رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

معارك من أجل البقاء .. رحلة آثار مصر بين الترميم والاستثمار والتنمية


7-7-2025 | 14:37

.

طباعة
تقرير: أمانى عبدالحميد

إن ما جرى لآثار مصر خلال الاثنى عشر عاما الماضية لم يكن مجرد سلسلة متصلة من الأحداث. بل هى مسيرة شاقة مليئة بالتحولات. تفاوتت شدتها حسب الظرف السياسى والاقتصادى الذى تمر به بلادنا وقتها. ذاقت طعم الانهيار ومخاطر الاندثار. قاومت الخطر الوجودى بقوة ولم تستسلم. وبعزيمة خطت بدايات نهضة متصاعدة رويدا، تسير ببطء لكن بثبات، حتى بلغت ذروتها اليوم ونحن على مشارف لحظة تاريخية كبرى، يتتبع خطاها العالم أجمع.

 

وينتظر بكل الشغف افتتاح المتحف المصرى الكبير، الذى ليس كمثله متحف من قبل. ومعه آن الأوان كى تحتفى مصر بما تملك، وأن تكتب صفحة جديدة من صفحات كتاب الحضارة البشرية، تملؤها باسم كل قطعة أثرية نجحت فى اكتشافها، وكل تمثال خرج بطريقة غير شرعية وعاد إلى وطنه، وكل متحف فتح أبوابه، وكل موقع أثرى عاد إليه مساره. عن القصة المصرية التى لم تمت وظلت تحيا فى ذاكرة الإنسانية محفورةً فى الوعى البشري. وتكشف بصدق كيف حاولت إنقاذ آثارها من الضياع، وكيف نجحت فى بعثها من جديد، أكثر حياةً، وأقوى حضورًا، مما كانت عليه يوم وُجدت أول مرة. وتلك هى عظمة الآثار المصرية على مرّ العصور، تعيش أكثر من حياة كأنها لم تُدفن يومًا. تعود من رمضائها لتُبعث من جديد بعد كل موجة نسيان أو إهمال. غير أن ما جرى خلال الاثنى عشر عامًا الأخيرة، لم يكن بعثًا معتادًا، كان أقرب إلى معركة بقاء طويلة الأمد، صامتة أحيانًا، صاخبة أحيانًا أخرى، لكنها حتمًا لم تكن بلا ثمن.

بدأت معركتها الوجودية مع مطلع عام 2011 حيث أصبحت آثار مصر أكبر الخاسرين فى خضم فوضى الانهيار الأمني. الحكاية ليست فقط عن تعرضها لجرائم السرقات المنظمة أو عمليات النهب عبر التنقيب غير الشرعي، بل عن الشروخ التى ظهرت فى العلاقة بين المصريين وتاريخهم، عندما سقطت هيبة السلطة وتراجعت خطوط الدفاع الأمنى عن المواقع الأثرية. وقتها اختلطت أحلام الثراء السريع برُكام الجدران القديمة. فى وسط مناطق أثرية عتيقة مثل «تل بسطا» وهضبة «سقارة» وغيرها من المواقع التى لا يعرفها إلا المهووسون بالكنوز. كانت أيادى النهب تنبش الأرض بلا علم ولا رحمة. تستخرج تراث الأجداد وتأخذه عبر طرق التهريب والاتجار غير المشروع بشكل أكبر من أى وقت مضى.

وفى القاهرة، كان المتحف المصرى بالتحرير يفقد دوره بهدوء، يتحوّل إلى مزار تقليدي. وبالرغم من تعرضه لهجوم شرس إبان أحداث 25 يناير وما تبعها من اضطرابات. فإنه واصل أداء عمله فى صمت، بينما تنظر الدولة إلى مشروع آخر طال انتظاره. المتحف المصرى الكبير، الذى بدأ حلمه مطلع الألفية، وكاد يتحول إلى مجرد سراب أو حلم على الورق.

فى الوقت نفسه، كانت وزارة الآثار تحاول استرداد ما تسرب من القطع النادرة. لم تكن تلك معركة سهلة، لكنها معركة طالت كبرياء الدولة، حتى عاد تابوت «نجم عنخ» الذهبى من متحف المتروبوليتان بعد جهد دبلوماسى أثمر عن اعتراف نادر. وبعده عادت آلاف القطع الأثرية إلى وطنها، ولايزال هناك عدد منها تتنظر مصيرها.

وبحلول 2014 فصاعدًا، أخذت الصورة تتبدل، فلم تكن 30 يونيو مجرد ثورة على نظام حاكم رفضه شعب مصر، لكنها كانت ثورة على كثير من الأوضاع والأحوال، التى عاشتها الدولة ككل. وجاءت آثار مصر فى المقدمة وتبدلت معها علاقة الدولة الحديثة بآثار الجدود والآباء الأولين. أربعة ملفات حيوية تخص الآثار المصرية تعاملت الدولة معها بشكل تكاملى وبطريقة مغايرة لما كان سائدا من قبل. بدأتها باستكمال مشروعات الترميم وافتتاح المتاحف وفى الوقت نفسه وضعت نصب عينيها فكرة الاستثمار والتسويق خاصة مع إعادة تطوير المناطق الأثرية. وهو الأمر الذى تبعه اتخاذ قرار دمج وزارتى السياحة والآثار لتمثلا عملة واحدة فى التعامل مع الآثار المصرية وتحويلها إلى مقاصد سياحة عالمية.

عادت عجلة العمل للدوران مرة أخرى ببطء، مشروعات الترميم التى توقفت بفعل الفوضى بدأت تعود إليها الحياة، منها هضبتا أهرامات الجيزة وسقارة، الكنيسة المعلقة ومنطقة مجمع الأديان، القاهرة الإسلامية، المعبد اليهودى بالإسكندرية، طريق الكباش ومدينة الأقصر، مواقع «تل بسطا» و«صان حجر»، المنيا ومناطق «تونة الجبل» وجبل الطير ومقابر «بنى حسن» وتل العمارنة، وآثار سوهاج وقنا. بدأ الحجر يستعيد صلابته ويسترجع هيئته وهيبته.

وانطلق الحراك من العاصمة ليصل إلى الأطراف كى ينال كل ذى حق حقه. وحتى لا تظل القاهرة هى الحاضنة لكل الفرص السانحة منفردة. فأخذت أقاليم مصر نصيبها من العدالة الأثرية. ومن هنا جاءت فكرة إقامة المتاحف الإقليمية. من متحف مرسى مطروح وحتى متحف سوهاج، وظهر متحف الغردقة، وعاد متحف شرم الشيخ من النسيان، كذلك متاحف طنطا وكفر الشيخ واليونانى الرومانى بالإسكندرية ومتحف المركبات الملكية فى منطقة بولاق أبو العلا. فلكل مدينة حكاية تستحق أن تُروى ولكل منطقة ذاكرتها يجب استرجاعها واستعراضها ضمن فلسفة سيناريو عرض متحفى لا داخل غرف المخازن المظلمة. وطالت يد الحراك عددا من المواقع الأثرية منها استكمال مشروعات تطوير مدينة رشيد واعتبارها متحفا مفتوحا للآثار، وإحياء مسار العائلة المقدسة عبر الأراضى المصرية.

ويظل ميدان التحرير فى قلب القاهرة من أهم المواقع التى طالتها يد التطوير ويمثل نموذجا يحتذى به يكشف عن نجاح العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص فى الاستثمار والتطوير. هناك يطل المتحف المصرى أقدم متاحف العالم بعظمة بنائه وما يمتلكه من قطع أثرية فريدة. كما تشاركه مبانى القاهرة الخديوية العريقة والتى عادت برونقها وجمالها من جديد. وفى القلب تتصدر بشموخ مسلة «صان الحجر» التى تحمل اسم ملك ملوك مصر رمسيس الثانى ومن حولها ارتصت الكباش تأكيدا على التواصل الحضارى الممتد على أرض الأجداد وعبر آلاف السنين.

كما كشف عدد من المشروعات عن حجم اهتمام الدولة بتاريخها وتراثها الإنسانى ومنها عودة الروح إلى المعبد اليهودى بالإسكندرية، وافتتاح منطقة آثار سقارة بعد ترميم هرم الملك «زوسر» المدرج. حيث بلغت ميزانية ترميمه أكثر من 104 ملايين جنيه. الى جانب فتح هرم اللاهون بالفيوم للزيارة لأول مرة منذ اكتشافه عام 1889. وفتح هرم الملك «سنفرو» المنحنى وهرم «الكا» العقائدى بدهشور للزيارة.

وفى باب الخلق يقف متحف الفن الإسلامى شاهدا على قوة رد الدولة المصرية على جرائم الإرهاب التى طالته فى 2014 ودمرت مبناه وعددا من مقتنياته النادرة. وجاء افتتاحه فى يناير 2017 بعد إعادة تطويره وترميمه بالكامل دليلا على حجم قوة الدولة المصرية.

وبحلول 2020 كتم العالم أنفاسه بعد اجتياح فيروس كوفيد- 19. قامت المتاحف والمناطق الأثرية حول العالم بغلق أبوابها وتوقفت الزيارات. حتى البعثات العلمية الأثرية جمعت فريق عملها ورحلت عن مواقعها الأثرية. وكاد الركود يُطفئ جذوة الحراك. لكن المفارقة أن الأزمات فى حضرة الحضارة المصرية، تتنشط معها غريزة البقاء. وهو ما قامت به وزارة السياحة والآثار وقتها عندما استغلت الفرصة لإطلاق محتوى رقمى يقدم جولات افتراضية للمقابر والمعابد والمتاحف. وهى الخطوة التى أعقبها القيام بعمليات توثيق إلكتروني. ومثلت بذرة لرؤية حديثة تأخرت كثيرًا. فلم يعد الاستمتاع بكنوز الآثار المصرية حصرياً لمن يقف أمامها.. بل باتت متاحة لكل من يريد تأملها بعين المعرفة من أى مكان فى العالم.

وفى أبريل 2021 خرجت مصر من أزمة الركود بموكب ملكى لا مثيل له.. أضاء سماء القاهرة وأشعل فتيل الشوق لزيارة مصر وآثارها مرة أخرى. حيث خرج موكب المومياوات الملكية من بوابات المتحف المصرى المطل على ميدان التحرير ليصل إلى المتحف القومى للحضارة المصرية. سار فى رحلة خالدة ليظل العالم أجمع يتحاكى عن عظمة المصرى الذى لا يدفن ملوكه بل يعيد تتويجهم مرة أخرى بعد آلاف السنين. حيث بدت العربات التى تحمل صورة كل ملك تنساب كأنها تعرف الطريق، تلاحقها أنشودة «إيزيس» التى سجلتها الملكة «حتشبسوت» على جدران معابد الكرنك، لتستعيد اللغة المصرية القديمة مهابتها وسحرها، ويفتح من بعدها المتحف القومى للحضارة المصرية أبوابه أمام الزوار للمرة الأولى ويصبح أيقونة للعرض والاحتفاء.

ثم جاء مشروع إحياء طريق الكباش ليفتح باب الجدل حول خطورة ترك كنوز مصر تحت أطلال المدن، وكيف يمكن استعادة مجدها مرة أخرى. كانت الإجابة فى الأقصر، فالعمل الجاد والإصرار يفتح باب عودة الحياة ولو بعد حين. المشروع استغرق سنوات طويلة لإزالة التعديات والركام حتى تتراصّ تماثيل أبو الهول أعلى طريق «الأوبيت». حتى بات السير وسط الطريق المطل على الصرح الجنوبى لمعبد الأقصر أشبه بالطقس الجديد لمن يزور الجنوب.

وفى القاهرة، ظل المتحف المصرى الكبير يواصل بناء نفسه فى صمت، عامًا بعد عام، قطعة بعد أخرى، تجهيزا بعد تجهيز، عند أقدام أهرامات ملوك الدولة القديمة يحل ملكا بين متاحف العالم ليعيد صياغة الوعي. ويصبح شاهدا على ما عانت منه مصر على مدار السنوات السابقة. لم يكن نهاية المطاف، بل بداية لمسار مثمر طويل يستحق أن يُروى. سنوات من الانتظار ثم العمل ثم الانتظار ثم العمل كأنها دائرة زمن لا تنتهي.. واليوم ينتظر العالم كله ليرى المجموعة الكاملة لمقتنيات الملك «توت عنخ آمون» ذات سحرها الذهبي.. قناعه الفريد وتوابيته الذهبية وأسرته المذهبة، مجوهراته وحليه وكل مقتنياته التى تخرج للعرض المتحفى للمرة الأولى والتى لم يرها أحد من قبل. وقطع أثرية أخرى لم ترها عين الزوار من قبل متراصة داخل قاعات وفاترينات تتنفس الذكاء الاصطناعي. وسيناريو عرض لا يعتمد على التكديس، بل على السرد الذى يحكى عن مصر القديمة كحضارة إنسانية حيّة.

وخلال السنوات الخمس الأخيرة نال ملف الاستثمار فى الآثار اهتماما كبيرا من الحكومة المصرية واعتبرته من أهم أولوياتها. بدأتها بدمج وزارتى السياحة والآثار، ثم وضعت ضوابط لتنظيم عمليات الاستثمار داخل المواقع الأثرية أهمها تحقيق إيرادات دون المساس بالأثر بشكل يتماشى مع معايير أمن وسلامة متاحفها ومواقعها الأثرية، مما دفعها للقيام بطرح 21 موقعا أثريا داخل سبع محافظات كمرحلة أولى من أجل حث المستثمرين من القطاع الخاص على التقدم وضخ الأموال والإمكانات بغرض الاستثمار فى بقية المواقع الأثرية والثقافية فى مختلف أنحاء الجمهورية. وذلك من أجل بناء شبكة خدمات متكاملة يكون دورها تقديم تجربة زيارة مريحة وممتعة. وهو ما يطلقون عليه «التنمية المستدامة» كى تحتل مصر المكانة التى تستحقها بين الدول السياحية الكبرى، مثل إقامة المطاعم، البازارات، فنادق البوتيك وغيرها مما يقدم فرصاً ضخمة للاستثمار فى مصر أملا فى منح السائحين المهتمين بالتراث الثقافى تجربة فريدة.

خاصة أن هناك سابقة أعمال وشراكات لتقديم وتشغيل الخدمات فى مواقع أثرية هامة. وهو القرار الذى نجح فى اجتذاب عدد من رموز القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب للعمل مع قطاعات السياحة والآثار, وطال عدداً من المواقع الأثرية وفى مقدمتها هضبة أهرامات الجيزة التى باتت محط أنظار العالم. إقامة عدد من المطاعم عالية الجودة، حفلات غنائية وموسيقية، عروض فن تشكيلي، وعروض أزياء عالمية وغيرها من المظاهر التى تمثل إيرادات مادية كبيرة وغير مسبوقة. كما وافقت على ضخ عدد من الاستثمارات الجديدة داخل مواقع أثرية مثل هضبة سقارة، قلعة صلاح الدين الأيوبي، المتحف المصرى بالتحرير، قصر محمد على بشبرا، قصر عابدين، قصر البارون وغيرها.

وبالرغم من أن الدولة انتفضت لحماية الآثار المصرية عن طريق تغليظ العقوبات لكل من تسول له نفسه العبث بممتلكات مصر الثقافية وتراثها القومى والحضارى والتداول غير المشروع لها. حيث وافق مجلس النواب نهائيا على مشروع قانون مقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 117 لعام 1983 لحماية الآثار. وتضمن تشديد عقوبة كل من حاز أو أحرز أو باع أثرا أو جزءا من أثر خارج مصر بصالات العرض بالخارج بعقوبة السجن المشدد وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه.

ومع ذلك، ستظل الأسئلة الكبرى مفتوحة: كيف نحمى المواقع الصغيرة من التعديات اليومية؟ وكيف نمنع المتاجرين بتاريخنا من مواصلة التهريب غير الشرعي؟ وكيف نضع تاريخنا العظيم ضمن مناهج التعليم الأساسي؟ كيف يمكن تنمية وعى الطفل المصرى الذى قد يمر بجوار تمثال أو قطعة أثرية دون أن يعرف قيمتها؟ والأهم كيف نحول كل ذلك الزخم إلى ثقافة مستدامة لا تموت بانتهاء الاحتفالات؟ قد تكون الإجابة ليست جاهزة. لكنها تبدأ من هنا، من الاعتراف أن ما نملكه لا يشبه شيئًا آخر فى العالم، وأن حمايته تستمر بما نُبقيه حيًا فى العقول والقلوب.

 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة