كانت صافية فى تصوفها.. عميقة فى إيمانها... حفظت كتاب الله فى طفولتها، وبدأت حياتها الفنية - فى صباها الأول - بترديد القصائد الدينية فى تجوالها بين قرى الريف المصرى مع والدها الشيخ إبراهيم وشقيقها الشيخ خالد، عليهما رحمة الله.
وظلت طوال حياتها، لا يفوتها أن تتلو بعضا من آيات الذكر الحكيم كل يوم، وتستزيد منها قبيل ذهابها إلى حفلاتها الشهرية.
وهناك شائعة تقول إنها قد سجلت القرآن الكريم برمته، وأوصت بألا يذاع إلا بعد وفاتها، وقد سألتها مرة عن مدى نصيب هذه الشائعة من الصحة، فأنكرتها، وقالت لى إنها كثيرًا ما يحلو لها أن ترتل القرآن، ولكن بغير تسجيل اللهم إلا التسجيل الذى تقدمه الإذاعة بين الحين والحين.
وقد كان للتصوف ميزة خاصة فى صوتها، يلمحها المستمع إذا أرهف سمعه إليها وهى تغنى القصائد الدينية، مثل نهج البردة، وسلوا قلبي، والهمزية النبوية، والثلاثية المقدسة، وأغنيات رابعة العدوية.
أغنية عن التفرقة العنصرية
وعلى ذكر الثلاثية المقدسة.. التى لا أدعى لنفسى الفضل الأول فى فكرتها.. بل هو للدكتور عبدالعزيز كامل، نائب رئيس الوزراء، من وحى مقال كتبه فى إحدى المناسبات الدينية، وقرأته أم كلثوم فتأثرت به، كما قرأته أنا، وتأثرت به أنا الآخر.
وفى لقاء هذين الانفعالين بالفكرة، كانت الثلاثية المقدسة
وهناك أغنية أخرى لها قصة شبيهة بهذه القصة، وإن لم يتح لها الخروج إلى النور
ذات يوم– منذ بضعة أعوام – نشر الدكتور عبدالعزيز كامل بحثًا ممتعًا عن موقف الإسلام من التفرقة العنصرية، وكيف أن الكتاب الكريم قد أرسى قاعدة المفاضلة بين الناس على أساس تقوى الله، لا على أساس اللون ولا الجنس ولا العنصر، ضاربًا المثل بالمكانة الأثيرة لبلال الحبشى وسلمان الفارسى وصهيب بن سنان الرومى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقلت أم كلثوم نسخة من هذا البحث، وتلقيت أنا مثلها، واتصل كل منا بالآخر، ثم اتصلنا بالدكتور عبدالعزيز كامل، واتفقنا على أن أنظم – من حى هذا البحث – أغنية تشدو بها أم كلثوم، لتكون صرخة إنسانية عالمية عالية ضد التفرقة العنصرية، تذاع على أوسع نطاق، وتترجم إلى مختلف اللغات.
وبدأت أنظم الأغنية – وكان مطلعها يقول:
أحد الرحمن من كون الأكوان
ولون الألوان وأبدع الإنسان
أخوتى من كل لون ولسان وهوية
أخوتى فى الشرق والغرب سلامًا وتحية
كل إنسان على الأرض أخى فى البشرية
فأنا من أمة تنكر معنى العنصرية
وأخذت أم كلثوم هذا المطلع، وجعلت تدندن به، ورحنا نتساءل من هو الملحن الذى يستطيع أن يقدم هذه الأغنية بلحن على مستوى عالمى وكان الجواب الوحيد هو محمد عبدالوهاب..
وقبل أن نصل إلى النهاية، نشبت أحداث سياسية شغلتنا جميعًا من مواصلة هذا العمل الفنى الإنساني، بكل أسف
ولكن أم كلثوم لم تنس هذه الأغنية أبدًا..
كانت تتمنى أن تغنيها يومًا ما وكانت تحدثنى عنها الفينة بعد الفينة، حتى بعد أن ألح عليها الضنى.
وقد غنت أم كلثوم فى أكثر العواصم العربية.
ولكنها كانت تقول لى دائمًا إنها لم تسعد بالغناء خارج مصر بقدر ما سعدت به فى بلدين، هما تونس والسودان.
فى تونس.. كانوا يفرشون لها أرض السرادق الذى تغنى فيه ويغطون مسرحه وجدرانه بالزهور... وقد أطلقوا اسمها على شارع من أهم شوارع العاصمة..
وليلة الخميس فى تونس، هى الليلة التى لا ينام فيها أحد من التونسيين، لأن الإذاعة هناك قد درجت منذ زمن بعيد على أن تذيع أغنيات أم كلثوم طوال هذه الليلة، فيسهر الشعب فى البيوت والأندية والمقاهى مع هذه الأغنيات إلى آخر الليل.
الزهور... وصلاة الشكر
وأما السودان... فحسبك أن تعلم من حب أهله لأم كلثوم، أنها حينما غنت هناك منذ سنوات قريبة، أدى الناس هناك صلاة الشكر لأن أم كلثوم غنت بينهم.
ولهذا عادت من العاصمة المثلثة شديدة التأثر بعواطف السودانيين، وأرادت أن ترد لهم الجميل، فسألتنى أن أتخير لها قصيدة تغنيها أحد شعراء السودان.
ولم أشأ أن أفرض عليها شاعرًا بالذات، فوضعت أمامى دواوين سبعة من شعراء السودان، وجعلت أطالعها واحدًا بعد الآخر بإمعان، ونصب عينى أن أختار من كل منها أصلح قصيدة للغناء، لأن للقصيدة التى تصلح للغناء مواصفات خاصة، قد تختلف عن النظرة الشعرية المحضة.
وأرسلت إليها القصائد السبع لتختار من بينها ما تشاء
ومرت أيام.. وهى تقرأ القصائد السبع وتفاضل بينها
وأخيرًا سألتني: أيها تفضل؟
قلت: هذا ما أتركه لك
قالت: لقد اخترت بالفعل، ولكنى أحب أن أعرف رأيك
قلت: قصيدة الهادى آدم... لأنها أصلح القصائد السبع من الناحية الغنائية... هذا مجرد رأي
قالت: برافو عليك.. أقسم لك أنها هى القصيدة التى اخترتها أنا بالفعل
وسألتنى أن أكتب للشاعر السودانى، الهادى آدم، الذى لم أكن أعرفه، وأدعوه إلى القاهرة.
وفعلت... وجاء الهادى آدم، وذهبت به إلى بيت أم كلثوم، وكان عبدالوهاب فى انتظارنا هناك.
وقرأنا القصيدة مثنى وثلاث ورباع، وهى فى كل مرة تسأل الشاعر أن يعدل هذه الكلمة أو تلك، حتى خرجت القصيدة على الصورة الحلوة التى سمعها الناس... قصيدة أغدًا ألقاك..
وكانت أم كلثوم تطرب لنفسها كما نطرب نحن المستمعين، إذا أبدعت
ذات ليلة – فى حفلتها الشهرية – غنت فبلغت السماء...
وانتهت الحفلة بعد الساعة الثانية من الصباح
وأردت أن أهنئها، ولكن الساعة كانت متأخرة، فأرجأت التهنئة إلى الغد
وعند ظهيرة اليوم التالي، اتصلت بها، وهنأتها، وقلت لها:
هى تهنئة متأخرة، ولكنى لم أشأ أن أتصل بك أمس، بعد عودتك إلى المسرح، خشية أن تكونى نائمة.
وضحكت ضحكة حلوة، وقالت:
لعلك لا تعلم أننى حينما أشعر بأننى أحسنت الغناء، أعود إلى البيت، وأقول لنفسى الله يا أم كلثوم، ولا أنام من فرحتى بنفسى حتى الصباح، وحينما أحس بأننى لم أحسن الغناء، أقول لنفسى (إخيه)... وأنقلب إلى مخدعى فأنام كالجثة الهامدة!
فى مأساة سنة 1967
حديث وطنيتها
لا أنسى تلك الليالى السوداء التى عبرت بنا جميعًا عقب 5 يونيه سنة 1967، التى يسمونها النكسة..
فى تلك الأيام لم نكن نعرف النوم
كان نهارنا أسود من الهم، وكان ليلنا أشد سوادًا من اليأس
وكان الليل إذا أرخى سدوله، لم أجد سبيلًا إلى النوم، فآتى بعدة أجهزة راديو، وأدير كل جهاز منها على محطة من محطات الإذاعة فى الخارج، لعلى أسمع خبرًا يخفف من أثر المدلهمة.
كان عزائى الوحيد فى تلك الفترة، هو صوت أم كلثوم... لا صوتها وهى تغنى فما كان ذاك وقت الغناء... وإنما صوتها وهى ساهرة فى غرفتها، يحطمها الأرق ويمزقها الأسى، فتتصل بى تليفونيا أربع مرات أو خمسا أو ستا كل ليلة، نتباكى على ما أصاب مصر الحبيبة، وتسألنى عما إذا كانت أجهزة الراديو المتعددة التى أمامى قد حملت جديدًا يبعث فى النفس شيئًا من الأمل... فأقول لها بكل أسى: لا..
وتنهار الدموع...
حتى كانت الليلة التى أذيع فيها نبأ تنحى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وكان شعورنا جميعًا يومئذ أن هذا الحدث ليس معناه مجرد تنحى رجل عن مقعد الحكم، بل معناه استسلام مصر، وتسليم قدرها إلى أعدائها... ولهذا وقفنا جميعًا نطالبه بأن يبقى فى مكانه، لاسيما أنه أقر فى خطاب التنحى بأنه يتحمل المسئولية الأولى فيما حدث... فكان الطبيعى والحتمى أن يبقى مكانه، ويتحمل مسئولية رد الهزيمة.
وفى الحق أن شعورنا يومئذ كان – إجماعا – أنه هو الوحيد القادر على رد الهزيمة
كان هذا مدار حديثنا – أم كلثوم وأنا – طول تلك الليلة
وأخيرًا... قالت لى:
إذن.. نترجم هذا الحديث إلى عمل...
تنظم أنت قصيدة تطالبه فيها بالبقاء لرد الهزيمة... وتنجزها فيما بقى من هذه الليلة.. ويلحنها رياض السنباطى صباح الغد... وأسجلها أنا مساء غد
وبهذه السرعة... وبهذا الوقت تماما... غنت أم كلثوم فى التاسع والعاشر من يونيه سنة 1967 أغنية: قم واسمعها من أعماقى.. فأنا الشعب
ولم يصدق حدسنا...
وظلت غيوم الكارثة تخيم علينا حتى جاء أنور السادات وكان اليوم العظيم، يوم 6 أكتوبر سنة 1973... اليوم الذى أرادت أم كلثوم أن تغنى له الأغنية التى نشرتها فى العدد الماضى... ولكن قوة القدر شاءت أن تحول بينها وبين هذه الأمنية
وذهبت أم كلثوم محزونة لأنها لم تغن لعيد النصر...
ولكن روحها الفنانة صعدت إلى ربها راضية مرضية.

