رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ضريح السيدة عاتكة.. حكايات الروح فى قلب المحروسة


4-9-2025 | 15:02

ضريح السيدة عاتكة

طباعة
تقرير: محمد زيدان - عدسة: إبراهيم بشير

في صباح يوم جمعة مباركة، قصدت مسجد السيدة رقية، ذلك المكان الذي تتداخل فيه قداسة الروح مع عبق التاريخ، حيث يضم بين جدرانه ضريح السيدة عاتكة، كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً حين وصلت برفقة الزميل إبراهيم بشير، المصور الصحفي، لنبدأ معاً رحلة معايشة ميدانية، هدفها الاقتراب من هذا المقام الشريف ورصد ملامح الحياة الروحانية.

المكان ليس مجرد مسجد، بل مساحة ممتدة من السكينة، يتجمع فيها الزوار من مختلف الطبقات والأعمار، بعضهم جاء من أحياء القاهرة القريبة، وآخرون شدوا الرحال من محافظات أخرى بعيدة، بين أيديهم المصاحف وسبح، وعلى وجوههم ملامح توقير لمقام طالما اعتبروه أحد أبواب السماء.

قبل أن تخطو إلى داخل المسجد، ستجذب عينيك تلك القباب الشامخة في الساحة الخارجية، قبتان متجاورتان كأنهما تؤكدان على التوأمة بين التاريخ والروحانية، الأولى تعود إلى السيدة عاتكة، والثانية إلى الشيخ علي الجعفري، أحد أحفاد آل البيت، ومن أبرز الشخصيات الروحية المدفونة في هذه المنطقة، تبدو القبتان بلونهما الفاتح وهيبتهما البسيطة كأنهما تحرسان المكان منذ مئات السنين، فيما تحيط بهما ساحة واسعة مرصوفة بعناية، تتخللها أشجار النخيل الصغيرة والكبيرة وأعمدة الإنارة التي تضفي على المشهد مزيجاً من العراقة والسكينة، مجرد النظر إلى القبتين يكفي ليشعرك أنك على أعتاب مكان يختزن بين جدرانه سراً من أسرار القاهرة التاريخية، وتجعلان الزائر يشعر أنه على أعتاب مكان استثنائي.

اقتربت من الضريح ببطء، وكانت أصوات الهمس بالدعاء تملأ المكان، سيدات يرفعن أيديهن بخشوع، ورجال يقرأون الفاتحة في صمت، وعيون تفيض بالدموع طلباً للشفاعة والرحمة، وعندما نزلت إلى الضريح، استوقفني الباب الخشبي العتيق، الذي نقش عليه بخط اليد «ستنا السيدة عاتكة»، كان الباب مغلقا بقفل حديدي ثقيل، وكأنه يعلن أن الداخل ليس مكانا عاديا، بل مقام تحيطه الهيبة والرهبة، في تلك اللحظة، شعرت أن هذا الباب ليس مجرد مدخل، بل بوابة تعبر منها الأرواح قبل الأجساد، نحو عالم من الطمأنينة والسكينة.

وبينما كنت أجلس في رحاب الضريح، أخذت أتنقل بين الزوار أستمع إلى أصواتهم الهادئة، وقلوبهم المعلقة بمحبة آل البيت تقول زينب محمد، وهي سيدة في منتصف الأربعين من عمرها، إنها لم تكن تتوقع أن تكون زيارتها الأولى لضريح السيدة عاتكة بهذه القوة الروحية، تضيف: «كنت أعيش خارج مصر فترة طويلة، وبمجرد عودتي شعرت أن هناك رسالة موجهة لي، علامات وإشارات متكررة جعلتني أشعر أنه علي أن أزور أولياء الله الصالحين، لم أستطع تجاهل هذا الإحساس، وكأنها دعوة من السماء لابد أن ألبيها.

وعلي جانب آخر، كان بين الزوار رجل خمسيني تبدو على ملامحه السكينة، عرف نفسه بأنه مختار عبد الحفيظ، يبلغ من العمر 59 عاماً، جاء من محافظة أسيوط خصيصاً لهذه الزيارة، حيث يقول: اعتدت منذ سنوات طويلة أن أجعل لنفسي عادة ثابتة، وهي أن أزور أولياء الله الصالحين كل ستة أشهر، أبدأ رحلتي دائماً من مسجد سيدنا الحسين، ثم أتجه إلى السيدة زينب، وبعدها سيدنا علي زين العابدين، وستنا السيدة فاطمة النبوية، حتى أصل إلى السيدة رقية وضريح السيدة عاتكة».

ملاذ للروح

في الساحة الداخلية للمسجد، حيث يزداد الزحام ساعة بعد أخرى مع اقتراب موعد صلاة الجمعة المباركة، التقيت بالإمام الشيخ زكريا مرزوق، إمام وخطيب مسجد السيدة رقية، الذي حدثني مطولاً عن السيدة عاتكة ومكانتها.

بدأ حديثه بالإشارة إلى أن الاسم ذاته يحمل دلالة عميقة، قائلاً، الاسم عاتكة يعني الطاهرة المطهرة، صاحبة الفاقة والجمال، وهذا ما تجسد في سيرتها، فالسيدة عاتكة، رضي الله عنها، حظيت بزيجات مباركة، إذ تزوجت من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأوضح أن من بين أزواجها كان الزبير بن العوام، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكذلك محمد بن أبي بكر الصديق، وغيرهما من الصحابة الذين خرجوا جميعاً في سبيل الله واستشهدوا، حتى لقبت بـ زوجة الشهداء، ويضيف كلما تزوجت رجلاً من الصالحين، خرج للجهاد فنال الشهادة، فكان اسمها يرتبط بالوفاء والتضحية.

واشار الشيخ مرزوق، إلى أن الروايات حول نسبها تتعدد، فهناك من يرى أنها عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، أي عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما تؤكد روايات أخرى أنها عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، أخت الصحابي الجليل سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، لكن، في كلتا الحالتين، نحن أمام سيدة ارتبط اسمها بتاريخ الإسلام وبأهل بيت النبي عليهم السلام.

بينما كانت أصوات المصلين تتردد في أرجاء المسجد، ارتفعت تلاوة عذبة من مكبرات الصوت، تنساب كلماتها لتغمر المكان بخشوع استثنائي، كان ذلك الصوت الشيخ محمود الطبيلي العسكري، (قارئ القرآن الكريم في صلاة الجمعة)، الذي التقيته عقب الصلاة وسألته عن شعوره تجاه القراءة في حضرة هذا المقام، فقال بابتسامة يملؤها الرضا: «التلاوة هنا لها وقع مختلف على القلب، فالأجواء ليست كسائر المساجد، وأنت تقرأ القرآن في حضرة ضريح السيدة عاتكة، تشعر أن الكلمات تتضاعف قيمتها، وأن كل آية تخرج من الفم لا تستقر في الهواء فحسب، بل تنغرس في قلوب الحاضرين، فالمكان عامر بالروحانية، وكأنك تقرأ بين يدي رسول الله وآل بيته».

وأشار بيده إلى القبة التي تعلو الضريح، قائلاً، هذا المكان يجمع بين التاريخ والقداسة، إنه ليس مجرد بناء، بل شاهد على سيرة امرأة مؤمنة صابرة، لقبت بزوجة الشهداء، وكانت رمزاً للوفاء والثبات، لذلك، حين أقرأ هنا، أشعر أنني لا أخاطب الناس وحدهم، بل أستحضر سيرتها وذكرها الطيب، وتوقف لحظة ثم أضاف: «الجمعة هنا لا تشبه أي جمعة أخرى، المصلون يأتون من أماكن بعيدة، بعضهم طلباً للسكينة، وبعضهم وفاءً لأولياء الله، لكن الجميع يخرجون بطمأنينة وسكينة لا توصف، والضريح يظل هو القلب النابض الذي يجمعهم، يذكرهم دائماً أن مصر محفوظة بأهل البيت والأولياء».

أخبار الساعة