مع بدء العمليات العسكرية فى غزة يوم السابع من أكتوبر الماضى وشدة القصف الإسرائيلى للمدنيين، انتشرت الدعوة فى مصر وعدد من الدول العربية إلى مقاطعة البضائع والمنتجات التى تحمل اسم شركات دولية، خاصة أن بعض تلك الشركات عرف عنها التبرع ماليا لصالح إسرائيل، ويجب القول إن المقاطعة نجحت نجاحًا كبيرًا، محلات كبرى لم تعد تجد إقبالًا، بعضها اضطرت إلى تقديم خفض على السلع، لجذب المواطن والمشترى، لكن هذا لم يجد نفعًا، المواطنون تعاملوا بجدية شديدة مع دعوة المقاطعة ونجحت إلى حد كبير، بعض هذه الشركات، أعلنت أنه ليست لها علاقة بإسرائيل ولا تقدم دعمًا لها.
منذ عدة أيام كنت فى أحد محلات السوبر ماركت، دخلت سيدة شابة ومعها طفلاها عائدين من المدرسة وهى تشترى بعض الأشياء، وخاطبت البائع أريد كل شىء مصرياً، وبادرت برد بعض أنواع الشيكولاتة والبسكويت التى تحمل أحد الشعارات الأجنبية.
حملة المقاطعة استعانت بشعار حاد «هو هل قتلت فلسطينيًا اليوم» أى أن ما تدفعه من مال سوف يرتد رصاصا بحق الفلسطينيين وسلاحًا بيد الجنود الإسرائيليين.
حذرت بعض الأصوات من المقاطعة ولديهم وجهة نظر متكاملة فى هذا الموضوع، أهمها أن الشركات لا تحمل غير الاسم الأجنبى، لكن أكثر من 90 فى المائة من العاملين بها هم مواطنون وشبان مصريون، قدر البعض عدد شباب «الدليفرى» فى مطاعم ومحلات القاهرة فقط بحوالى المائة ألف، وأن العاملين بهذه القطاعات فى أنحاء الدولة حوالى 3 ملايين مواطن ومواطنة، وهذا يعنى أن المقاطعة سوف تدفع بهؤلاء الشباب إلى جحيم التعطل والبطالة.
غير البضاعة فإن تلك المقاطعة يمكن أن تخلق حالة من القلق والخوف للمستثمر الأجنبى، فيتردد فى القدوم إلينا ومن ثم يتعطل الاستثمار وتتوقف كثير من خطط الاقتصاد والإنتاج فى أنحاء الجمهورية.
ويخشى هؤلاء من أن شبح البطالة وتراجع الاستثمار قد تكون له عواقب وخيمة اجتماعيا واقتصاديا علينا، ومن ثم يطالبون بالتريث فى هذه المسألة وإعادة النظر فى عملية المقاطعة حتى لا نكون كمن ينتحر أو يؤذى نفسه، متصورًا أنه يؤدى واجباً وطنياً، لا ينكر هؤلاء الغضب والألم مما تقوم به إسرائيل والتعاطف مع الفلسطينيين وأهل غزة، لكن التعاطف لا يجب أن يصبح عقابا فعليا لنا نحن اقتصاديا واجتماعيا.
الذين يتبنون المقاطعة يدركون كل هذه المخاوف والمحاذير، لا ينكرونها جميعا، لكنهم يرون أن الدم الذى يسفك ظلما والأرواح التى تهدر والأحياء التى تدك بكاملها فوق رءوس المدنيين، تستحق التضحية والمعاناة، وما يحدث من جراء المقاطعة يمكن أن نتحمله بعض الوقت لكنه يحمل رسالة واضحة للعالم أننا نرفض ما يجرى من سفك للدماء البريئة وندعو لإيقافه ثم العمل على منح الفلسطينيين حقوقهم فى الاستقلال والكرامة الإنسانية وبناء دولتهم المستقلة.
ويجب القول إن المقاطعة حدثت من قبل، مع كل مرة يقع فيها عدوان إسرائيل على الفلسطينيين وفى كل مرة تنجح، الفارق هذه المرة أن العدوان شديد الفجاجة والواضح أنه يستهدف المدنيين والأحياء السكنية فقط، فضلا عن استهداف المدارس والمستشفيات بما لها من خصوصية وحماية فى القوانين الدولية، وهكذا نحن أمام عملية تصفية متعمدة لشعب بأكمله وإبادة جماعية لهم، والهدف دفع الأحياء من أهل غزة كى يهاجروا إلى مصر، ومن ثم تبتلع إسرائيل غزة، وهكذا فإن العدوان عمليا يستهدفنا نحن ويهدد أمننا القومى ويمس مشروعنا الوطنى والدولة المصرية.. ولما أعلنت مصر ذلك بوضوح بدا الأمر أمام عموم المصريين، قضية حياة أو موت، لذا المقاطعة جادة هذه المرة وظهر معدن المصريين الأصيل، تركوا المشروبات الغازية للشركات الكبرى وبحثوا عن المنتج المصري، حتى لو كان أقل جودة.
بعيدًا عما يجرى فى غزة وفلسطين فإن المقاطعة كانت مطلبا دائما لمفكرين وسياسيين وشخصيات عامة من دعاة بناء الاقتصاد الوطنى وتحقيق التنمية المستمرة، لم تكن الدعوة تحمل هذا المسمى حرفيا «المقاطعة» لكن ضرورة الاعتماد على المنتج الوطنى ودعم اقتصادنا.
ومن أسف أن تلك الدعوات فسرت على أنها انحياز إيديولوجى معين، وأنها لون من المعارضة السياسية وعنوان كراهية الغرب، تلك كانت فترة الانبهار بالغرب عمومًا، لكن المسألة كانت أبسط من ذلك بكثير، كان الهدف أن لا نكون أسرى اقتصاديًا لشركات عابرة للحدود، تبتلع أموالنا وأسواقنا، ثم تأخذنا فى طرق معادية لنا، وهذا ما يتكشف أمامنا الآن.
حين وقعت حرب روسيا - أوكرانيا قبل أكثر من عامين وقبلها موجة الإغلاق التى صاحبت «كوفيد - 19»، اكتشفنا جميعا أنه يكمن أن تأتى علينا لحظة لا يكون أمامنا بديل عن بناء الاقتصاد الوطنى والاعتماد على أنفسنا.
حين تم الإغلاق فى مطلع 2020 مع موجة «كوفيد - 19»، تعطلت طرق الاستيراد، أغلقت الأسواق العالمية، وهكذا كنا بصدد اختبار قاس فى أن يكون المنتج المصرى هو الأساس وعليه عمادنا، فى الطعام والغذاء أساسا ثم فى الدواء وبقية الأمور، وقد حققنا نجاحا فى تلك التجربة إلى حد كبير، ثم جاءت حرب أوكرانيا، حيث المصدر الرئيسى لنا فى استيراد القمح.. من روسيا وأوكرانيا معا، وتدخلت الحكومة لتشجيع الفلاح المصرى على زراعة القمح وتوريد القمح إلى وزارة التموين، وكعادته التاريخية لم يخذل الفلاح المصريين ولا الدولة المصرية، قدم أفضل ما لديه، وأمكن لنا عبور تلك الأزمة.
والآن نحن بصدد اختبار جديد، ليس فقط فى العدوان على غزة ولكن لدينا أزمة فى العملة الصعبة، وبعض المجرمين اتجهوا إلى خلق سوق سوداء للدولار وسائر العملات الأجنبية، ويمكن للأزمة أن تنتهى سريعًا، بحل ناجح وهو أن نحد من الاستيراد الذى يستهلك العملة الصعبة وأن نعظم الإنتاج.
لا ينكر منصف أن الحكومة والدولة اتخذت العديد من الإجراءات التى خففت من هذه الأزمة، لكن ماذا لو أن دعوة المقاطعة قد تم التقدم بها خطوة أخرى، وهى ضرورة وجود بديل وطنى للشركات الأجنبية التى نتعامل معها، ويستلزم ذلك أمر مهم فى البداية وهو أن نثق فى المنتج الوطنى ونلجأ إليه دون مقارنة بالأجنبى ولنا فى ذلك تجارب عديدة.
عقب «ثورة 19» أسس طلعت حرب بنك مصر ودعمه المصريون ونجح نجاحا كبيرا، فساهم فى تحقيق الاستقلال الاقتصادي، قام البنك بتأسيس العديد من الشركات ودعم الصناعة المصرية، المصريون ساندوا صناعاتهم، كان القماش المصرى فى العشرينيات والثلاثينيات أقل جودة من نظيره الإنجليزى وكان متاحًا فى الكثير من المحلات، لكن الأسر قاطعت الإنجليزى واتجهت إلى المنتج المصرى فنجح وتحسن وبدأ ينافس وصارت مصانع المحلة الكبرى عالمية.
منذ منتصف السبعينيات وعدد من المفكرين يحذرون من التبعية الاقتصادية لكن أخذت تحذيراتهم باستخفاف، الآن نحن نريد أن نطور فكرة المقاطعة، وليت لدينا عشرات طلعت حرب، لنؤسس شركات موازية تقدم السلع للمواطنين، خاصة فى مجالات الغذاء والشراب، هل يعقل أن نكون بلد النيل ونستورد زجاجات المياه للشرب، لا لشىء سوى التفاخر والتباهى بذلك، وهل يليق أن تعقد بعض الأفراح فى الفنادق الكبرى ويتفشخر أصحاب الفرح أن الطعام جاء خصيصا بالطائرة من العاصمة الفلانية والعلانية..؟!.
نحن بحاجة إلى صحوة ضمير وثورة وطنية تدفعنا إلى الاعتماد على أنفسنا، وليس فى ذلك دعوة للانعزال عن العالم ولا الانغلاق كما يخوفنا البعض، الرئيس عبدالفتاح السيسى يبذل جهدا ويلح على ضرورة توطين بعض الصناعات فى مصر، وضرورة أن نكف عن الاستيراد، حماية لرصيدنا من النقد الأجنبى، الصين نجحت فى ذلك وحققت طفرة اقتصادية كبرى، ليس الصين وحدها أمامنا كوريا الجنوبية وفيتنام التى دمرتها الطائرات الأمريكية لسنوات، الهند شريكتنا فى تأسيس دول عدم الانحياز، قررت أن تنافس هوليود، ذروة القوة الناعمة الأمريكية فأسست شركة اسمتها «بوليود»، استطاعت أن تنفذ إلى عدد من أسواق العالم وتقدم الثقافة الهندية للعالم، نحن لدينا رصيد كبير فى العديد من المجالات، كانت محلات جروبى تصدر الشيكولاتة إلى جينيف نفسها، وقماش لينوه الشوربجى، كان متميزا عالميًا، لا نذكر ذلك بكاء على الأطلال، ولا حزنا على لبن مسكوب، بل دعوة إلى النهوض من جديد، ولدينا قيادة سياسية تنادى بذلك كل يوم، ومصر تنادينا.
فى أثناء الحرب العالمية الثانية كان الطيران الألمانى يدك العاصمة البريطانية لندن، وحدثت أزمة فى السكر، لم يعد المواطن يجده، وطرق الاستيراد مغلقة بسبب الحرب والاقتصاد البريطانى منهك فى الحرب، بدءوا فى توزيع السكر بالكوبون، كمية محدودة أسبوعيًا وفى الطابور، ثم انقطع السكر تمامًا، هنا طلب الزعيم البريطانى دستون تشرشل من المواطنين استبعاد السكر، فراحوا يشربون الشاى بدون سكر، واليوم صار الشاى الإنجليزى يتميز فى العالم كله، أنه بدون سكر.
باختصار يمكن تجاوز الكثير من الأزمات وحماية الاقتصاد، نحتاج أن ننتقل خطوات إلى الأمام بدعوة المقاطعة، لا نجعلها مقاطعة بل استغناء تام عن كثير مما نستورده ونكف عن التوكيلات الأجنبية، وفشخرة البرندات العالمية، وأن يكون لدينا البديل المحلى بمواصفات جيدة. إذا فعلنا ذلك فإننا نوفر آلاف من فرص العمل لشبابنا فى مختلف المجالات والقطاعات، ونهبط بمعدل الاستيراد ونحقق معدلا كبيرا للتنمية.
يوما ما سوف تتوقف الغارات على غزة، لكن ماذا عنا نحن وعن اقتصادنا واستهلاكنا؟
تاريخيا تميزت القاهرة بمقاهيها، وكثير من الرحالة الأجانب والمستشرقين وضعوا دراسات حول تلك المقاهى وما تقدمه للمواطن وضرورتها الاجتماعية، يمكن القول إنه تم تقليد مقاهى القاهرة فى عدد من البلدان لا أقول العربية فقط، بل حتى بعض الدول الأوربية، تحديدا فى شرق أوربا، ناهيك عن دول آسيا، ولذا من المعيب أن نجد بعض المقاهى تحمل أسماء «يطلق عليها عالمية» أو برند فى مجالها وبدأت الحكاية بادعاءات اجتماعية مبالغ فيها، إذ إن البعض ما عادوا يفضلون كلمة مقهى وبحثوا عن اسم جديد، فراحوا يقولون «كافيه» وهكذا وجدنا الكافيهات التى تعد امتدادًا لسلاسل حول العالم، وتبين أن إحداها تدعم ماديا بناء المستوطنات فى الضفة الغربية، وبغض النظر عن الحرب الدائرة الآن، لا بد من وقفة اقتصادية.. وطنية.. إنسانية مع أنفسنا، لنحول المقاطعة إلى استغناء تام عن كل هذه المنتجات والمسميات وأن نقدم البديل المحلى، فنحمى اقتصادنا ونوفر فرص العمل لأبنائنا وشبابنا ونتحرر من الضغوط والاستغلال الأجنبى لنا، وفى النهاية حماية الوطن كله.
الحرب الدائرة الآن كشفت للجميع أن مصر مستهدفة، لكن بطرق ووسائل أخرى، حروب نفسية وأخرى اقتصادية ومالية، ناهيك عن الحروب السياسية، عصابات وميليشيات ترفع علينا مرة شعار حقوق الإنسان ومرة شعار المدنية والديمقراطية.. ولما وقعت الواقعة فى فلسطين، لزموا الصمت وابتلعوا ألسنتهم، وعلينا أن ندرك ذلك جيدًا، نحن طوال الوقت معرضون للضغط وعلينا أن نكون مستعدين، لدينا جيش وطنى قوى مجهز ومدرب على أحدث مستوى ومؤسسات دولة تعمل بدأب، ونحتاج اقتصادا قوميا، أقل اعتمادا على الاستيراد ويقوم على المنتج المحلى ونعتمد على أيادينا نحن.
أيها السادة لنطور المقاطعة إلى استغناء دائم وبناء اقتصاد وطنى قوى.