منذ اللحظة الأولى التى تطأ فيها قدماك مدينة بورسعيد تدرك أن ثمة شيئًا مختلفًا يحدث.. الملصقات تزيّن الشوارع.. صوت البحر يمتزج بموسيقى الأفلام، والمدينة كلها تبدو وكأنها تستعد لاستقبال ضيف كبير، لم يكن هذا مجرد مهرجان سينمائى، بل كان ولادة مشروع ثقافى ضخم يعيد لهذه المدينة موقعها على الخريطة الإبداعية والسينمائية لمصر والعالم هو مهرجان «بورسعيد السينمائى الدولى».
خمسة أيام من العروض السينمائية والفنية، امتلأت فيها قاعات المركز الثقافى ومسرح قصر الثقافة بمدينة بورسعيد، والجمهور لم يكن نخبة محدودة، بل أسر كاملة، طلبة جامعات، أطفال جاءوا ليشاهدوا أول فيلم فى حياتهم داخل قاعات عرض المهرجان.
وقال الناقد السينمائى، رئيس المهرجان أحمد عسر، لجمهور بورسعيد على هامش فعاليات المهرجان: لم نأتِ لنقيم احتفالًا مؤقتًا، بل هذه بداية مشروع طويل المدى، فنحن أجلنا دورة 2024 كى نضمن أن تظهر بورسعيد فى أبهى صورها، وكان الرهان هو أن نكسب ثقة الجمهور من اليوم الأول، وهذا المهرجان خرج إلى النور بعد رحلة طويلة بدأت بفكرة قبل سنوات، ثم تحولت إلى اجتماعات متواصلة، خطط لوجستية مرهقة، وتجهيزات استمرت حتى الفجر فى بعض الليالى.
وأضاف «عسر»: الدورة المقبلة ستشهد إضافة قسم للواقع الافتراضى، وسوق للإنتاج المشترك مع دول المتوسط، ونريد أن تكون بورسعيد مركزًا لإنتاج الأفلام، لا مجرد مكان للعرض.
بدوره، قال المنتج، الرئيس الشرفى للمهرجان، هشام سليمان: بورسعيد ليست مدينة عادية، هى مدينة قصصها جاهزة لتُروى، بل نحتاج إلى تشجيع كتاب السيناريو على تحويل هذه الذاكرة إلى أفلام ومسلسلات، فهذا أفضل ترويج سياحى وثقافى يمكن أن نقدمه، وهذه المدينة كانت دائمًا رمزًا للمقاومة والحياة، لذلك بذلنا جهدا كبيرا لإقامة أول مهرجان سينمائى على هذه الأرض؛ لأن السينما لا يمكن أن تتجاهل هذه الروح، ونحن هنا لنضع بورسعيد على خريطة المهرجانات الكبرى.
«سليمان»، تابع: نريد أن نجعل من المهرجان منصة لإطلاق مواهب جديدة، لا مجرد احتفال بعرض أفلام، بل هدفنا أن تعود كل الورش التى أُقيمت على هامش فعاليات المهرجان كل عام، وأن يتحول بعضها إلى مشاريع إنتاج حقيقية، كما بورسعيد مدينة مليئة بالحكايات الإنسانية، من هنا يمكن أن نكتب عشرات الأفلام عن المقاومة، عن البحر، عن التجارة، عن الناس البسطاء وعن جمال مدينة مصرية بأسلوب أصيل.
من جانبه، قال أحد المكرمين فى الدورة الأولى من مهرجان بورسعيد السينمائى الدولى مدير التصوير أحمد المرسى: التكريم فى الدورة الأولى لمهرجان بورسعيد السينمائى له طابع خاص، والعمل فى مجال التصوير السينمائى يتطلب صبرًا وجهدًا واستعدادًا لمواجهة العديد من التحديات.
وقالت الفنانة درة، وهى أحد المكرمين فى الدورة الأولى، إن «مشاركتى فى هذه الدورة الأولى من مهرجان بورسعيد شرف عظيم، فهذه المدينة ليست مجرد مكان جغرافى، وإنما رمز للنضال والتضحية، وأُهدى هذا التكريم الغالى إلى الشعب الفلسطينى، لا سيما أنى قد حرصت على إهداء جميع الجوائز والتكريمات التى حصلت عليها إلى الشعب الفلسطينى».
وفى أجواء مفعمة بالحب والحنين، وقف السيناريست والكاتب عمرو محمود ياسين أمام جمهور مهرجان بورسعيد السينمائى الدولى فى دورته الأولى، ليحمل درع تكريم والده، الفنان الكبير الراحل محمود ياسين، ويُحوله إلى لحظة إنسانية مؤثرة تمزج بين الاعتزاز والامتنان.
وقال «ياسين» أثناء استلامه تكريم والده الراحل: أشعر بالفخر وأنا أتسلم درع تكريم والدى فى مسقط رأسه بورسعيد، وأن تكون الدورة الأولى لمهرجان سينمائى وُلد ضخما بهذا الشكل باسم دورة الفنان الراحل محمود ياسين، فوالدى نال العديد من التكريمات، لكن أن يأتى هذا التكريم من مدينته، التى وُلد وعاش فيها وأحبها، فهو أمر يلامس القلب ويفوق الوصف.
لم يكتفِ «ياسين» بالتعبير عن سعادته الشخصية، بل حرص على ربط المناسبة بمعنى أوسع، قائلا: سعيد وأشعر بالفخر بتسلم هذا التكريم وأشكر كل القائمين على المهرجان، بورسعيد تستحق هذا الاحتفال لأنها مدينة مناضلة، ووقفت أمام الاستعمار فى عصور سابقة، وهذا يذكّرنا بما يحدث فى غزة، وتحية لهذا الشعب المناضل، تحيا السينما وبورسعيد وغزة، وتحيا مصر.
وأشار إلى رحلة والده الفنية والثقافية، قائلًا: والدى قدّم ما يقرب من عشرة أفلام سنويًا، تاركًا إرثًا فنيًا حقيقيًا، وأتمنى أن يحذو نجوم اليوم حذوه فى الإنتاج الغزير والالتزام بالفن، حيث إنه لم يكن يكتفى بالسينما فقط، بل كان حاضرًا بقوة فى المسرح والتليفزيون، مما جعله نجمًا متكاملًا وواحدًا من أهم أيقونات الفن المصرى والعربى.
فى حين قال المخرج التونسى مختار العجيمي: يكاد المهرجان يحسدنى عليه أهل تونس أكثر من مهرجان كان، وتكريمى فى مهرجان بورسعيد جاء مفاجأة بالنسبة لى، ويمثل تحديًا كبيرًا خاصّة مع كونه فى دورة تأسيسية أولى، وأرى أن مدينة بورسعيد تستحق مهرجانًا سينمائيًا يليق بها.
وقالت إحدى الأمهات وهى تمسك بيد طفلها وتتجول بين قاعات عروض المهرجان: جئت بطفلى الصغير حتى يرى السينما لأول مرة، وبعد مشاهدته للأفلام ظل يسألنى كيف يتم تصوير المشاهد، وأظن أن المهرجان أشعل فيه حلمًا جديدًا.
يشار هنا، إلى أن الدورة الأولى لمهرجان بورسعيد السينمائى الدولى شهدت اهتمامًا استثنائيًا بتأهيل المواهب الشابة، حيث قدم القائمون على المهرجان ورشًا مجانية بالكامل فى التمثيل وكتابة السيناريو والإخراج، فى خطوة وصفها المتخصصون فى المهنة بأنها «ثورة تعليمية مصغرة» لصناعة السينما فى المدينة الباسلة.
وكان من أبرز فعاليات الورش، ورشة التمثيل التى قدّمها المنتج هشام سليمان، الرئيس الشرفى للمهرجان، بمشاركة الفنان الكبير سامح الصريطى، حيث قال هشام سليمان خلال الورشة: أردنا أن تكون الورش فى قلب بورسعيد حتى نصل إلى كل شاب موهوب قد لا تتاح له فرصة المشاركة فى القاهرة.
وأضاف الفنان سامح الصريطى، وهو يخاطب المتدربين، قائلًا: التمثيل ليس مجرد أداء أمام الكاميرا، بل هو مسئولية وفهم عميق للإنسان قبل الشخصية، والورشة حظيت بتفاعل كبير من الحضور الذين شاركوا فى تدريبات عملية ونقاشات مفتوحة حول تحديات مهنة التمثيل، والسيناريو الجيد يبدأ من فهم عميق لرحلة البطل والصراعات التى يمر بها، فالكتابة ليست مجرد حوار، بل بناء عالم كامل للشخصيات والأحداث.
أحد المشاركين فى الورش عبّر عن امتنانه، قائلًا: هذه أول مرة أحضر ورشة بهذا المستوى فى مدينتى، وفّرت علينا السفر إلى القاهرة والمصاريف الباهظة، بينما قال متدرب آخر: الورش جعلتنا نشعر أن بورسعيد جزء من خريطة السينما المصرية، وأن مستقبلنا من الممكن أن يكون هنا.
والطالبة روان محمد، التى شاركت فى الورشة، فقالت: هذه أول مرة أقف أمام منتج بحجم هشام سليمان، ووجدته يشجعنى على أن أكون حقيقية فى أدائى، وليس مجرد مقلّدة.
وعلى هامش فعاليات الدورة الأولى لمهرجان بورسعيد السينمائى الدولى، أُقيم عرض خاص لمسرحية «حواديت» التى خطفت أنظار جمهور المدينة الباسلة، فى خطوة وُصفت بأنها الأولى من نوعها لدمج العروض المسرحية ضمن أجندة مهرجان سينمائى.
والمسرحية، التى قدّمها فريق مركز الإبداع بقيادة المخرج ومكتشف المواهب خالد جلال، جاءت لتعكس قصصًا واقعية من المجتمع المصرى فى إطار إنسانى بسيط يمزج بين الدراما والكوميديا، وهو ما لاقى تفاعلًا كبيرًا من الجمهور الذى امتلأت به قاعة العرض حتى آخر مقعد.
فى تصريحات خاصة عقب عرض مسرحية «حواديت»، قال المنتج هشام سليمان، الرئيس الشرفى للمهرجان: إصرارنا على تقديم عرض مسرحى ضمن فعاليات مهرجان سينمائى رسالة واضحة بأن الفن واحد مهما اختلفت وسائله، وأن المسرح ما زال قادرًا على الوصول إلى الناس وتحريك مشاعرهم.
وأكد المخرج خالد جلال موجهًا حديثه للجمهور: حواديت ليست مجرد نص مسرحى، بل هى حكايات أناس من كل مصر، بل أردنا أن نقدم عرضًا يشعر به الجمهور وكأنه يحكى قصته الشخصية، واختيارنا للمشاركة فى المهرجان كان بهدف إيصال رسالة أن المسرح والسينما شريكان فى صناعة الوعى.
وتفاعل الجمهور بشكل حار مع المشاهد المؤثرة، حيث دوّى التصفيق بعد كل فصل من فصول المسرحية، بينما تأثر كثيرون بمشهد النهاية الذى حمل رسالة أمل وتسامح، وقالت إحدى الحاضرات: أول مرة أحضر عرضا مسرحيا ضمن فعاليات مهرجان سينمائى، بل شعرت بأن بورسعيد عادت لتكون مدينة للفن والإبداع.
وفى ليلة مميزة من ليالى الدورة الأولى لمهرجان بورسعيد السينمائى الدولى، خطف فيلم «ضي» للمخرج كريم الشناوى الأضواء، مقدّمًا عرضًا استثنائيًا ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، حيث امتلأت قاعة العرض بعشاق السينما الذين توافدوا منذ وقت مبكر لمشاهدة الفيلم الذى طال انتظاره، وسط أجواء احتفالية تعكس شغف المدينة الباسلة بالسينما والفنون.
وكان قد تم الإعلان عن فوز النجمة إسلام مبارك بجائزة أفضل ممثلة عن دورها فى الفيلم، لتقول إسلام مبارك فى تصريحات خاصة عقب حصولها على جائزة المهرجان: «ضي» نقطة تحول فى مشوارى الفنى، وسعيدة بأننى ناقشت من خلاله قضية مهمة جدًا مثل أطفال الألبينو، هذا الدور سيبقى محفورًا فى ذاكرتى لأنه منحنى فرصة أن أكون صوتًا لهذه الفئة.
وعبّر عدد من جمهور المهرجان عن سعادتهم بأن تشهد مدينة بورسعيد مثل هذه العروض المجانية لأول مرة، مؤكدين أن الفيلم يستحق كل هذا التكريم الذى ناله.
كذلك، جاءت مفاجآت المهرجان فى توزيع الجوائز فى الختام، عند إعلان الفنار الذهبى لأفضل فيلم روائى طويل، حيث فاز فيلم House – المنزل من أوزبكستان، وهو العمل الذى أبهر لجنة التحكيم بقوته البصرية ورسائله الإنسانية العميقة، حيث قال رئيس لجنة التحكيم عند إعلانه الجائزة: «المنزل فيلم يثبت أن السينما لغة عالمية، وأن قصص البشر متشابهة مهما اختلفت لغاتهم وثقافاتهم».
بينما فاز فيلم Life of Luosang – حياة لو سانج من الصين بجائزة الفنار الفضى بعد منافسة قوية، بينما حصل فيلم Where There is Love, There is No Darkness الفرنسى على تنويه خاص لتميزه فى المعالجة البصرية والدرامية.