لا شك أن «أرنولد توينبي» ليس بحاجة إلى تعريف: ولكن وللتذكير، فإنه المؤرخ والمفكر البريطانى الذى شغله سقوط الحضارات وازدهارها، ولا تزال آراؤه فى التاريخ والشئون الدولية حجة فى الأوساط السياسية فى القارات الخمس. إنه الرجل الذى تنبأ بالحربين العالميتين، والبروفسور الذى فشل هتلر فى إقناعه بكتابة شيء لمصلحته. إنه «توينبي» الداعى إلى السلام، والمعنىّ بموت الإنسان الفرد، والذى اشترك فى مؤتمرات الصلح لعام 1919، 1945. وفوق ذلك فإنه المهتم بالشئون الدولية خصوصا ما يتعلق منها بموضوع الشرق الأوسط، ومستقبل هذه المنطقة ومستقبل أبنائها.
خلال وجودى فى لندن وتحديدا فى عام 1973 ذهبت إلى لقاء المؤرخ العالمى البروفسور «أرنولد توينبي»، الذى يبلغ الخامسة والثمانين من عمره بعد أن أعطانى موعدا للقائه. استقبلنى فى منزله، وجلست يومها فى حجرته الرمادية لأجرى معه لقاء استمر ساعتين.
ـــ سألته: ما مستقبل إسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط؟
= أجاب قائلا: (إن إسرائيل موجودة فعلا كدولة، وإن كنت أعتقد بأنه ما كان يجب أن تخرج إسرائيل إلى حيز الوجود. فهى حقيقة مرة، ولكن كان على العرب الاعتراف بها. وليس من شك فى أن العرب لن يسمحوا لإسرائيل أن توجد وتعيش خارج حدودها التى كانت خلفها قبل حرب 1967، فهذه حقيقة صلبة ولا يمكن أبدا تغييرها. بل إن التاريخ نفسه لن يسمح بتغييرها. واعتقادى أن الأمور ستزداد تعقيدا بالنسبة إلى إسرائيل فيما إذا تعدت حدود ما قبل عام 1967، وهى الحدود التى كان ينبغى على إسرائيل أن تقنع بها كحدود دائمة بينها وبين جيرانها العرب، بما فى ذلك كل من لبنان ومصر وسورية والضفة الغربية وقطاع غزة والأردن) .
واستطرد « توينبي» قائلا: (وأنا أعتقد أن حل المشكلة الآن ينحصر فى انسحاب إسرائيل، بحيث تصبح حدود ما قبل عام 1967 حدودا دائمة، وأن تتخلى إسرائيل بذلك عن نظرية الصهيونية التى تعتصر إمكاناتها فى النهاية، وهذه الحدود يجب أن تضمنها كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، وأعتقد أنه لضمان تأمين تلك الحدود ينبغى تحديد قطاع من الأرض يفصل بين القوات المسلحة لكل من الجانبين، وتتمركز به قوات عسكرية حيادية، بحيث لا يتمكن أحد الأطراف المعنيين من الهجوم على الآخر.
وهذا ما أعتقد أنه سيكون أساسا لتسوية دائمة، فيما إذا اتفق عليها الفرقاء وليس من شك حسب اعتقادى فى أن العرب سوف يوافقون على تلك التسوية، وإن كنت على يقين من أن الإسرائيليين سيتبرمون منها على الرغم من أنها تمنح إسرائيل شرعية البقاء والأمن بالنسبة إلى مناطقها التى تضم تعدادها السكانى.
والسبب فى ذلك أن إسرائيل تعيش وفقا للأيديولوجية الصهيونية التى تنادى بالتوسع الإقليمي، ولهذا فإن قبول أية حكومة إسرائيلية بحكومة غير قابلة للامتداد يصبح أمرا مضادا للأيديولوجية الصهيونية التى لا تزال تلقى تأييدا كبيرا داخل إسرائيل نفسها. غير أن هذه الأيديولوجية تتعارض ورغبة الإسرائيليين ــ التى لا يمكن إخفاؤها ــ فى عدم خوض غمار حروب أخرى، لاسيما بعد فداحة الخسائر فى الأرواح، وموجة الحزن العميق التى أصابت إسرائيل فى الحرب الأخيرة. ولكن يجب أن يقتنع المسئولون فى الحكومة الإسرائيلية بأن أى توسع بالقوة لاستقطاع أراضى الغير لا بد وأن ينتج عنه خسائر فادحة فى الأرواح والعتاد والأموال والسمعة الدولية.
من أجل هذا كان يتعين يومها أن يرتكز دور «هنرى كيسنجر» على استخدام الحجج لإقناع إسرائيل بهذه النقطة والتى كانت تغفل عنها أو تتغافلها، وأن يوضح لها أن هناك مخرجين اثنين: إما تسوية تؤدى إلى أن يكون الوضع على ما هو عليه، وإما لا تسوية تؤدى إلى خسائر جمة لا حصر لها وتهدد بقاء الحال فى وضع الاستقرار.
ـــ وسألت البروفيسور «توينبى» عما إذا كان يرى أن بوسع العرب وإسرائيل العيش فى سلام ووفاق فى المستقبل المنظور؟ فأجاب قائلا:
(سيأخذ ذلك وقتا طويلا جدا، لأن دولة إسرائيل قامت أساسا فوق أرض اغتصبت من الفلسطينيين العرب الملاك الشرعيين لها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الاحتلال المؤقت لبعض الأراضى العربية من شأنه أن يضاعف من المرارة بين العرب وإسرائيل، ويباعد بين الطرفين وبين السلام. ولا شك أن الأخطاء التى ارتكبتها إسرائيل كانت فادحة، وليس من السهل على العرب نسيان أو غفران هذه الأخطاء. وخصوصا أن العالم ظل قاسيا ولمدة طويلة فى حكمه على العرب. كما أن تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل دون قيد ولا شرط، كان من قبيل الخطأ المتعمد. وعليه فإن إصلاح الحال يستلزم مرور وقت حتى يتخلص العرب من الشعور بالمرارة نحو الولايات المتحدة من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى.
ومفتاح ذلك يكون بمعالجة مشكلة الفلسطينيين، إذ إن العالم والتاريخ لا يمكن أبدا أن يسمحا بأن يجرَّد الفلسطينيون من حقهم تماما وهو العودة إلى أراضيهم. ولا بد أن يشكلوا العامل الأول فى أية تسوية للقضية. كما يجب أن تكون لهم أراضٍ معينة، وأن يرصد العالم اعتمادات مالية لتطوير هذه الأراضى. ولا شك أن بإمكان مصر وسوريا، على ما أعتقد، استرداد أراضيهم. ولكن يظل هناك السؤال العالق ألا وهو: ماذا سيحدث بالنسبة إلى مستقبل أراضى الشعب الفلسطينى؟.. وللحديث بقية.
