رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

عائشات مصر.. عيش وعيشة شكلت خريطة الهوية المصرية


6-9-2025 | 13:49

.

طباعة
بقلـم: د. جيهان زكى

«وراء كل اسم، امرأة صنعت زمنها على طريقتها، جمعت بين الشجاعة والطموح، وواجهت تحديات لم تكن سهلة،

لتترك أثرًا خالدًا فى الذاكرة المصرية»

فرغم بساطة الاسم وانتشاره فى كل ربوع الوطن، يبقى «عائشة» اسمًا محمّلًا بدلالات تاريخية، وهوية ثقافية، وروحانية عميقة، فهو ليس مجرد اسم يُتداول فى البيوت والأزقة، بل رمزٌ نسائى ارتبط بقوة الحضور والتأثير، بشخصيات شكّلن الوعي، وتركْن بصمات فى مشهد متنوع من السياسة والفكر والفن والمجتمع.

 

تاريخ مصر، كما يروى عادة، كان فى غالبيته حكرًا على الرجال من الساسة ومفكرين أو متخصصين فى الشؤون النظرية والعلمية، بينما إذا أعدنا النظر من زاوية نساء مصر عبر التاريخ واستمعنا إلى عيشتهم وحواديتهم، لاكتشفنا عالمًا آخر! عالمًا موازيًا مليئًا بالثنايا والمنحنيات روافده تتشعب فى تفاصيل يومياتنا، فهى أكثر دفئًا وأقرب إلى روح الإنسان المصرى الذى يجد نفسه فى مرآة هذا التاريخ.

ففى زمن تتسارع فيه الأحداث، تبقى حواديت النساء مصدر إلهام ودعوة لفهم أعمق للتاريخ، لا من منظور القوة فقط، بل من منظور الحياة بكل تجلياتها.. «عائشات مصر» ليس مجرد عنوان، بل مرآة لحياة آلاف النساء، المعروفات وغير المعروفات، اللواتى صنعن التاريخ فى الصمت والعلن: المعلمات، الفلاحات، الكاتبات، الأمهات، الثائرات، كلٌّ منهن أضافت حجرًا فى صرح هذا الوطن.

 هنّ اللواتى قدن التغيير، وحافظن على التراث وتمسكن بالأمل، لذا فإن سردياتهن ليست فقط جديرة بالاحتفاء، بل قبل ذلك بالبحث والتوثيق والإحياء كى لا تقع فريسة للنسيان.

فى تاريخ مصر، يتكرر اسم «عائشة» كما تتكرر الأمواج على شاطئ النيل، لكنه لا يأتى أبدًا بنفس الشكل.

وكانت البداية مع الهانم شكلاً وموضوعًا.. عائشة فهمى، الطفلة المدللة التى ولدت وفى فمها ملعقة من ذهب.. كبرت وترعرعت على مجالس الباشوات، حيث تُسكب القهوة فى فناجين من الكريستال وتُدار أحاديث السياسة والقصص الأوروبية بين أروقة بيت فخم يمتلكه والدها على باشا فهمي، كبير ياوران الملك فؤاد. كان هذا القصر - الذى يطل على النيل من قلب الزمالك - أحد العلامات المعمارية لقاهرة العشرينيات، حيث بناه والدها على الطراز الإيطالى الكلاسيكى وزين جدرانه بلوحات فنية أصلية وأضاء فضاءه بثريات بلجيكية.

كبرت وهى تسمع عن باريس وروما كما يسمع الأطفال حكاوى الأبلة فى المدرسة أو حواديت ماما فى البيت، تماما مثل تلك المشاهد الرائعة لبنت الباشا التى تتكلم لغة بونجور وبونسوار وأنشانتيه والتى أبدعت أفلام الزمن الجميل فى ترجمتها للجمهور، ولعل بنت الباشا فى فيلم غزل البنات لأنطق هذه الأمثلة التى تظل تحمل إرثًا مصريًا من نوع خاص.

ولكن دوام الحال من المحال رحل على باشا فهمي، ووجدت عائشة نفسها فى مواجهة إرث ثقيل، فاضطرت لإخراج دفتر الشيكات من خزانتها لشراء حصص إخوتها باثنين وسبعين ألف جنيه مما كان مبلغًا يكفى آنذاك لشراء نصف شارع من شوارع القاهرة.

مرت الأيام صار القصر بيتها، وعاشت فيه مع أسرتها حتى طلاقها اقترنت صورة هذا القصر المطل على النيل بالحفلات واللقاءات الفنية والسياسية وفى إحدى حفلات الاستقبال، دخل حياتها رجل المسرح الكبير يوسف وهبي، بعينيه الحادتين وصوته المجلجل وكان ذلك بداية للفصل الدرامى الأشهر فى حياتها حتى يومنا هذا.

جمعهما الحب ولكنه لم يكن هادئًا وجدت فيه شيئًا يوقظ قلبها، ووجد هو فى ثرائها وسلطتها سندًا وطموحًا كانت غيورة بما أنها كانت تكبره بستة عشر عامًا، وهو كان عاشقًا للحرية والأضواء صارت بينهما معارك صامتة وأخرى صاخبة، وأحاديث ليلية على شرفة القصر، تتأرجح بين العتاب والغزل.

مع مرور الأعوام، بدأ البريق يخفت فقد غيّرت الثورة وجه مصر، والباشوات غادروا مسرح التاريخ واحدًا تلو الآخر.

انسحبت عائشة من المجتمع شيئًا فشيئًا، تحتفظ بذكرياتها مثل جواهر قديمة فى صندوق مغلق وفى عام 1962، رحلت الأميرة الأرستقراطية، وتركَت وراءها قصرًا لا يزال واقفًا على النيل، يلمع عند الغروب وكأنه يحتفظ بظلها وهى تعبر الممرات.

ومن أروقة القصور إلى قاعات المحاكم، كانت العظيمة عائشة راتب تكتب فصلًا مختلفا من الحكايات التى شكلت خريطة مصر المجتمعية من قلب ميدان معارك شرس لتمكين المرأة من الوظائف العامة لاسيما منصة القضاء.

ونذكر هنا أنها حين تقدمت للعمل قاضية فى مجلس الدولة، اصطدمت برفض صريح: «التقاليد لا تسمح» فاذا بها تقاوم وترفع أول دعوى فى تاريخ مصر تطالب بحق المرأة فى اعتلاء منصة القضاء، لتصبح رمزًا مبكرًا للمواجهة القانونية مع التمييز.

تبرز سيرتها فى الدفاع عن المرأة بشكل عام وفى فتح دروب مهنية جديدة، فكانت أول معيدة بكلية الحقوق، وأول أستاذة للقانون الدولى، وأول سفيرة لمصر فى الخارج، وأول امرأة تتولى وزارتين مختلفتين متعاقبتين، وكانت صاحبة أول حكم قضائى برفض تعيينها فى القضاء فى حكم صدر عام 1952.

شخصية عنيدة وشجاعة ومعتنقة لعقيدة النجاح.. فمن قلب القاهرة القديمة وبالتحديد أزقة الدرب الأحمر العريقة استطاعت ان تكسر لاحقًا سقفًا زجاجيًا لم تجرؤ كثيرات من بنات جيلها على الاقتراب منه. ابنة أسرة متوسطة الثقافة، لكن طموحها كان بحجم وطن كامل، ولعل ما أحرص بمشاركتك له عزيزى القارئ من واقع الفصول المتعاقبة لإحدى أبرز عائشات مصر هو إدراك حجم العناء البدنى والمعنوى للمرأة التى تريد الاختلاف والتميز.. وأنه وراء كل امرأة عظيمة قصة كفاح عظيمة وألمًا عظيمًا!.

وبالفعل فقد شهدت حياة عائشة فصولا متعاقبة فى القانون والحركة النسائية فى العالم العربي، حيث جاهدت من أجل تغيير قانون الأحوال الشخصية، كما أرست قواعد تشريعية لوزارة الشؤون الاجتماعية، وكانت عضوة فى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى عام 1971 حيث شاركت فى صياغة الدستور الجديد لمصر آنذاك، وكانت الوحيدة التى اعترضت على السلطات الاستثنائية التى منحها الدستور للرئيس السادات فى ذلك الوقت.

بعد ثلاث سنوات، تولت عائشة راتب وزارة التأمينات والشؤون الاجتماعية، حيث شرعت فى إصلاحات جريئة: تضييق باب تعدد الزوجات، إلزام توثيق الطلاق بحضور قاضٍ، وتوسيع فرص العمل لذوى الاحتياجات الخاصة.

ولم يمض وقت طويل حتى كتبت اسمها فى التاريخ مجددًا، كأول سفيرة مصرية، ممثلة لبلادها فى الدنمارك ثم ألمانيا الغربية، حيث كانت الدبلوماسية بالنسبة لها امتدادًا لمعركة الكرامة والعدل.

فى فبراير 2013، رحلت عائشة راتب بهدوء، تاركة خلفها إرثًا من المواقف والشجاعة، وإيمانًا بأن المرأة تستطيع أن تكون فى صدارة الصفوف، مهما كانت جدران العرف والتقاليد عالية.

وفى ركن آخر من الحكاية، على شاطئ دمياط، وُلدت عائشة محمد على عبدالرحمن عام 1913، والتى عرفها القراء لاحقًا باسم «بنت الشاطئ»، فمنذ طفولتها، كان البحر صديقها، وحكاياته وقود خيالها..

بدأت الكتابة وهى شابة، لكنها خشيت اعتراض والدها، فاختارت اسمًا مستعارًا يربطها بجذورها. مقالاتها فى جريدة الأهرام جعلت منها صوتًا نسائيًا جريئًا فى زمن محافظ.

لم يكن قلمها وحده ميدانها، فقد وقفت على منابر العلم، لتكون أول امرأة تحاضر فى الأزهر الشريف، وتتنقل بين الجامعات من القاهرة إلى المغرب والسودان، حاملة كتبها وأفكارها، تغوص فى أعماق النصوص القرآنية والسيرة النبوية، وتكتب عن النساء والصحابة والنقد الأدبى بعمق وفصاحة. وفى عام 1994، ارتفع اسمها عاليًا حين حصدت جائزة الملك فيصل العالمية فى اللغة العربية والأدب، كأول امرأة عربية تفوز بهذا الشرف. رحلت عام 1998، لكن البحر الذى أحبته صغيرًة ما زال يروى للجيل الجديد حكاية بنت حملت عبق الأمواج فى قلمها، وتركت أثرًا لن تمحوه الأيام.

أما عائشة عبدالهادى، فقد جاءت قصتها من قلب الطبقة العاملة. بدأت حياتها عاملة فى شركة أدوية حكومية عام 1959، لكن نشاطها النقابى وصوتها القوى دفعاها إلى الصفوف الأولى فى الدفاع عن حقوق العمال. صعدت السلم النقابى حتى أصبحت نائبة لرئيس اتحاد نقابات عمال مصر، ثم رئيسة لجنة المرأة العاملة العربية، قبل أن تتولى وزارة القوى العاملة عام 2006، لتصبح أول امرأة تشغل هذا المنصب، وتقود مفاوضات عمالية كبرى وتدافع عن قضايا المرأة العاملة فى مصر والعالم العربي.

وفى الجانب الأكثر بهجة من المشهد، كانت عائشة الكيلانى تزرع الضحك فى القلوب. ولدت فى القاهرة، ودرست الخدمة الاجتماعية قبل أن تلتحق بالمعهد العالى للفنون المسرحية. فى الثمانينيات، صنعت لنفسها مكانة خاصة فى الكوميديا، مقدمة أدوار المرأة «محدودة الجمال» واسعة القلب، التى تواجه الحياة بخفة ظل وسخرية محببة. من مسرحيات «البرنسيسة» إلى مسلسلات مثل «عصفور النار» و«البحث عن عروسة»، رسمت الابتسامة على وجوه جمهورها، لتبقى واحدة من أبرز أيقونات الكوميديا المصرية.

هكذا، من قصور النيل المهيبة إلى قاعات المحاكم الصارمة، ومن أعمدة الصحافة إلى خشبات المسرح، ومن ساحات التفاوض العمالية إلى مجالس الوزراء، أثبتت كل «عائشة» أن الاسم قد يتكرر، لكن الحكاية دائمًا فريدة، والبطولة دائمًا لها وجه إنسانى لا يُنسى.

الاكثر قراءة