبة وتحمل عنوان «اليونسكو من أجل الشعوب رؤية مستوحاة من الشعوب».
ربما لا يحمل الرجل عصا سحرية، لكنه يحمل إيمانا عميقا بأن الحضارة فعل مستمر، وأن مسئولية الثقافة لا تنتهى عند حدود المتاحف، بل تبدأ من التعليم والوعى والتفاهم إذا فإن «د. العنانى» وبالرغم من فرحة الفوز، سيدخل مقر المنظمة الدولية فى باريس وسط عالم مأزوم ومحمل بمشكلات جمة بعضها يتعلق بالأزمات الاقتصادية، وتغير المناخ، والصراعات الجيوسياسية كلها تضع على عاتقه مسئولية جسيمة وتتصاعد حدة الصعوبات عندما يواجه مشكلة التمويل والاستقلالية حيث يسعى لإيجاد نموذج تمويل مستدام يحافظ على استقلال المنظمة بعيدا عن الضغوط السياسية، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من المنظمة وتخليها عن دفع نصيبها من ميزانية المنظمة الدولية، الذى يزيد عن 75 مليون دولار أى ما يعادل 8 فى المائة من ميزانيتها السنوية.
كما يواجه «العنانى» مشكلة متصاعدة تخص التراث الإنسانى وسط مناطق النزاع من سوريا إلى أوكرانيا وإفريقيا، حيث تتعرض كثير من مواقع التراث العالمى للخطر، وهنا يأتى خبر تخصصه فى المصريات وإدارته لمشروعات الإنقاذ الأثرى، ليمنحه فهمًا عمليًا لما يعنيه الحفاظ على الذاكرة الإنسانية وهو ما أكده خلال طرح رؤيته وأن خبرته الطويلة فى حماية آثار مصر، ساعدته فى تخطيط وتنفيذ برامج إنقاذ عاجلة للمواقع المهددة حول العالم إلى جانب قضايا تخص التعليم والتكنولوجيا، حيث يولى اهتماما خاصا بتقليص الفجوة الرقمية، وطرح «أخلاقيات الذكاء الاصطناعي» كملف ثقافى عالمي، وإن اهتم بضرورة إعادة الثقة فى المنظمة الدولية ودورها حيث أكد فى كلمته التى ألقاها أمام أعضائها بقوله: «يجب أن تبقى منظمة اليونسكو بيتا للسلام والعلم لا ساحة للصراع السياسي»، خاصة أن المنظمة المعنية بالتراث والثقافة الإنسانية على مدار سنوات طويلة لم تنجح فى حماية تراث العراق وآثارها من النهب ووقفت مكتوفة الأيدى أمام تدمير آثار سوريا، والأخطر أنها لم تحمِ آثار فلسطين من جرائم الاحتلال الإسرائيلى الممنهجة لسرقة تاريخ القدس.
ولا أحد يستطيع أن ينسى تعاون المنظمة الدولية مع الحكومة المصرية كثيرا فى إنجاز بعض مشروعاتها التى تخص الآثار والتراث، مثل إحياء مكتبة الإسكندرية، إقامة المتحف القومى للحضارة المصرية، ومتحف النوبة فى أسوان، ومن قبل حملة إنقاذ آثار النوبة من الغرق ونقلها فى أعقاب بناء السد العالى لكن اليوم الوضع الدولى بات مختلفا ومغايرا ويمثل تحديا كبيرا أمام «د.العنانى» الذى يعتبر أول مصرى وعربى يتولى المنصب الدولى الرفيع.
ومنذ تأسيس منظمة اليونسكو، ومصر تحلم بتولى أحد أبنائها منصب المدير العام للمنظمة وبالتحديد خلال انتخابات عام 2009 عندما نجح فاروق حسنى وزير الثقافة المصرية فى الوصول الى مرحلة التصويت النهائية لكنه خسر بفارق صوت واحد فقط المعركة أمام المرشحة البلغارية بايرينا بوكوفا، نتيجة اعتبارات سياسية، ومن بعده خاضت السفيرة مشيرة خطاب وزيرة الدولة للأسرة والسكان السابقة رحلة الترشح عام 2017 لكنها خسرت أمام المرشح القطرى الذى خاض المرحلة النهائية وخسرها هو أيضا أمام المرشحة الفرنسية أودرى أزولاى، التى استمرت فى منصبها لفترتين متتاليتين على رأس المنظمة التابعة للأمم المتحدة ومقرها باريس.
واليوم، وبعد فوز «د.العنانى» بالضربة القاضية حيث تغلب على منافسه الكونغولى فيرمين إدوار ماتوكو، البالغ من العمر 69 عاما وهو الذى كان يشغل منصب نائب المدير العام المسئول عن أولوية إفريقيا والعلاقات الخارجية حتى مارس الماضى والأهم أنه استطاع أن يفوز بأصوات الكتلة العربية والإفريقية التى لم يتمكن أى مرشح مصرى أو عربى من جمع الثلاثين صوتا المطلوبين لنيل المنصب الدولى من قبل، وظلت انتخابات منظمة اليونسكو تمثل المعركة الخاسرة دوما بالرغم من الإرث الثقافى والتراثى والإنسانى الذى تحتضنه مصر والدول العربية لكن المعروف أن معركة اليونسكو قد تحتاج لمعايير مختلفة للفوز بمنصبها الأقوى، الأمر لا يقتصر على التراث الثقافى والإنسانى فقط لكنه يتطلب حنكة سياسية وبعضا من الدهاء والأهم هو القدرة على التأثير الداخلى والخارجى، حيث خاضت مصر تلك المعركة الشرسة من قبل عندما رشحت فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق وبالرغم من قوته كشخصية ثقافية مؤثرة إلا أن تصريحاته ومواقفه الداخلية أثرت بشكل سلبى على موقفه خلال معركة اليونسكو، لم ينس له المجتمع الدولى تصريحاته أمام مجلس الشعب المصرى، إذا كانت رحلة جمع الأصوات الداعمة تحتاج إلى عقد المواءمات مع الكتل الانتخابية وهو الأمر الذى نجح فيه المرشح المصرى وأعاد تقديم نفسه كشخصية مستقلة ذات فكر ورؤية واضحة، خاصة أن مصر باتت تضع اليونسكو كمنظمة دولية نصب عينها على مدار العشرين عاما الماضية، بل جعلتها هدفا لها فما تتمتع به مصر من تراث إنسانى وما تملكه من حضارة قادت العلم والإبداع والفكر عبر مختلف العصور القديمة، يجعل منها صاحبة حق قديم فى تولى أمانة المنظمة الدولية، خاصة أن مصر من أوائل الدول التى صدقت على تشكيل منظمة اليونسكو كما احتفظت لدورات عديدة بعضويتها داخل المجلس التنفيذى منذ عام 1946، كما شاركت مصر بجهود كبيرة فى إعداد الاتفاقية الدولية لحماية التراث غير المادى على سبيل المثال، واليونسكو كمنظمة دولية تأسست فى أعقاب الحرب العالمية الثانية كى تجسّد ثقافة السلام وتلعب دورا فيما أسماه بيانها التأسيسى: «التضامن الفكرى والمعنوى بين بنى البشر» عن طريق ترميم ودعم والحفاظ على مواقع التراث العالمى إلى جانب التعاون الدولى فى مجال التربية والعلوم والثقافة والمساهمة فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة المحددة فى خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التى اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 2015، ومن أجل القيام بالدور الدولى المطلوب وتحقيق أهداف المنظمة الدولية نجح «د.العنانى» فى خوض الطريق الطويل بحذر شديد وأن يمارس باقتدار لعبة السياسة القديمة المليئة بالمواءمة الدبلوماسية والأهم أنه أعاد تقديم نفسه كشخصية ثقافية علمية ذات رؤية مكتملة العناصر داخل مصر وخارجها بالتوازى.
د.خالد العنانى «54 عاما» تخرج فى كلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان، قسم الإرشاد السياحى باللغة الفرنسية ثم حصل على درجة الدكتوراه فى علم المصريات من جامعة بول فاليرى مونبلييه عام 2001 وتدرج فى العمل الأكاديمى حتى حصل على درجة الأستاذية إلى جانب شغل عدد من المناصب الإدارية منها؛ رئيس قسم الإرشاد السياحى، وكيل الكلية لشئون التعليم والطلاب وفى مجال الآثار تولى منصب المشرف العام على المتحف القومى للحضارة المصرية خلال الفترة ما بين 2014 – 2016، ثم مديرا للمتحف المصرى بالتحرير خلال الفترة ما بين 2015 – 2016 وبعدها تولى مسئولية وزارة الآثار فى عام 2016 وحتى 2019 ثم أصبح وزيرا للسياحة والآثار من 2019 وحتى 2022.
ومؤخراً نال عددا من التقديرات الدولية الرفيعة حيث نال وسام فارس جوقة الشرف من فرنسا 2025، ووسام الشمس المشرقة من اليابان 2021، ووسام الاستحقاق من بولندا 2020، ووسام فارس فى الفنون والآداب من فرنسا 2015 كما حصل على دكتوراه فخرية من جامعة مونبلييه 2024 وتم تعيينه سفيرا للسياحة الثقافية لدى منظمة السياحة العالمية فى 2024، وراعياً لصندوق التراث العالمى الإفريقى فى 2025.
ومعروف أن المرشح لمنصب مدير عام اليونسكو يحتاج الحصول على 30 صوتا كى يفوز بالمنصب الدولى الرفيع ومن أجله يخوض المرشحون جولة الانتخابات، يشارك فى التصويت خلالها أعضاء المجلس التنفيذى للمنظمة المكون من 58 عضوا ينقسمون إلى ست مجموعات إقليمية تمتلك المجموعة الآسيوية 12 صوتا فى حين تملك المجموعة الإفريقية 13 صوتا والمجموعة الأوروبية 12 صوتا ومجموعة أمريكا الشمالية 4 أصوات فقط، ومجموعة أمريكا اللاتينية ولها 10 أصوات أما المجموعة العربية فتملك 7 أصوات.
وكانت الفرنسية أودرى أزولاى قد تولت منصب مدير عام منظمة اليونسكو لفترتين متتاليتين لمدة ثمانى سنوات ونجحت فى تحقيق بعض الإصلاحات داخلها مثل مضاعفة ميزانية اليونسكو من 450 إلى 900 مليون دولار سنويا كما عززت حضورها الدولى عبر عدد من المشروعات مثل إعادة إعمار الموصل فى العراق كما أولت اهتماما خاصا للتراث الإفريقى بإدراج 19موقعا جديدا و37 عنصرا من التراث غير المادى ضمن قوائم المنظمة وإن أكدت أصوات بعض المعارضين أن المنظمة أصبحت رهينة لمصالح الدول الأعضاء، وتحولت إلى جهاز بيروقراطى يتجنب الملفات الصعبة مثل القضية الفلسطينية أو الوضع فى غزة وأن منظمة اليونسكو يجب أن تعود إلى جوهرها، التعليم والثقافة والعلم والسلام وهو الدور المطلوب تحقيقه من قبل مدير عام المنظمة الدولية كى تعود مكانتها كمنارة للفكر والحوار والكرامة الإنسانية.