نجح «صنع الله إبراهيم» في أن يختزل مؤتمر الرواية العربية في المشهد الأخير، حين أعلن رفضه قبول جائزة الرواية العربية، وكان اسم الفائز قد شغل العديد من الروائيين والمتابعين حتى قبل أن يبدأ المؤتمر، ورغم أن صنع الله كان أحد المرشحين المصريين العشرة للجائزة، فإن جميع التكهنات لم تتوقع أن يكون هو الفائز، ليس انتقاصا من قدره كروائى، ولكن لأن صنع الله نأى بنفسه عن الجوائز وعن أنشطة وزارة الثقافة، حدث قبل ست سنوات أن رشحت روايته «شرف» للفوز بجائزة أحسن رواية للعام في افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب. ونودى على اسمه بالفعل لكنه لم يحضر.. ويومها قال صنع الله للصحفيين إنه لا يحب الاحتفالات، وقال إنه كان مريضا ومتعبا، وكان الواضح للجميع أنه يريد أن يبتعد عن الجوانب الرسمية في صمت وبلا إفصاح مباشر.
وحدث أيضا أن رُشح لجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة واعتذر عنها بهدوء.. كذلك عرض عليه من قبل د. جابر عصفور، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، أن يتم ضمه إلى لجنة القصة والرواية بالمجلس، واعتذر صنع الله دون حتى أن يعلن عن ذلك.. وبسبب كل هذه الاعتذارات لم يتوقع أحد من المراقبين أن تقدم لجنة الجائزة على اختياره للفوز.. خاصة أن مؤتمر الرواية جاء بعد حدثين ثقافيين مهمين.
الأول: مؤتمر مستقبل الثقافة الذي عُقد مطلع يوليو وفجرّه الروائى الجزائرى «الطاهر وطار»، قبل أن يبدأ برسالة بعث بها عبر وكالات الأنباء إلى وزير الثقافة يرفض فيها مجرد المشاركة والحضور ويتهم المؤتمر، ومن ثم الجهة التي نظمته بعدم الالتفات إلى الخطر الأمريكي واحتلال العراق و.. و...
الثانى: مؤتمر عن الرواية بالمغرب الشهر الماضى، وكان صنع الله إبراهيم نفسه هو الذي فجّره مع عدد من الكُتاب المصريين، حيث اعتذروا عن عدم المشاركة في ذلك المؤتمر بسبب زيارة وزير خارجية إسرائيل إلى المغرب، واعتبر اتحاد كتاب المغرب أن الكتاب المصريين يزايدون عليهم.
وقد حاول عدد من الكتاب المصريين الذين رفضوا الذهاب إلى مؤتمر المغرب تبرير موقفهم أو الاعتذار عنه، إلا صنع الله الذي ظل متمسكا ومؤكدا موقفه أنه يرفض وجود السفير الإسرائيلى في القاهرة، كما يرفض زيارة وزير خارجية إسرائيل للمغرب.. هل يعقل بعد هذا كله أن تقدم لجنة التحكيم على منحه الجائزة، وكيف تصور البعض أن يقبل صنع الله جائزة مؤتمر القاهرة؟!
صنع الله نفسه في بيانه الذي ألقاه في الحفل الختامى، وطبع منه كمية من النسخ قامت السيدة زوجته بتوزيعها على الحاضرين، بينما كان يقوم بإلقائه، عبر عن دهشته لأنه فاز بالجائزة. وإحقاقا للحق، فإن كل ما قاله في بيانه عن الفساد ورأيه في الحكومة وفى موقفه من أمريكا وإسرائيل، ليس جديدا، فقد عبر عنه بأوضح نبرة وأعلى صوت في رواياته، تحديدا منذ روايته «بيروت.. بيروت» وحتى «ذات» و«شرف» والأخيرة «أمريكانلى».. ربما يكون الجديد هذه المرة هو الصيغة التي اختار أن يرفض بها الجائزة، وأن يعبر عن هذا الرفض.
كيف فات كل هذا على د. جابر عصفور؟ وهل صحيح ما يتردد من أن بعض الأصوات داخل المجلس الأعلى تخوفت من أن يرفض صنع الله، لكن د. عصفور كان واثقا أن صنع الله لن يرفض؟
نحن أدينا عملنا بنزاهة وشرف، لقد شكلنا اللجنة وطلبنا منهم أن يختاروا ما يرونه فعلا مؤهلًا للفوز، فاختاروا صنع الله إبراهيم، هل كان المطلوب منى أن أعترض وأطلب اليهم أن يعيدوا الاختيار ونستبعد صنع الله، نحن لسنا مثل الآخرين، لا نفبرك الجوائز ولا نختار نحن الفائزين.. وقد اتصلت بصنع الله مساء الأحد، وقلت له إن اللجنة اختارته، فوجدت منه فرحة وبهجة وشكرًا وامتنانا، قلت له إننا بصدد تحرير شيك بمبلغ 100 ألف جنيه، وأريد الاسم ثلاثيا فأملانى اسمه، ونطق لى اسمه الثلاثى «ألقرفلى» بالحروف، ونبهنى إلى خطأ يقع فيه البعض، حيث يضعون «و» بعد القاف، إلى هذا الحد.
قيل إن صنع الله كان مترددا فدفعت إليه بالناقد محمود أمين العالم ليقنعه، وحدث تفاوض بين الاثنين؟
غير صحيح، ولماذا أطلب تدخل العالم وأنا أمام كاتب سعيد ومبتهج بالفوز وممتن للجنة وللمجلس الأعلى.
هل هناك بالفعل من تخوف ونبه إلى أن صنع الله سوف يرفض قياسا على ما سبق، حتى إن بعض أعضاء لجنة التحكيم مثل د. محمد برادة لم يُفاجأ بعد ذلك برفضه؟
ضع نفسك مكانى، هل كان المطلوب منى أن أستوقعه مثلا على ورقة بالموافقة، وماذا أفعل أنا أو غيرى بعد ذلك مع من يفوز بأى جائزة.
كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة، ما هو شعورك وموقفك بعد ذلك من أي نشاط فيه جوائز؟
صنع الله إبراهيم رفض جائزة قررتها لجنة تحكيم تضم أعضاء من سبع دول عربية، هو إذن رفض جائزة قررتها له الأمة العربية، ولم تمنحها له الحكومة المصرية، ولا وزارة الثقافة، هو أهان أعضاء لجنة التحكيم، أهان أيضا الروائى الذي يفوقه إبداعيا بمراحل عبد الرحمن منيف، والذي فاز بهذه الجائزة سنة 1998.
على المستوى الشخصى خدعنى صنع الله، وإننى أتساءل بحق.. لقد فاز قبل ذلك بجائزة العويس وقضى ستة أشهر في أمريكا، منحة من إحدى الهيئات الأمريكية، هل «فلوس» النفط أو هيئة أمريكية حلال وفلوس الشعب المصري حرام..؟!!
هل ستستمر هذه الجائزة، أم إنه بات من الصعب على روائى آخر أن يقبلها، لقد قال الروائى الليبى إبراهيم الكونى قبل أن يغادر القاهرة لن أقبل هذه الجائزة أبدا حتى لو عرضوها علىّ مائة مرة؟
سوف يكون هناك إصرار على الاستمرار والتواصل، لقد قام صنع الله بتمثيلية سخيفة، ليسجل موقفا أنانيا صغيرا دون أن يدرى أنه بذلك يمكن أن يطفئ نقطة نور قائمة.
أنت.. كيف تفهم موقف صنع الله..؟
أتصور أنه بعد أن وافق، تردد وقرر الرفض، وهذا حقه، لكنه فيما يبدو أراد هذه التمثيلية «الخايبة» التي قام بها.. وكان واجبه أن يبلغنا ويعلن رفضه قبل الاحتفال وليس بهذه الطريقة.. خاصة أننى عاودت الاتصال به يوم الأربعاء الساعة الثانية ظهرًا، واستأذن أن يلقى كلمة في الاحتفال فرحبت بالفكرة.
بماذا تفسر حالة الحماس الشديد في القاعة، والتصفيق الحاد الذي حدث حين ألقى صنع الله بيانه؟
صنع الله استغل غضب المثقفين من الحكومة، لأسباب لا علاقة لها بمؤتمر الرواية أو أنشطة المجلس الأعلى ووزارة الثقافة.
• • •
ذهبت إلى صنع الله إبراهيم، الذي رفض الجائزة، لأسمع منه..
كيف أبلغت بالفوز..؟
قال.. أبلغونى مساء الأحد، كلمنى «جابر» قائلا مبروك.. سكت تماما، قال لى بالحرف الواحد: «على فكرة هذا ليس اختيارى، ولم أتدخل في الأمر، اللجنة هي التي اختارت وقررت»، سكت أيضا، طلب اسمى ثلاثيا.. أمليته إياه وخلاص.. قال لى: «نحن في انتظارك يوم الأربعاء الساعة السادسة».
هل هذا معقول، لم تتحدثا في الجائزة ولم تُبدِ سعادة..؟
لم أعلق إطلاقا.. لم أقل نعم، ولم أقل لا..
هل صحيح أن محمود أمين العالم اتفق معك على أن تقبل الجائزة وتتبرع بقيمتها المالية لأطفال فلسطين..؟
لم أتكلم في هذا الأمر مع أحد على الإطلاق، ولم يكن قد دار حديث بينى وبين محمود أمين العالم قبل شهر تقريبًا، ورأيته فقط حين اصطحبنى رجال الوزارة إلى الصف الأمامى.
قبل هذه المرة رفضت الجوائز والتكريم، كما حدث في معرض الكتاب، كنت تعتذر في صمت وهدوء، هذه المرة خرجت عن مألوفك..؟
صحيح، لعلك تذكر واقعة التكريم في معرض سنة 1997، كان مستوى الظرف مختلفا، كانت الأمور لم تتضح بعد، كنت تحترم أناسا أخذوا الجائزة نفسها ويكرمون في اليوم نفسه.
ربما لم أشعر بعمق الكارثة.. حينما يكون لديك تصور عام للأمور، فإنك تتصرف حسب كل موقف.. يمكن في موقف أن تتجاهل بعض الأشياء وتتفهم. الآن يختلف الأمر لقد وصلنا إلى وضع مأساوى، لم يحدث في التاريخ، الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج مهانة من أمريكا ومن إسرائيل، لم يعد الأمر يحتمل من مداراة، أو مراعاة لبعض المشاعر أو المراهنة على بعض الإمكانيات، كان لا بد أن يحدث الرفض بهذه الطريقة، وبالمناسبة أنا لا أدين التعامل مع الحكومة المصرية ولا مع وزارة الثقافة ولا مع الصحف القومية، هذا كله واقع قائم، لكنك في لحظة معينة تشعر أن هذا كله لا يمثلك، عندى إحساس أننا نعيش هذه اللحظة.
ألا ترى أن رفض الجائزة يحمل نوعا من المزايدة على عبدالرحمن منيف الذي نالها قبل ذلك؟
على وجه الإطلاق، لا.. «منيف» فاز بها سنة 1998، الآن نحن في عام 2003، اختلف الوضع كثيرا، الظروف تغيرت، لم يكن العراق يعيش تحت الاحتلال الأمريكي، ولم يكن الشعب الفلسطينى يُباد بهذه الطريقة، ولم نكن نحن نعانى أيضا على هذا النحو، لم تكن العلاقات مع المؤسسات على هذا النحو.. أنا شخصيا أشعر بأننى لا أستطيع أن أعيش، تصحو من النوم كل يوم تجد نفسك «تعبان».
ألا ينسحب رفض الجائزة على اللجنة التي اختارتك؟
غير صحيح، لقد ذكرت في كلمتى احترامى الشديد لأعضاء اللجنة وصافحتهم جميعا وشكرتهم، إن من بين أعضائها أساتذة لى.
ألا تخشى أن يؤدى هذا التصرف بالحكومة إلى اتخاذ موقف معادٍ من المجلس الأعلى للثقافة وبعض نقاط الضوء الثقافى في البلد؟
ليست هناك مناطق نور، الظلام يحيط بنا، كل الأماكن مظلمة، الأمة كلها في خطر.
ألا تشعر بأنك خدعت جابر عصفور والمسؤولين بوزارة الثقافة؟
طيب خدعت جابر عصفور مرة، ولكن هم يخدعوننا ويضللوننا طوال 30 سنة، يقولون لنا كلاما عن الحوار وعن الفكر الجديد وعن وعن.. نعم، خدعتهم، ولكن خدعة واحدة مقابل 30 سنة من الخداع.
اسمع لقد أردت أن يتم الرفض بهذه الطريقة وبهذا الشكل وفى هذا الحشد.
قضيت 6 أشهر في الولايات المتحدة وقيل إن الرحلة كانت بهدف كتابة روايتك التي صدرت قبل أقل من شهر «أمريكانلى».. هل كانت الرحلة فعلا بدعوة من مؤسسة مانحة أمريكية؟
أنا ذهبت بعقد فردى مع جامعة مستقلة ذات اتجاهات يسارية، هي جامعة «بيركلى» هي الجامعة التي خرجت منها ثورة الستينيات ضد حرب فيتنام ولا تزال هذه الجامعة إلى اليوم من معاقل اليسار، وقلت لهم لست أستاذا جامعيا، وليس لدىّ حتى مؤهل جامعى، قالوا نريد أن تدرس موسما دراسيا عن رواياتك وأعمالك، هي إذن لم تكن مهمة للكتابة الروائية، فضلا عن ذلك لا أتصور أن هناك إدانة أقوى لأمريكا من تلك التي في داخل الرواية.
لكنك قبلت جائزة العويس؟
العويس تاجر لؤلؤ لديه أموال كثيرة، يحب الشعر، خصص جائزة للشعر، وطلب من اتحاد كتاب الإمارات أن يضع شروطا ويختار الفائزين، فطلبوا منه توسيع دائرتها لتصيب الشعراء والنقاد والمبدعين، واختاروا أناسا لم يحصلوا على جوائز من جهات رسمية، فاز بها سعدى يوسف وعبدالرجمن منيف وسعد الله ونوس وفاروق عبد القادر والفريد فرج، العويس ليس حكومة ولا جهة رسمية ولا يتدخل في الجائزة.
أعرف أن حملة لتشويهى بدأت هناك سيدة هاجمتنى بدعوى أنها كاتبة فلسطينية، هي ليست كاتبة ولا روائية ولا علاقة لها بالكتابة، لكنها واحدة من سيدات المهرجانات الثقافية.
وصرح أحدهم بأننى عميل خفى للمخابرات المركزية منذ 25 سنة، كل هذا لأننى قلت رأيا ورفضت الجائزة!!
يبدو أنك مارست دراستك للإخراج السينمائى في موقف الرفض؟
نعم، أنا أحب الإخراج، فقد درست بمدرسة السينما بموسكو، أليس من حقى أن أمارس الإخراج وأعمل شو، هم يا أخى يعيشون في «شوهات» مستمرة، فلماذا لا أمارس ذلك معهم مرة.