في تحول لافت على صعيد المواقف الأوروبية من الاتفاق النووي الإيراني، فعلت «الترويكا الأوروبية» (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) «آلية سناب باك» Snapback للعقوبات الأممية بشكل تلقائي بعد اتهامها إيران بانتهاك التزاماتها النووية التي تم تعليقها بعد التوقيع على الاتفاق النووي في عام 2015. وحذرت طهران من عواقب محتملة لهذه الخطوة ولوحت بإمكانية الانسحاب من معاهدة حظر انتشار السلاح النووي.
يأتى تفعيل آلية «سناب باك» أو ما يُعرف بآلية «الضغط على الزناد» فى ظل تعثر الجهود الدبلوماسية فى سويسرا بين ممثلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا - المعروفة باسم مجموعة الدول الأوروبية الثلاث (E3) - وإيران لكبح البرنامج النووى الإيرانى المتنامي، وتصاعد التوترات الإقليمية والدولية المرتبطة بالملف الإيراني، خاصة فى ظل التقدم المستمر فى البرنامج النووى الإيرانى وتراجع مستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ورحب وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو بقرار مجموعة الترويكا الأوروبية، مضيفًا أن الدول الثلاث قدمت دليلاً واضحًا على «عدم وفاء» طهران بالتزاماتها النووية. وأكد روبيو فى بيانه أن الولايات المتحدة لا تزال مستعدة للتفاعل المباشر مع إيران “للتوصل إلى حل سلمى ودائم للقضية النووية الإيرانية”.
تمثل هذه الخطوة الأوروبية نقلة نوعية فى التعامل مع طهران، بعدما ظلت الدول الأوروبية تحاول طوال سنوات حفظ الاتفاق النووى وتجنب المواجهة مع إيران، حتى فى أحلك مراحل التصعيد بينها وبين الولايات المتحدة بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق عام 2018. لكن يبدو أن نفاد الصبر الأوروبي، وتراجع الأمل فى إمكانية التوصل إلى تسوية شاملة، قد دفع بالترويكا إلى تفعيل هذه الآلية المثيرة للجدل، والتى قد تحمل تداعيات كبيرة ليس فقط على إيران، بل أيضًا على مستقبل النظام الدولى للعقوبات والاتفاقيات متعددة الأطراف. وأعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائى أن الدول الأوروبية الثلاث ستتحمل وحدها تبعات أى خطوة من هذا النوع.
وتُعيد آلية «سناب باك» تلقائيًا فرض جميع عقوبات مجلس الأمن الدولى التى رُفعت بموجب الاتفاق النووى الإيرانى لعام 2015، بما فى ذلك حظر الأسلحة التقليدية، والقيود على تطوير الصواريخ الباليستية، وتجميد الأصول، وحظر السفر، وحظر إنتاج التكنولوجيا المتعلقة بالأسلحة النووية. فيما اشترطت الترويكا، من أجل الامتناع عن إعادة فرض تلك العقوبات على إيران، استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي. كما طالبت بالسماح لمفتشى الوكالة الذرية بالوصول الكامل إلى المنشآت النووية الإيرانية، وكذلك السماح بالوصول إلى مخزونها من اليورانيوم عالى التخصيب بنسبة 60 فى المائة.
من المتوقع أن تزيد هذه الخطوة الضغط الاقتصادى على طهران، خاصة أنها ستضعها فى حالة من العزلة وستمنعها من تسويق نفطها رسميًا، وهو المصدر الأول لعائداتها المالية. وتشترى الصين وحدها من إيران نحو 1.5 مليون برميل يوميًا. وهذا هو مصدر القلق الإيرانى الأساسى من هذه الآلية التى تعيدها عشر سنوات إلى الوراء. وبدأت أول المؤشرات مع انخفاض قيمة الريال الإيرانى إزاء العملات الأجنبية، حيث بلغت قيمة الدولار الأمريكى الواحد ما يزيد على مليون ريال إيراني. ويُذكر أنه أثناء التوصل لاتفاق 2015 النووى بلغت قيمة الريال 32 ألفًا أمام الدولار، مما يُظهر الانهيار الحاد للعملة منذ ذلك الحين.
يرى الدكتور هانى سليمان، مدير المركز العربى للبحوث والدراسات والباحث فى الشأن الإيراني، فى حديثه لـ«المصور»، أن قرار الترويكا الأوروبية تفعيل آلية فرض العقوبات الأممية على إيران من شأنه أن يعقد الموقف بشكل كبير وغير مسبوق، خاصة فى ظل التهديدات الإيرانية خلال الفترة الأخيرة، بتهديد الجانب الأوروبى بإعلان وزير الدفاع الإيرانى عزيز نصير زادة إنشاء مصانع للبنى التحتية والصواريخ خارج إيران، علاوة على التهديد القادم من المسؤولين، وأيضًا القرار الخاص ببعض النواب فى البرلمان بالتهديد بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار السلاح النووى وغيرها من الآليات المختلفة. ولكن تفعيل الترويكا الأوروبية للعقوبات لا يعنى أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة؛ فما زال هناك مساحة للدبلوماسية والسياسة وفقًا لعدة أطر.
أولًا: لأن فرض الترويكا للعقوبات لن يكون بشكل فوري، ربما يكون هناك مساحة من الزمن قبل هذا التفعيل، خاصة أن هذه العقوبات ستُفعل بشكل رسمى فى 18 أكتوبر القادم، وبالتالى أمام إيران مساحة من الوقت فى هذه الفترة للوصول إلى اتفاق. وبالتالى لا يعدو إعادة فرض العقوبات أن يكون محاولة ضغط شديد على إيران للعدول عن موقفها.
ثانيًا: فى هذه الفترة من الممكن أن يكون هناك وصول إلى اتفاق بما يخول للدول الأوروبية تأجيل فرض العقوبات وتمديد الاتفاق مع إيران لستة أشهر إضافية وفقًا لبنود النصوص الخاصة بالاتفاق، وبالتالى ما زال هناك متنفس ومساحة لهذا الطرح.
النقطة الثالثة والمهمة هى أنه بالتوازى هناك مقترح روسي - صينى بتمديد الاتفاق مع إيران لمدة ستة أشهر بما يعطى مساحة لتذليل العقبات وإزاحة الفجوة والجمود بين الطرفين، لإمكانية التوصل إلى حد أدنى من التوافق حول البنود الخلافية. وأشار الدكتور سليمان إلى أن هذا دور مهم، خاصة فى ظل لقاء الرئيس فلاديمير بوتين بنظيره مسعود بزيشكيان، والذى أكد على حق إيران فى مسألة تخصيب اليورانيوم.
ويرى الدكتور سليمان أن خطوة فرض العقوبات خطوة صعبة وبالتأكيد ستقابل برد فعل إيرانى ومزيد من التصعيد والتصريحات التى تتحدى الجانب الأوروبي، ومزيد من التوجه نحو التيار المتشدد الأصولى الذى يتزعم المشهد فى الفترة الأخيرة، وبالتالى سيحاول تأكيد مسألة المواجهة بشكل كبير. خاصة أن الإعلان الأوروبى يتوازى مع إقدام إسرائيل على بعض الضربات للحوثيين، حوالى عشر ضربات لمواقع غير مسبوقة لدار الرئاسة والسبعين وغيرها من المحافظات. وبالتالى هناك توجه غير مسبوق فى مسألة قواعد الاشتباك ومحاصرة إيران بشكل غير مباشر. وتابع أن هناك مساحة للوسطاء وظهور الدور الروسي - الصينى مرة أخرى، وقد تكون هناك ربما فرصة لتقديم بعض التنازلات لمحاولة إقناع الدول الأوروبية بإرجاء تفعيل العقوبات، وبالتالى أمامنا المزيد من الوقت قد يتخلله بعض جلسات تفاوض أو تصريحات أو دخول وسطاء آخرين فى هذه الفترة.
وصرح مهدى عقبائى، الكاتب الصحفى الإيرانى للمصور، بأن إيران تواجه اليوم مأزقًا كبيرًا، والمشكلة الأساسية ليست خارجية بل داخل البلاد. فالنظام يخشى انتفاضة الشعب، وقد حاول طويلًا استخدام الوعود لتأجيل اتخاذ قرارات حاسمة بشأن البرنامج النووى ونفوذه الإقليمي. وأضاف عقبائى أن النظام الإيرانى لا يستطيع الدخول فى مفاوضات لأن ذلك يعنى أنه يجب عليه تقديم تنازلات كاملة فى المجال النووى والإقليمى والصاروخي. وأوضح «عقبائى» أن الوضع الإيرانى يعتمد إلى حد كبير على موقف الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ فإذا لم تتنازل، فإن النظام سيواجه ضغوطًا أكبر وعقوبات أشد.
