لا شك أن مصر تعبر بأحلامها ومستقبلها من دوامة العالم الثالث إلى مصاف الكبار الذين يتبادلون مقاعدهم فى ظل النظام العالمى الجديد، وظهر جديًا أن ما تدرسه مصر من فترة فى إنشاء مركز لوجتسى للحبوب فى ميناء دمياط أو أحد موانئ المنطقة الاقتصادية لمحور قناة السويس لاستغلالها لموقعها الجيوسياسى لإعادة التصدير لدول القارة الإفريقية أو غيرها.
وبدأت الجهود والمساعى الكثيرة تعلن خلف الأبواب عن انتواء روسيا مشاركة مصر فى إنشاء المنطقة وتزويدها بالحبوب، وأن الخطة الاستراتيجية التى كانت قيد الدراسة منذ فترة طويلة والهدف منها زيادة المخزون الاستراتيجى من السلع الأساسية، وفى الوقت نفسه حل مشكلة الأمن الغذائى الإفريقى بإعادة التصدير لإفريقيا وغيرها باعتبار أن مصر هى البوابة الذهبية للقارة الإفريقية.
وكانت مصر قد أعلنت أمام الدورة 77 لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك منذ عامين استعدادها للتعاون مع المجتمع الدولى من أجل إنشاء مركز دولى لتخزين وتوريد تجارة الحبوب.
وأعلن الرئيس الروسى من قبل وزير خارجيته استعداد روسيا توريد الحبوب مجانًا إلى 6 دول إفريقية هى بوركينا فاسو وزيمبابوى ومالى والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا بحجم يتراوح بين 25 إلى 50 ألف طن لكل منها، وذلك تعقيبا على انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب التى تسمح لأوكرانيا بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الذى أصبح ملتهبا بفعل الأوضاع الجيوسياسية للحرب الروسية الأوكرانية .
فالأجهزة المصرية تعمل على قدم وساق فى كل القطاعات التابعة لهذا الملف من أجل إنشاء مركز دولى لتجارة الحبوب فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وهى تهدف إلى تحقيق السيادة الغذائية التى تحدثنا عنها كثيرا وتوفير السلع الأساسية للسوق المصرى مع زيادة مدة المخزون الاستراتيجى من السلع، وفى الوقت نفسه استغلال الفائض لتصديره للدول المجاورة فى إفريقيا استغلالا لتعدد وسائل وشبكات النقل الحديثة التى وفرتها الدولة المصرية، والتى سهلت الربط مع عدة جهات تصديرية، ولا شك أن الإسراع فى الربط القادم بين القاهرة وكيب تاون والذى سيربط شمال القارة الإفريقية بجنوبها سيسهل أمر تفصيل دور هذا المركز اللوجستى.
بداية الحكاية تحتاج منا إلى حديث طويل يبدأ من ما تتبعه الدولة المصرية، وهو التفكير بطريقة استراتيجية لقد كانت الأزمة الروسية الأوكرانية أزمة كاشفة، أثبتت أن مصر تسير على النهج الصحيح، فقد اتخذت الدولة المصرية العديد من الإجراءات لتأمين المخزون الاستراتيجى من محصول القمح، حيث كان للدولة المصرية رؤية استشرافية، خاصة أن الاحتياطى الاستراتيجى من القمح كان لا يكفى لمدة 12 يوما فى 2017.
أما الآن فقد وصل الاحتياطى من القمح لاحتياجات 105 ملايين مواطن مصرى لأكثر من أربعة أشهر حتى الآن، مع العلم أنه يصل إلى 6 أشهر فى موسم الحصاد، وذلك كله يرجع إلى جهود الدولة فى التخطيط على المدى البعيد لتوفير أكبر قدر من المخزون الاستراتيجى للقمح باعتباره أحد المحاصيل الاستراتيجية، فهو المصدر الرئيسى لصناعة الخبز الذى يعد الغذاء الأساسى للغالبية العظمى من المصريين لتأتى فكرة التوسع فى إنشاء الصوامع عام 2015 .
المشروع القومى للصوامع: أثبتت الدراسات التى قام بها المركز المصرى للفكر والدراسات أنه فى عام 2007 كان عدد الصوامع فى مصر 28 صومعة، وهو عدد قليل جدًا ولا يكفى للتخزين، وكان يتم التخزين فى شون، ما ترتب عليها أن نسبة الهدر كانت تتراوح بين 10 فى المائة إلى 15 بالمائة، كما كانت تصل السعات التخزينية فى عام 2014 إلى ما يقرب من 1.2 مليون طن تخزين، ويبلغ الاستهلاك من القمح التموينى شهريًا ما يقرب من 800 ألف طن أى أن الاحتياطى الاستراتيجى، والذى يمكن تخزينه فى الصوامع وقتها يكفى لمدة شهر وأسبوع وباقى كميات القمح يتم تخزينها فى الشون.
وعلى مدار السنوات الماضية كانت الأقماح تتعرض للهدر فى كميات كبيرة تتراوح بين 600 ألف إلى 800 ألف طن قمح سنويًا بداية من الحصاد والنقل وصولًا إلى التخزين، وبالتالى شكل هذا الإهدار عبئًا متزايدًا على الاقتصاد المصرى وإهدارا للموارد دون الاستفادة منها، لذلك كان لابد من تحسين ظروف التخزين وزيادة عدد الصوامع لذا قامت الدولة المصرية بالتوسع فى إنشاء صوامع حديثة تعمل وفق أحدث نظم التكنولوجيا بجانب تطوير الشون الترابية وتحويلها إلى شون حديثة متطورة .
وانطلق تنفيذ المشروع على مساحة تقدر بنحو 20 ألف متر للصومعة الواحدة حتى تم إنشاء نحو 80 صومعة لتخزين القمح والغلال بسعة تخزينية تصل 3.6 مليون طن بدلًا من 1.6 مليون طن موزعة على 17 محافظة وهى الجيزة، الدقهلية، شمال سيناء، الغربية، المنوفية، الشرقية، البحيرة، الإسكندرية، قنا، الوادى الجديد، القليوبية، بنى سويف، الفيوم.
ويتم تشغيلها من خلال غرفة التحكم التى تمكن المنظومة الجديدة من إخراج الكميات المطلوبة من الأقماح دون هدر وتصل المدة، التى يمكن خلالها الحفاظ على جودة القمح فى الصوامع إلى سنة ونصف السنة وتكون مخزنة بجودة عالية مع الحفاظ على درجة الرطوبة ودرجة الحرارة وفقًا للنظم الآلية داخل الصومعة.
وفى إطار هذا المشروع والعمل على زيادة السعات التخزينية للقمح وضعت وزارة التموين من خلال الشركة القابضة المصرية للصوامع والتخزين التابعة للوزارة خطة للتخزين بأقل نسبة فاقد ممكنة، وتم إنشاء حوالى 35 صومعة جديدة خلال الفترة من 2014 حتى عام 2014 تابعة للشركة القابضة للصوامع والتخزين، حيث بلغ عدد الصوامع التابع لها 44 صومعة حتى عام 2021 بدلًا من 9 صوامع قبل عام 2014، كما تم تطوير الصوامع المملوكة للشركة القابضة للصناعات الغذائية بعدد 21 صومعة لتواكب التقنيات الحديثة للتخزين والحفاظ على سلامة وجودة المخزون، وبلغ الإنتاج الكلى من القمح المحلى فوق الــ12 مليون طن، وتستهلك مصر ما يقرب من 16 مليون طن ووصلت مصر إلى حوالى 75 فى المائة من الاكتفاء الذاتى من القمح، ويتم استيراد بقية الكمية من الخارج عن طريق القطاع العام والخاص .
ونجحت الدولة المصرية فى السيطرة على الفاقد والهدر من كميات القمح التى كنا نفقدها خلال السنوات الأخيرة، وقد وصلت الدولة بجهدها الفنى والاستراتيجى إلى معادلة حول احتياجات الدولة المصرية لتوفير المخزون الاستراتيجى من سلعة القمح، ولذلك كان المشروع القومى للصوامع، لبنة أساسية للمركز العالمى لتداول الحبوب عالميًا .فالمشروع القومى يمثل بنية تحتية قوية، بالإضافة إلى التكنولوجيا، ما يؤدى إلى مواجهة الأزمات العالمية وتحقيق السيادة الغذائية والمخزون الآمن من الغذاء .
إن المشروع الخاص بالمركز اللوجستى لتجارة وتخزين الحبوب، والذى يعتمد على الاستفادة من موقع مصر الجغرافى وإنشاء المشروع داخل الحيز الخاص بمنطقة ميناء دمياط والجزء الآخر خارج الميناء لربط البحر المتوسط بنهر النيل، خاصة مع ما يتميز به الميناء من وجود سكة حديدية بطول 11 كم تمتد خارج الميناء والمشروع سيتضمن إضافة مساحة جديدة تقدر بنحو 3 ملايين متر إلى الميناء، وهذا المشروع سيوفر طاقة تخزينية تصل إلى 7.2 مليون طن سيتم إدارتها بطريقة احترافية للوصول إلى حجم التداول المتوقع لأنظمة النقل متعدد الوسائط بالمشروع إلى حوالى 65 مليون طن سنويًا .
مشروعات مكملة: لاشك أن الحكومة ستعمل ضمن المشروع على إنشاء مراكز لتصنيع مواد غذائية قائمة على الغلال مثل السكر والزيوت وغيرها إلى جانب إنشاء مصانع لمنتجات ذات قيمة مضافة معتمدة على تلك المواد الغذائية، وسوف تستفيد من هذه الصناعات من هذا التجمع خاصة أنها لن تكون فى حاجة إلى إنشاء طاقة تخزينية خاصة لها .
ويعقب إنشاء المركز اللوجستى إنشاء سوق لصفقات التبادل التجارى الدولى فعقب إنشاء هذا المركز العالمى والمشروع سيتم ربطه بالسوق الداخلى عبر تطوير منظومة النقل النهرى، خاصة مع إمكاناتها المتمثلة فى زيادة قدرات الشحن، حيث تستطيع سفن النقل النهرى تحميل 300 طن فى المرة الواحدة مقابل 30 طنا فقط حجم حمولة مبادرة النقل التى تستخدم فى الطريق البرى .لاشك أن نمو الأسواق الاستهلاكية فى دول الجوار تساعد على نجاح المشروع بشكل كبير، حيث يتخذ المشروع حوالى عامين فى الإنشاء مع إقامة تحالف استراتيجى يضم المشاركين بالمشروع .
إن الدولة المصرية تفكر بطريقة استراتيجية، لذلك فهى تعد إقامة عدد من الصناعات على هامش المشروع، وأن عوائد هذا المشروع سيكون له أكثر من مصدر منها العائد اللوجستى الذى يغطى 40 فى المائة من تكلفة هذا المشروع فى حين يتمثل المصدر الثانى فى عائد التجارة الدولية فى الحبوب، والثالث من صناعات القيمة المضافة المرتبطة بالمشروع. وهناك نقطة مهمة وهى أن المركز اللوجستى لتداول الغلال يحرر مصر من الضغوط الدولية الخاصة باستيراد الحبوب، ويسهم فى حل المشكلات المرتبطة بالحبوب فى العالم أجمع، ويعمل على ربط دول التصدير ومعظمها فى أوروبا وأمريكا وشرقى آسيا بمناطق الاستيراد وأبرزها فى البحر المتوسط وإفريقيا والمشروع.
كما أكدت الحكومة منذ التفكير به فى بداية عام 2014 وأنها تستهدف من المشروع 50 فى المائة من تجارة القمح الدولية و20 بالمائة من تجارة الحبوب عالميًا والمشروع فى حد ذاته يقفز بمصر إلى المركز الثالث عالميًا فى تداول الحبوب مع إجماع الخبراء على أن إنشاء هذا المركز اللوجستى يحرر مصر من الضغوط الدولية للغلال بأنواعها وأسعار الحبوب عالميًا، فهذا المركز يؤدى إلى تحويل مصر إلى مركز للتداول والتخزين وأنشطة القيمة المضافة من خلال التصنيع والتخزين والتغليف والتعبئة للمواد الغذائية ذات الطابع الاستراتيجى لتحقيق الأمن الغذائى للدولة ولدول الشرق الأوسط وإفريقيا على الأقل، ويتضمن المشروع مراكز الإنتاج والاستهلاك ومسارات تداول الحبوب عالميًا .
هذا المشروع سينقل مصر من مجرد مستورد للحبوب إلى محور رئيسى لبيعها وشرائها وبيعها وتصنيعها على مستوى العالم بهدف إمداد المنطقة باحتياجاتها من الحبوب، وستكون مصر فى المركز الثالث عالميًا بعد شيكاغو وسنغافورة فى تجارة وتداول الحبوب.
المشروع القومى للصوامع: مصر تمتلك المؤهلات والقدرات التى تؤهلها لاستضافة مركز عالمى لتخزين الحبوب، فنحن نمتلك خبرات كبيرة فنحن خزائن الأرض، ومن قبل فعلها سيدنا يوسف بتخزين القمح والاستعداد للسنوات العجاف السبع، وفى الوقت الراهن نمتلك قدرات هائلة للتخزين بالمشروع القومى للصوامع المصرية التى من خلالها نتمتع بطاقة تخزينية وقدرات تكنولوجية كثيرة وكبيرة، وذلك بعد أن كان التخزين فى حد ذاته يمثل مشكلة وجاءت الصوامع لتغطى ما يتم استيراده من الحبوب من الخارج .
المشروع القومى للصوامع هو واحد من المشروعات القومية والخطط الاستراتيجية للدولة المصرية للحفاظ على الغذاء وتأمين المخزون الاستراتيجى منه وتضمن إنشاء 80 صومعة، حيث جاءت بسعة تخزينية تقدر بنحو 3.4 مليون طن موزعة على 17 محافظة، فمصر هى الأقدم فى دول العالم فى مسألة تخزين الحبوب وتأمين احتياجاتها، وبالتالى لديها الاستعداد والخبرات لتكون مركزًا عالميًا لتخزين وتوريد وتداول الحبوب وتأمين إمدادات الحبوب لمختلف دول العالم، ومصر لهذا الطرح العالمى تضمن تأمين احتياجاتها وفى نفس الوقت تضمن بشكل استراتيجى دائم ومستمر لتأمين احتياجات العالم أيضًا من أجل تخطى أى أزمة عالمية للحبوب والغذاء وآخرها الأزمة الروسية الأوكرانية .
تشجيع الاستثمارات: لاشك أن هذا الطرح المبتكر للقيادة السياسية أمام أكبر تجمع لمجلس إدارة العالم مجموعة العشرين تأتى من الابتكار السياسى للقيادة السياسية فى جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية لهذا الصرح العالمى وتدفق الاستثمارات فى هذه الحالة ليس لصالح مصر فقط، وإنما لحل مشكلة العالم أولًا وزيادة تدفق العملة الأجنبية وزيادة الحصلة الدولارية .
إن مصر أصبحت داخل التكتلات الاقتصادية تشكل مكانًا مهما، سواء أنها تحمل عضوية كثير من التجمعات القارية والإقليمية، بالإضافة إلى البريكس مؤخرًا، ولديها مع ذلك كل الإمكانات اللوجستية، وهو ما يؤهلها فى استضافة مثل هذا المركز العالمى لتخزين الحبوب، ما يؤدى أيضًا فى النهاية إلى تنوع الهيكل السلعى للصادرات المصرية وتحقيق التكامل فى سلاسل الإمداد .
وبعد كل ما سبق نقول إننا نرى مصر الجديدة بالفعل التى تدخل التكتلات الاقتصادية بخطى واثقة، وأصبحت الآن صاحبة التفكير بطريقة استراتيجية تستشرق لمصر فيها مكانة هى تستحقها بالفعل، فنحن نستحق بجدارة أن نكون مخزنًا للتجارة العالمية فى تخزين الحبوب، خصوصًا أن دول البريكس ومنها روسيا والهند تزرعان القمح أيضًا وعندما يكون لدينا مركز عالمي لتخزين الحبوب لهاتين الدولتين وغيرهما، وهذا سيوفر علينا أمورا كثيرة فى توفير العملة الصعبة ونهوض الجنيه والقضاء على هيمنة الدولار وتجارة الحبوب التى حولت البحر الأسود إلى نار ملتهبة «دائمًا مصر جزء من الحل».