لم تُؤد الحرب التجارية الأمريكية-الصينية المستمرة، والتي بدأت بجدية في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية وأنظمة التعريفات الجمركية فحسب، بل أحدثت أيضًا تحولًا جيوسياسيًا عميقًا في أمريكا اللاتينية. ومع تبني واشنطن موقفًا أكثر حمائية وتراجعها عن المشاركة، انتهزت بكين الفرصة لتعميق حضورها الاقتصادي والدبلوماسي والسياسي في جميع أنحاء المنطقة، بل والبحث عن مناطق نفوذ جديدة لتعزيز وضعها العالمي. إلا أن نفوذ بكين المتزايد في المنطقة لا يزال يثير مخاوف واشنطن.
أقامت الصين، على مدى أكثر من عقدين، علاقات اقتصادية وأمنية وثيقة مع العديد من دول أمريكا اللاتينية. وفي خطوة استراتيجية جريئة تُبرز حدة التنافس بين واشنطن وبكين، كشفت الصين عن خط ائتمان ضخم بقيمة 9.2 مليار دولار أمريكي، وصندوق استثمار في البنية التحتية يستهدف دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
وفي هذا السياق، صرح الدكتور أحمد عبده طرابيك، الباحث في الشؤون الآسيوية، لمجلة «المصوّر»، بأن العلاقات الصينية مع أمريكا الجنوبية تشهد تطورًا متسارعًا، حيث تتمثل هذه العلاقات في استثمارات ضخمة بمجال البنية التحتية والموارد الطبيعية، إلى جانب تنامي حجم التجارة والتعاون الاقتصادي. وأوضح أن بكين تسعى إلى بناء تحالفات متشعبة ومتشابكة مع دول أمريكا الجنوبية، ما قد يؤدي إلى تغييرات في التحالفات الإقليمية. فقد نسجت الصين علاقات متعددة الأبعاد مع هذه الدول خلال السنوات الماضية، ولم تقتصر على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل امتدت لتشمل الجوانب السياسية والعسكرية أيضًا.
وأضاف طرابيك أن الصين تستثمر بكثافة في مشاريع البنية التحتية مثل الموانئ والطرق والسكك الحديدية، وهو ما يعزز النمو الاقتصادي في بعض دول أمريكا الجنوبية. ففي البرازيل، توجد استثمارات صينية كبيرة في الموانئ ومحطات توليد الطاقة، بينما أقامت الصين شراكة استراتيجية مع تشيلي في قطاع التعدين. وفي الأرجنتين، تتركز الاستثمارات الصينية في مشاريع الطاقة المتجددة. كما أصبحت بكين أكبر شريك تجاري لعدد من دول أمريكا الجنوبية، مثل فنزويلا والإكوادور وتشيلي، ما يقلل اعتماد هذه الدول على الأسواق التقليدية. وتستورد الصين كميات كبيرة من الموارد الطبيعية من المنطقة، خصوصًا المعادن ومنتجات الغابات، وهو ما ينعكس إيجابيًا على اقتصادات هذه الدول ويوفر فرص عمل واسعة لسكانها.
وفيما يخص الممر التجاري البري-البحري الدولي الجديد الذي يربط جنوب غربي الصين بأمريكا الجنوبية، أوضح «طرابيك» أنه في 30 يونيو 2025، انطلق قطار شحن من بلدة تشونغتشينغ في جنوب غربي الصين محملًا بـ84 حاوية من المركبات الجاهزة، عبر الممر التجاري الجديد، ليُشحن لاحقًا على متن سفينة متجهة إلى ميناء تشانكاي في بيرو، في أول رحلة من نوعها تربط هذا الممر بالميناء. ويصل القطار إلى ميناء خليج بيبو في منطقة قوانغشي، حيث تُنقل المركبات بحرًا إلى أمريكا الجنوبية. ويُعد هذا المشروع جزءًا مهمًا من مبادرة «الحزام والطريق»، إذ يربط المناطق غير الساحلية بغرب الصين بالأسواق العالمية. ويمثل ميناء تشانكاي، الذي يُعد أول ميناء ذكي وأخضر في أمريكا الجنوبية، مشروعًا استراتيجيًا مشتركًا بين الصين وبيرو، أسهم في تقليص زمن شحن صادرات أمريكا الجنوبية إلى آسيا من نحو 35 يومًا إلى 25 يومًا فقط.
وعن تأثير الممر على التجارة العالمية، أشار طرابيك إلى أنه يعد شبكة لوجستية رئيسية تربط غرب الصين بالأسواق الدولية، ومن شأنه زيادة حجم التجارة العالمية بشكل كبير، إذ يصل مداه إلى 555 ميناء في 127 دولة ومنطقة. ويربط الموانئ العالمية عبر خطوط السكك الحديدية والطرق البحرية والبرية، مرورًا بمقاطعات جنوبي الصين مثل قوانغشي ويوننان. وتغطي خدمة الشحن الآن 157 نقطة في 73 مدينة صينية، وقد نُقل عبر الممر أكثر من 251,800 حاوية في عام 2024 بقيمة إجمالية بلغت 6.4 مليار دولار، بزيادة 67 فى المائة عن العام السابق. كما ارتفع عدد القطارات المارة عبر الممر من 900 قطار عام 2019 إلى أكثر من 10,000 قطار عام 2024، مع تنامي تنوع السلع من عشرات إلى أكثر من 1,160 نوعًا.
أما عن تعاطي الولايات المتحدة مع هذا الممر، فأوضح طرابيك أن العلاقات الصينية المتنامية في أمريكا الجنوبية تثير قلقًا متزايدًا في واشنطن، التي ترى فيها تحديًا لنفوذها التقليدي بالمنطقة. وتتعامل الولايات المتحدة مع هذا التوسع الصيني عبر مزيج من التنافس الاقتصادي والتعاون المحدود في بعض المجالات، إلى جانب محاولات احتواء النفوذ الصيني. وقد تسعى واشنطن إلى زيادة استثماراتها في أمريكا الجنوبية وتعزيز تحالفاتها مع دول مثل أعضاء «التحالف الباسيفيكي» لمواجهة التحديات المشتركة التي يفرضها التمدد الصيني.
وأضاف طرابيك، إن الولايات المتحدة، الساعية للحفاظ على تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي، قد ترى في هذا الممر تهديدًا مباشرًا. لذا، قد تفرض قيودًا على بعض السلع الصينية، أو تعزز التعاون الأمني ومكافحة الجريمة المنظمة والطاقة مع دول أمريكا الجنوبية لتقليل اعتمادها على الصين، فضلًا عن تشجيع زيادة التبادل التجاري والاستثماري معها. ومع ذلك، تبقى أوراق واشنطن للحد من النفوذ الصيني محدودة التأثير مقارنة بأسلوب بكين، التي تعتمد على مبدأ الشراكة وتطوير اقتصادات الدول من خلال الاستثمار في البنى التحتية، وتطوير المرافق الأساسية، ونقل التقنيات الحديثة، في مقابل النهج الأمريكي التقليدي القائم على الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب، وهو ما لم يعد يتماشى مع طموحات شعوب أمريكا الجنوبية الساعية للتحرر وتعظيم الاستفادة من مواردها.
