بدأت الاستعانة بهذا «المسمى المالى» عند شراء الأجهزة الكهربائية، ثم إلى السيارات، مرورًا بالهواتف المحمولة والملابس، حتى أصبحت المصايف والمدارس والعملية التعليمية بالكامل بـ«التقسيط المريح». سادت هذه الوسيلة على المشهد، ونصبت نفسها ضمن اللغة المشتركة بين المستهلك والشركات والتجار، خاصة أن الأمر لم يعد مجرد رفاهية أو خيار إضافى، بل تبدل إلى أسلوب حياة يفرض نفسه بقوة مع ضغوط المعيشة وارتفاع الأسعار وصعود معدلات التضخم.
التقرير الأخير للهيئة العامة للرقابة المالية كشف حجم الظاهرة بوضوح، حيث ضخت شركات التمويل الاستهلاكى نحو 38.1 مليار جنيه خلال النصف الأول من عام 2025، مقابل 24.19 مليار جنيه فى الفترة نفسها من عام 2024، بنسبة نمو وصلت إلى 57.5 فى المائة، كما قفز عدد العملاء المستفيدين من 1.7 مليون إلى 4.8 مليون عميل، بزيادة ضخمة بلغت 172.3 فى المائة.
وخلال شهر يونيو فقط، بلغ إجمالى التمويل 8.8 مليار جنيه مقابل 4.2 مليار فى يونيو 2024، بنمو تجاوز 109 فى المائة، بينما ارتفع عدد العملاء إلى 992 ألفًا مقابل 344 ألفًا خلال الفترة نفسها، أى بزيادة تقارب 188 فى المائة.
على صعيد الأنشطة والقطاعات المختلفة، استحوذ تمويل السيارات على 17.9 فى المائة من إجمالى التمويلات، كما بلغت تمويلات الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات نسبة 17.8 فى المائة، ثم الأجهزة المنزلية بنسبة 16.6 فى المائة، فيما جاء التمويل عبر الكروت الاستهلاكية بحصة 13.7 فى المائة، والهواتف المحمولة بنسبة 4.5 فى المائة.
هذه الأرقام تعكس، بشكل لا يقبل الشك، أن التقسيط يتحول إلى وسيلة «إلزامية» لسداد قيمة السلعة، بعدما تحول إلى نمط استهلاكى مهيمن يعيد صياغة علاقة المصرى باحتياجاته اليومية ومستلزماته العامة.
بدأ الحديث معنا شريف سامى، رئيس الشركة القومية لإدارة الأصول والرئيس الأسبق للهيئة العامة للرقابة المالية، الذى رأى أن التمويل الاستهلاكى ليس وليد اللحظة، كما يظن البعض، بل هو أقدم من ذلك بكثير، فيقول: «الفكرة بدأت فى المجتمع المصرى من خلال نظام الجمعيات بين الأسر والجيران وزملاء العمل، وهو شكل بدائى من التمويل الاستهلاكى، أتاح للناس الحصول على المال لشراء احتياجات مثل جهاز منزلى أو تمويل رحلة. ثم تطور الأمر بشكل أكبر، خاصة فى الريف والأحياء الشعبية، حيث ظهرت محال الملابس والأجهزة المنزلية وهى ترفع لافتات (ادفع 20 فى المائة وقسط الباقى على سنتين)، وهذا موجود منذ أكثر من 10 أو 15 عامًا، وهو فى جوهره التمويل الاستهلاكى».
وأضاف «سامى» أن البنوك سرعان ما دخلت على الخط مع زيادة الوعى المصرفى، فأصبحت جميع البنوك العاملة فى السوق المصرية تقدم منتجات للتمويل الاستهلاكى ضمن خدماتها المالية.
أما عن موقف الحكومة، فأوضح أن «الدولة لا تترك الأمر عشوائيًا، بل تنظمه وتراقبه من جانب الهيئة العامة للرقابة المالية. فهناك حدود للإقراض تضمن أن التمويل الاستهلاكى لا يتجاوز قدرة العميل على السداد، كما أن وجود شركة (آى سكور) للاستعلام الائتمانى، المملوكة للبنوك، تضيف ميزة كبيرة، إذ تتيح معرفة الموقف الائتمانى لأى شخص من جميع الجهات، سواء فى التمويل الاستهلاكى أو العقارى أو غيره».
كما أن النمو السكانى المتزايد وارتفاع أسعار السلع والخدمات سيؤديان إلى استمرار توسع سوق التمويل الاستهلاكى، لأنه ببساطة يلبى احتياجات شريحة واسعة من المواطنين.
وفى هذا السياق، قال الخبير الاقتصادى، وليد عادل، إنه يرى أن تزايد الإقبال على التقسيط والقروض قصيرة الأجل بين المصريين مرتبط مباشرة بالتطورات الاقتصادية الأخيرة، مع ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية، أصبح دخل المواطن غير كافٍ لتغطية كل احتياجاته اليومية والموسمية؛ ولذلك يلجأ الكثيرون إلى شركات التمويل الاستهلاكى لتوفير احتياجات أساسية؛ مثل: الأجهزة المنزلية، أو المصروفات الدراسية، أو حتى شراء سيارة، وذلك على فترات سداد قد تمتد لعام أو عامين، حيث المواطن يفضل هذا الحل لأنه يخفف الضغط المالى المباشر، ويتيح له توزيع التكلفة على أقساط شهرية يمكنه التكيّف معها، فبدلًا من دفع مبلغ ضخم مرة واحدة، يتمكن من إدارة دخله المحدود بشكل أكثر مرونة.
ويضيف «عادل»، أن المسألة لم تعد خيارا ثانويا بل تحولت إلى آلية معيشية ضرورية، التمويل الاستهلاكى اليوم يوفر للمواطن وسيلة للحفاظ على مستوى معين من الاستهلاك رغم الظروف الصعبة، وهو ما يفسر الارتفاع الكبير فى أعداد العملاء خلال الفترة الأخيرة، رغم أن التمويل الاستهلاكى أصبح وسيلة ضرورية لتلبية احتياجات المواطن فى ظل الظروف الاقتصادية الحالية، إلا أن هناك جانبا مقلقا يتمثل فى معدلات التعثر، فهناك نسبة كبيرة تصل إلى نحو 40 فى المائة من العملاء الذين يحصلون على هذا النوع من التمويل، لا يتمكنون من استكمال سداد الأقساط حتى نهايتها، بسبب انخفاض دخولهم وعدم قدرتهم على التكيف مع الالتزامات الشهرية، وهذا يعكس فجوة واضحة بين حجم التمويلات التى يحصل عليها المواطن وبين قدرته الفعلية على السداد.
وأضاف الخبير الاقتصادى أن «شركات التمويل الاستهلاكى باتت أكثر تشددًا فى التعامل مع حالات التعثر، حيث لجأت خلال الفترة الأخيرة إلى الاستعانة بشركات تحصيل متخصصة، تتولى مهمة متابعة العملاء المتأخرين فى السداد، وأوضح أن هذه الشركات تعمل بطرق قانونية، سواء من خلال الاتصالات المباشرة، أو عبر زيارات منزلية للعملاء؛ لحثهم على الالتزام بالجدول الزمنى للأقساط. إن هذه الخطوة تعكس حجم التحديات التى يواجهها القطاع مع ارتفاع معدلات التعثر، مؤكدًا أن الهدف الأساسى منها هو تقليل الخسائر وضمان استرداد الأموال، لكنها فى نفس الوقت تضع ضغطا نفسيا إضافيا على المستهلك المتعثر».
وأشار «عادل» إلى أن أحد أبرز التحديات التى تواجه قطاع التمويل الاستهلاكى هو ضعف آليات التقييم الائتمانى للعملاء مقارنة بالبنوك، قائلًا: «عندما يتقدم العميل للحصول على قرض أو تمويل من بنك، يخضع لفحص دقيق يشمل سجله الائتماني، دخله، التزاماته المالية السابقة، ومدى قدرته على السداد. أما فى حالة شركات التمويل الاستهلاكي، فآليات دراسة العميل ما زالت أقل كفاءة وأضعف من حيث الأدوات والبيانات المتاحة، مما يزيد من احتمالية منح التمويل لأشخاص قد لا يتمكنون من السداد لاحقًا، كما أن أحد أسباب تزايد الأعباء المالية على المستهلك هو ارتفاع أسعار الفائدة التى تفرضها شركات التمويل الاستهلاكى مقارنة بالبنوك، إذا كان البنك اليوم يمنح قروضا بفائدة تصل إلى نحو 25 فى المائة، فإن بعض شركات التمويل الاستهلاكى تقدم نفس الخدمة ولكن بفائدة قد تصل إلى 40 فى المائة أو أكثر، وهو ما يمثل عبئا مضاعفا على المواطن، خصوصًا مع طول فترة السداد وتراجع القوة الشرائية للجنيه. إن هذا الفارق يعكس المخاطر الأعلى التى تتحملها شركات التمويل، لكنها فى الوقت ذاته تضع شريحة كبيرة من المستهلكين فى مواجهة مخاطر التعثر، خاصة مع ضعف دخولهم وارتفاع معدلات التضخم».
بدوره، استكمل عبدالله محمد، موظف بإحدى شركات التمويل الاستهلاكى الحديث، قائلًا إن «التقسيط أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة المصريين فى الفترة الأخيرة، والطلب عليه فى تزايد مستمر، فنحن فى الشركات نعمل على توفير حلول دفع مرنة تساعد المواطن على شراء احتياجاته دون التعرض لضغط مالى كبير، نعمل على دراسة العميل قبل منحه التمويل، لدينا «سيستم» كامل لتقييم القدرة المالية من خلال المرتب أو الودائع أو مصادر الدخل الأخرى، والهدف أن العميل لا يتعرض لتعثر أو عبء مالى أكبر من طاقته، لأن نجاحنا مرتبط بقدرته على السداد».
وواصل قائلًا: «لدينا أنظمة متعددة تتناسب مع ظروف كل عميل. أول وأبسط شكل هو التقسيط الشهرى التقليدى، وهذا النظام يتعامل به أغلب العملاء، سواء بغرض شراء الأجهزة الكهربائية أو الأثاث أو حتى الهواتف المحمولة»، لافتًا إلى أن العميل يختار المدة التى تناسبه من 6 أشهر حتى 36 شهرًا فى بعض المنتجات، ونحن نحدد قيمة القسط وفقًا لقدرة دخله.
أما النوع الثانى، فهو التقسيط الموسمى، ونقدمه خاصة فى فترات معينة مثل موسم دخول المدارس والجامعات أو إجازة الصيف –على حد تعبير عبدالله محمد- ضاربًا مثالًا: «ولى الأمر يستطيع سداد المصروفات الدراسية أو اشتراكات المصايف على أقساط مرتبطة بموسم محدد، بحيث يتناسب القسط مع دورة دخله»، مشيرًا إلى أن هناك أيضًا التقسيط بدون مقدم، وهو نظام يجذب شريحة كبيرة جدًا من العملاء، لأن استلام المنتج فورًا دون دفع أى مبلغ أولى، على أن يتم السداد بأقساط ثابتة.
بينما هناك أنظمة تسمح بدفعة مقدمة لتقليل قيمة القسط الشهرى، وهذا مناسب للأسر القادرة على دفع جزء من ثمن السلعة، وترغب فى تخفيف العبء النقدى مستقبلًا.
واختتم الموظف عبدالله محمد، قائلًا: «التمويل الاستهلاكى ليس رفاهية، لكنه وسيلة أساسية للتيسير على المواطن، خاصة فى ظل ظروف اقتصادية حالكة، وما يجذب العملاء هو توفير مزايا وبدائل وحرية اختيار، وهذا يجعل الخدمة «استهلاكية» تساهم فى تحسين جودة الحياة».