رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

من أسواق «إسنا» إلى «تمارا هاوس» ومبانى الخديوية .. إحياء تراث مصر المعمارى


6-10-2025 | 15:14

.

طباعة
تقرير: أمانى عبد الحميد

من أسواق إسنا العتيقة إلى مبانى القاهرة الخديوية، ومن قاعات الأوبرا إلى شوارع السيدة زينب، تتشكل ملامح نهضة جديدة، لم تعد فيها العمارة التراثية مجرد أطلال مهددة، بل أفق مفتوح يجمع بين التاريخ والحاضر والمستقبل. وبفضل تضافر جهود مؤسسات الدولة، من القطاع الخاص، والأكاديميين، والمجتمع المحلى، وحتى الجوائز الدولية والمحلية، تبدأ حكاية عودة الروح إلى عمارة التراث المصرى، تلك الروح المغايرة التى باتت تتلبس عددا من المبانى والبيوت القديمة، تحملها واجهاتها وشبابيكها، إنها ليست مجرد عودة الروح، بل بداية عصر جديد، حيث يصبح التراث رصيدًا للتنمية، وتبنى مصر مستقبلها من حجارة ذاكرتها، كأن التراث ليس ماضيا علينا نسيانه، بل مستقبل وجب علينا بناؤه.

 

 

ما بين دروب «إسنا» المنسية الملتفة حول معبد الإله «خنوم» والمبنى ذى اللون القرمزى «تمارا هاوس»، المطلّ على أحد شوارع القاهرة الخديوية، تسكن روح جديدة عددًا من مبانى مصر التى نجت من سنوات الهدم والتشويه أو الإهمال والنسيان، واليوم حين تسير وسط سوق القيسارية بمدينة إسنا أو تعبر شارع عماد الدين بوسط القاهرة، تشعر بأن الجدران القديمة صارت أكثر حياة من ذى قبل، لم تعد البيوت العتيقة مجرد أطلال، ولا الممرات المسقوفة ببقايا زمن ولّى، بل عادت لتكون فضاءات نابضة بالحياة.

هذا التحول لم يأتِ مصادفة، بل جاء بعدما أصبحت العمارة المصرية تمثل فى السنوات الأخيرة قضية معاصرة، تتعلق بالهوية والانتماء والاقتصاد والثقافة، ما كان يُنظر إليه فى السابق كـ «مبانٍ قديمة» يُهددها الانهيار أو الهدم لصالح أبراج أسمنتية بلا روح، صار اليوم رصيدًا استثماريًا ورأسمالًا رمزيًا يلفت أنظار العالم.

الروح عادت بالفعل، وهذه المرة ليس إلى أحد معابد المصرية القديمة وحدها، بل بتنا نراها وسط أسواق الصعيد وأزقة القاهرة الخديوية، وذلك بعدما ظهرت فى مصر مبادرات ومحاولات عديدة تؤمن بأن الحفاظ على التراث لم يعد ترفًا، بل أصبح طريقًا للمستقبل.

وحين نتذكر مدينة «إسنا»، يتبادر إلى الذهن تلك المدينة القديمة الراكنة على الضفة الغربية من نهر النيل بصعيد مصر، جنوب الأقصر، حيث يتجاور التاريخ العميق مع الحياة اليومية البسيطة، حيث كان الإله «خنوم» يظهر هناك جالسًا على عجلة الخلق، ومن حوله تتجسد العمارة المصرية القديمة فى أعمق صورها، تتوارثها العصور حتى تصل إلينا وقد امتلأت بالتجاعيد والندوب، وعلى الرغم من مرور الزمن على وجهها، فإنها باتت كتابا معماريا مفتوحا، تتراكم صفحاته منذ العصور المصرية القديمة، مرورًا بالعصرين اليونانى والرومانى، وصولًا إلى الحقبة الإسلامية والعثمانية والحديثة.

وفى قلب هذا التراكم، ظهر مشروع معمارى اجتماعى رائد، يحمل اسم «إحياء إسنا التاريخية»، «زوروا-إسنا»، أحيا المدينة وأنار فيها الأسواق والأزقة، كما أعاد الروح لعمارتها التاريخية، فحوّلها إلى أيقونة معاصرة نالت بسببها جائزة الأغاخان للعمارة لعام 2025، أرفع الجوائز العالمية التى تحتفى بالمشاريع المعمارية ذات البعد الإنسانى والاجتماعي، وهى الجائزة التى أعادت تلك المدينة التى كانت منذ عقود قليلة توصف «المنسية»، إلى دائرة الضوء.

تلك بعض من تفاصيل المشروع الذى نحلم بتطبيقه فى كل مدن مصر القديمة والذى نجح فى مواجهة التحديات التى عانت منها مدينة «إسنا» والتى ارتبطت بشكل وثيق بالسياحة الثقافية فى صعيد مصر، فالمدينة تقع جنوب الأقصر وتحتضن آثار مصر القديمة، وتعتبر من أهم المزارات السياحية ضمن مسارات المراكب الفندقية والسياحية التى تعبرها فى طريقها إلى مدينة «أسوان»، لذا كان لا بد من التركيز على تاريخ المدينة وملامحها والحفاظ على تراثها المعمارى والإنسانى مع الاهتمام بمسألة التنمية الشاملة، هنا جاء دور مجموعة «تكوين» التى قامت بوضع مشروع ذى فكر تداخلى اعتمد على مبادرات مادية وأخرى اجتماعية واقتصادية، علاوة على وضع استراتيجيات حضرية مبتكرة، نجحت فى تحويل المدينة من موقع مهمل يتمحور حول معبد الإله «خنوم» إلى مركز تاريخى نابض بالحياة.

المشروع الرائد شمل سلسلة من أعمال الترميم والتنمية المستدامة داخل عدد من المبانى التاريخية التراثية، على سبيل المثال تضمن مشروعا لترميم وكالة «الجداوي» التى يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وأعاد استخدامها بشكل تكيفى كمركز للحرف اليدوية والثقافة، مع الحفاظ على طابع المعمارى المملوكى المميز، كذلك تطوير منطقة سوق «القيساري» وشارع البازار، حيث تم ترميم سقف السوق بالكامل وتظليله بهدف إعادته كى يكون موطنا للحرفيين مرة أخرى، وقد امتد النشاط التجارى من المحال فى الطابق الأرضى إلى الطوابق العليا فى المبانى التاريخية التجارية، كما كانت عليه فى الأصل.

وتضمن المشروع ترميم بيت الضيافة الملكى الذى يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى إعادة تأهيل 15 موقعًا ذا أهمية معمارية باستخدام مواد محلية مستدامة مثل الطوب اللبنى والخشب، مع اعتماد واسع على إعادة التدوير وإحياء التقنيات التقليدية.

وعلى الصعيدين الاجتماعى والاقتصادى، نجح المشروع فى بناء قدرات أكثر من 430 من أهالى «إسنا» على عدد من الحرف اليدوية التراثية والتى تحقق لهم دخلا ماديا وفرص عمل ارتبط أغلبها بحركة السياحة والتنمية فى مدينتهم، إلى جانب دعم 18 شركة صغيرة ومتوسطة فى مجالات إدارة الأعمال وتوثيق التراث الثقافى والمعمارى.

ومن أجمل المساهمات تلك التى مكنت عددا من نساء «إسنا» فى إطلاق مشاريع الناجحة تقوم بإدارتها النساء فقط، مثل «مطبخ النساء» وورشة نجارة نسائية كنوع من أنواع تعزيز إدماج النوع الاجتماعي، حيث إن «مطبخ أوكرا» يعتبر تجربة فريدة من نوعها، يسمح للزائر بالاستمتاع بتناول وجبات طعام كما صنعتها الأمهات والجدات الأوائل، من طواجن البامية واللحم، الملوخية والدجاج، وغيرها من الوصفات الشهية التى اعتاد أهل البلد أكلها عبر مختلف الأجيال.

وبذلك يكون مشروع إحياء مدينة إسنا قد نجح فى تحقيق مفاهيم الاستمرارية الثقافية، ولبى احتياجات وتطلعات المجتمع المحلى فى ظل التغيرات السريعة التى يتعرض لها، ونجح فى تحقيق المعادلة الصعبة، وهى احترام التقاليد الموروثة مع معالجة التعقيدات المجتمعية واستيعاب الإمكانات التكنولوجية الحديثة، حيث أشادت لجنة التحكيم العليا للجائزة الدولية بالمشروع واعتبرته نموذجا متفردا يتجاوز حدود مشروعات الحفاظ العمرانى التقليدية، إذ جمع بين صون التراث وتعزيز الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع مشاركة فاعلة من المجتمع المحلى.

وجاء فى تقرير لجنة تحكيم جائزة «الأغاخان»: «إن ما تحقق فى مدينة إسنا يبرز دور التراث غير المادى مثل الحرف اليدوية والممارسات الثقافية والمطبخ التقليدى، باعتبارها عناصر جوهرية فى عملية الإحياء العمرانى والثقافي، وقد تم توثيق أكثر من 20 مبنى تراثيًا، و25 وصفة طعام محلية، وإطلاق مبادرات اقتصادية صغيرة تقودها سيدات إسنا مثل إقامة «ورشة الأعمال الخشبية”.

وهو الأمر الذى مكن مبادرة «إحياء مدينة إسنا التاريخية» من الفوز بجائزة الأغا خان للعمارة فى الدورة السادسة عشرة، والتى تعتبر واحدة من أرفع الجوائز الدولية فى مجال العمارة، حيث تم إطلاقها فى عام 1977 بمبادرة من الأمير كريم أغا خان، لتكريم المشاريع التى تحقق التوازن بين الجمال المعمارى والاحتياجات الاجتماعية والثقافية والبيئية فى المجتمعات الإسلامية، ويتم منح الجائزة كل ثلاث سنوات للمشروعات التى تسهم فى تحسين نوعية الحياة، والحفاظ على الهوية المحلية، وتعزيز الاستدامة، وكانت مصر قد حصلت عليها من قبل فى سبع مناسبات سابقة، من أبرزها عن متحف النوبة بأسوان عام 2001، ومكتبة الإسكندرية عام 2004، ثم وقع الاختيار بعد عشرين عاما على مشروع «إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية» ليصبح محطة بارزة فى عودة العمارة المصرية إلى الساحة الدولية.

وداخل القاهرة هناك نهضة معمارية أخرى تسعى إلى إعادة الوجه الملكى لوسط المدينة، تطل عدد من المبانى التى تم تسجيلها كتراث معمارى وجب الحفاظ عليه، خضع عدد منها لمشروعات ترميم شاملة كى يعود لها وجهها الذى كانت عليه قبل سنوات النسيان والإهمال والتعديات، وفى مقدمتها المبنى ذو اللون الأحمر القرمزى القانى الذى يحمل اسم «تمارا هاوس» ويطل على شارع جواد حسنى بوسط المدينة، تتجسد داخله أفضل طريقة يمكن اتباعها لإعادة استخدام مبنى تراثى قديم، فالمبنى المكون من ثلاثة طوابق يمكن تحويله إلى فندق صغير يحمل تاريخ العاصمة الخديوية بما تحمله معها من فخامة ملكية لم تتكرر، وهو يحتضن عددا من المكاتب علاوة على 13 من المحال التجارية يمكن الوصول منها مباشرة إلى الشارع الرئيسي، بالإضافة إلى سطح بانورامى يطل على بقايا مبانى العصر الذهبى فى وسط البلد والتى ستكون مكانًا ترفيهيًا وحيويًا.

«تمارا هاوس» الذى تملكه شركة الإسماعيلية للتنمية العقارية فاز فى مسابقة أفضل ممارسات الحفاظ على التراث العمرانى والمعمارى لعام 2025، التى أطلقها جهاز التنسيق الحضارى برئاسة المهندس محمد أبو سعدة، حكايته تعود لعام بنائه فى 1910 حيث تم تشييده على طراز عصر النهضة «نيورنيساس»، تعرض على مدار سنوات عمره التى تزيد على 115 عاما لكل أنواع التعديات والتشويهات. ونظرا لتصميمه المعمارى المميز كان لا بد من إعادة الروح للمبنى وإعادة استخدامه بطريقة مبتكرة ونابضة بالحياة، حيث تم شراء المبنى فى عام 2009، لتبدأ مراحل المشروع وعودة الحياة للمكان ككل، بداية من إخلاء المبنى وخضوعه لعمليات ترميم كى يعود إلى أصله، وبعد سنوات من العمل المضنى أصبح المبنى كما كان، عاد كفندق ملكى يفيض بالإبداع وبيت للمصممين والفنانين، اليوم، المبنى يحتضن بين جنباته استوديوهات للتصميم ومساحات مخصصة للفعاليات الثقافية والفنية، حيث استضاف على مدار السنوات الماضية فعاليات بارزة، ليصبح أحد النماذج المتميزة فى إعادة إحياء المبانى التراثية ودمجها فى المشهد الثقافى المعاصر.

وهو جزء من مشروع أكبر وأوسع تتبناه الدولة المصرية بدعم من القطاع الخاص، يقضى بتحويل منطقة وسط البلد إلى متحف مفتوح يروى تاريخ العمارة والفن، تشمل الخطة ترميم أكثر من 500 مبنى بالكامل، وبالفعل تم الانتهاء من 200 مبنى منها بتكلفة تجاوزت 120 مليون جنيه حتى اليوم.

وطبقا للاشتراطات التى وضعها جهاز التنسيق الحضارى التابع لوزارة الثقافة، تتضمن مشروعات الترميم والتطوير تجميل الواجهات، وإزالة التعديات البصرية، وتوحيد ألوان الطلاء، وتنظيم الإضاءة الليلية، كلها إجراءات تضع الزائر فى مواجهة مباشرة مع جماليات العمارة التى طواها النسيان، إلى جانب تطوير الأرصفة، وإعادة تنظيم المرور، وإتاحة شوارع كاملة للمشاة مثل شارع الألفى، ليصبح مكانًا جاذبًا للمصريين والسائحين على حد سواء.

ورغم ذلك، فالقاهرة الخديوية قادرة على أن تكون محورًا للسياحة الثقافية، من خلال تحويل مبانيها إلى فنادق بوتيك، ومعارض، ومقاهٍ ثقافية، ومساحات إبداعية، كما أن إشراك المجتمع المحلى والمستثمرين فى عمليات التطوير يضمن استدامة الجهود، ويحول التراث من عبء إلى مورد اقتصادى حي.

وبالنظر إلى تجربة «تمارا هاوس» وما يجرى من ترميم لواجهات المبانى فى شوارع وسط البلد، فمن المؤكد أن التراث ليس مجرد ذكرى، بل هو رصيد حى يمكن استثماره، وإحياء القاهرة الخديوية يعنى استعادة جزء من هوية العاصمة، وإعادة الثقة لسكانها وزائريها على السواء، وبالتالى إعادة كتابة قصة مدينة القاهرة القادرة على النهوض، ومهما أصابها من تراجع، فإنها تعود بروحها، لتستقبل العالم من جديد فى ثوب يليق بتاريخها العريق.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة