تصاعدت وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية على جبهات القتال رغم الحراك الدبلوماسي المتسارع. فبعد قمة ألاسكا بين الرئيسين ترامب وبوتين، التي رُوج لها بوصفها نقطة انطلاق نحو وقف إطلاق النار لكنها انتهت بلا اتفاق، عاد التصعيد العسكري ليطغى على المشهد. القوات الروسية واصلت تقدمها فى جبهات دونيتسك وزاباروجيا، حيث بسطت سيطرتها على بلدات جديدة، فيما كثفت كييف هجماتها بالطائرات المسيّرة والصواريخ على أهداف حيوية داخل العمق الروسى، بينها منشآت للطاقة ومجمعات توزيع الغاز، فى محاولة لانتزاع أوراق قوة قبل أي مفاوضات مرتقبة.
ورغم أن واشنطن دفعت مجددًا باتجاه محادثات سلام معززة بضمانات أمنية لأوكرانيا، فإن الانقسام الأوروبي ما زال يشكل عقبة أمام بلورة موقف موحد إزاء كيفية التعامل مع موسكو، بين دول ترى ضرورة تشديد المواجهة وأخرى تدعو إلى مقاربة أكثر حذرًا.

أكد الدكتور أديب السيد، الخبير في الشؤون الروسية والعلاقات الدولية، في تصريحات خاصة لـ«المصور» أن قضية الضمانات التي تطالب بها أوكرانيا لا تزال تشكل عقبة أمام التقدم نحو تحقيق تسوية للنزاع مع روسيا. فروسيا ترفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وتزويد القوات الأوكرانية بأسلحة فتاكة تطال العمق الروسي، أو نشر قوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية. في حين تطالب روسيا القيادة الأوكرانية بالتمسك بوضع الحياد والاعتراف بسيادة موسكو على شبه جزيرة القرم والأقاليم الأربعة الأخرى: دونيتسك، لوهانسك، خيرسون، وزاباروجيا.
وأكمل «أديب» أن ثمة عقبة أخرى تتمثل في وجود تباين في وجهات النظر بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية حيال مفهوم الضمانات الأمنية. فواشنطن تحاول إقناع أوكرانيا بضرورة التنازل عن بعض الأراضي لصالح روسيا من أجل تحقيق التسوية، في الوقت الذي يرفض فيه الاتحاد الأوروبي تقديم أي تنازل لروسيا ويريد حرمانها من ثمار أي انتصار تحققه في جبهات القتال. وقد تجلت هذه الخلافات خلال القمة التي جمعت الرئيس ترامب مع زيلينسكي والقادة الأوروبيين في واشنطن، والتي عقدت عقب قمة ألاسكا. واتضح أن كلتا القمتين لم تحرزا تقدمًا حقيقيًا على طريق التسوية، على الرغم من التفاؤل الذي عبرت عنه تصريحات أمريكية تبين أنها كانت متسرعة. ولذلك عاد ترامب مجددًا إلى التلويح بالعقوبات، ليس فقط ضد روسيا، بل شملت أوكرانيا هذه المرة.
وتنقسم أوروبا حول فكرة إرسال قوات حفظ سلام إلى أوكرانيا، فبينما تبدي بعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وإستونيا استعدادها للتحالف وإرسال قوات حفظ السلام، تعارض دول أخرى، خاصة المجاورة لروسيا مثل بولندا وفنلندا، بسبب مخاوفها الأمنية وعدم رغبتها في الدخول في مواجهة مباشرة مع الدب الروسي. ووفقًا لـ«أديب»، ترحب موسكو بمواقف هنغاريا وسلوفاكيا التي ترفض مواصلة تزويد أوكرانيا بالمال والسلاح على حساب الجانب الأوروبي، وتتفهم في الوقت نفسه رفض إيطاليا لإرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا. ولكن هناك إدراكًا في موسكو أنه بالرغم من أهمية هذه المواقف، إلا أنها ليست حاسمة في الحوار الجاري في الدوائر الأوروبية العليا، حيث اليد العليا تعود لفرنسا وألمانيا وبريطانيا.
وبشأن مستجدات الحرب على الأرض، أوضح «أديب» أن روسيا وأوكرانيا تحاولان على حد سواء شن هجمات في العمق بهدف الحصول على أوراق رابحة استعدادًا لجولات المفاوضات المرتقبة بين الجانبين بدفع من واشنطن. لذلك هاجمت القوات الأوكرانية مجمع توزيع الغاز الروسي المعروف باسم «دروجبا»، مما أدى إلى انقطاع إمدادات الغاز الروسية إلى هنغاريا وسلوفاكيا، وهو الأمر الذي أثار استياءً شديدًا في هذه الدول. واستهدفت القوات الأوكرانية كذلك محطات للطاقة الكهربائية ومحطات للطاقة النووية في إقليم كورسك جنوب روسيا، مما أدى إلى اشتعال النار فيها، وتم استهداف منشآت أخرى للطاقة في مناطق مختلفة. وفي المقابل، صعدت القوات الروسية من هجماتها في جبهات القتال، وبسطت سيطرتها خلال الأسبوع الأخير فقط على حوالي عشر بلدات جديدة، وباتت تقف على مشارف مدن استراتيجية في دونيتسك لا تزال تحت سيطرة القوات الأوكرانية. كما هاجمت روسيا بالصواريخ والطائرات المسيرة أيضًا أهدافًا مهمة في العاصمة كييف وكريمنتشوغ وغيرها من المدن، في محاولة لممارسة الضغط العسكري على القيادة الأوكرانية لدفعها إلى القبول بالشروط الروسية للتسوية، التي يبدو أن موسكو غير عازمة على التراجع عنها.
وقد أعرب الرئيس ترامب عن خيبة أمله لعدم اتخاذ بوتين ونظيره الأوكراني خطوات نحو عقد اجتماع ثنائي. كما لوح بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا إذا لم يوافق الرئيس الروسي على وقف إطلاق النار. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات صارمة على الأفراد والشركات الروسية منذ بدء العملية العسكرية في فبراير 2022، لكنها لم تتمكن من إيقاف تجارة روسيا عبر الحدود أو فرض أثر اقتصادي كافٍ لإجبار موسكو على اللجوء إلى السلام. كما أن استهداف شركاء روسيا التجاريين الرئيسيين، مثل الصين والهند، لم يؤدِ إلى تراجع التعاون مع موسكو أو قطع للعلاقات. ويتوجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين للمشاركة في قمة منظمة شنغهاي للتعاون والاحتفال بالذكرى الثمانين للانتصار على اليابان وانتهاء الحرب العالمية الثانية.
وعن الرسائل القوية التي تحملها زيارة بوتين إلى الصين في هذا التوقيت، قال «أديب» إن الزيارة لن تمر مرور الكرام بالنسبة للبيت الأبيض وقادة الاتحاد الأوروبي. حيث تأتي مشاركة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في هذه الفعاليات المهمة كرسالة إلى واشنطن بأن دلهي لا تكترث كثيرًا بالرسوم الأمريكية على البضائع الهندية، وأنها تقف إلى جانب الصين وروسيا في معركة العالم متعدد الأقطاب وضد الهيمنة الأمريكية على العالم. ولكن الرسالة الأقوى تأتي من القمة الروسية ـ الصينية بين بوتين ونظيره شي، والعرض العسكري المهيب في مدينة تيانجين، التي تحمل في ثناياها تحديًا واضحًا بأن واشنطن لن تنجح في التأثير على العلاقة بين البلدين.