منذ سنوات طويلة، وفى «مندرة» عامرة بالشخصيات الكبيرة، فى بيت «خيرت بك» والد الموسيقار أبو بكر خيرت، غنت الفتاة الصغيرة «أم كلثوم» وغنى بعدها الفنان الصغير «محمد عبدالوهاب» وبعد الغناء همس عبدالوهاب فى أذن «خيرت بك» قائلا: «سيكون لهذه الفتاة المفعوصة الشأن الأول فى عالم الطرب».. وهمست هى فى أذن «خيرت بك» قائلة : «سيكون لهذا الولد النحيف ذى الجلد على العظم مكانه العظيم فى دنيا الموسيقى والغناء».. وتحققت نبوءتهما .. فمنذ أيام زينت الدولة صدريهما معا بوسام استحقاق.
هذه القصة، قصة لقاء الفنانين فى صباهما من سنوات طويلة فى بيت «خيرت بك» رواها لى صديقى محمد عبدالوهاب، عندما طلبت منه أن يقول لى رأيه - بصراحة - فى أم كلثوم. وعبدالوهاب «فنان عريق» عرف أم كلثوم، ورآها وهى تصعد أمام عينيه.. درجات سلم المجد.. وهو الذى شاركها المجد، واستحق - مثلها - تقدير الدولة، لهذا فهو أحق من يتحدث عنها، ويبدى الرأى فيها، لنعرف من خلال رأيه، لماذا ظفرت - مثله - بوسام الاستحقاق؟ وهذا هو الكلام الذى سمعته منه عن أم كلثوم، اكتبه حرفيا بلا تزويق ولا تنميق.
عندما أتحدث عن أم كلثوم أتحدث عنها حديث الفنان عن الفنانة، لا تزويق فيه ولا تنميق، وأستطيع أن أقول بأن لأم كلثوم أفضالا على الفن لا تعد ولا تحصى، فقد دخلت أم كلثوم دنيا الطرب والغناء فى وقت كان عرش الطرب قائما على أغان مثل «أسمر ملك روحى» و «ارخى الستارة اللى فريحنا» و «ايه جرا فى المندرة» وحولت أم كلثوم هذا الغناء إلى «الشك يحيى الغرام» و «إن كنت أسامح» و «الصب تفضحه عيونه».
هذا الهجوم من أم كلثوم على عرش الطرب وقتذاك يدل على جرأة متناهية، تحس معها بمدى العقلية المتطورة التى تتمتع بها أم كلثوم.. عقلية استطاعت أن تفرق بين الكلام «الفارغ» الذى موضع أعجاب الناس وبين الكلام الرصين ذى المعانى السامية.
وهذا التطور يدلنا على أن أم كلثوم كانت منذ نشأتها ذات عقلية أدبية تتذوق الأدب وهى بعد لم تصل إلى الحد الذى تتمكن معه من أن تفرض فنها على الناس.
ثم إن أم كلثوم استطاعت أن تطور الموسيقى أيضا مع تطويرها لكلام الأغنية، فإن اختيارها الأشخاص الذين لمست فيهم تقدما وفهما وتجديدا فى الموسيقى، يدلنا على أنها ذات عقلية موسيقية متطورة، فهى بلا جدال تمتاز عن عقلية العصر الذى تسلمت منه عرش الطرب.. تمتاز بفهم متطور للغناء والموسيقى.
ثم تأتى «التأدية» وأعنى بها طريقة أداء أم كلثوم للأغنية.. فقد غيرت أم كلثوم فى التأدية الصوتية النسوية التى كانت سائدة فى تلك الأيام، وكانت تتميز بالميوعة وعدم القدرة على «القفلة» أو النهاية السليمة القوية..
وكانت مطربات تلك الأيام لايستطعن نطق اللفظ العربى السليم بل كانت طريقة التأدية لا تخرج عن طريقة «العوالم» فحولتها أم كلثوم إلى تأدية رصينة، واعية، فاهمة ونطق عربى سليم، و»قفلة» ممتازة قوية.
أخرج من هذا كله بأن أم كلثوم أوجدت فى عالم الطرب النسوى الكلمة البليغة واللحن المتطور والأداء الرصين.
دور الرب!
ثم يأتى دور الإله الرب.. فقد وهب الله أم كلثوم صوتا اختصها به وحدها دون سائر البشر من السيدات ولا أظن أن الله وهب لمطربة مثلما وهب لأم كلثوم.
فصوت أم كلثوم من الناحية الفنية له سعة من المقامات لايجاريها صوت، ولأم كلثوم سيطرة كاملة على صوتها لا يجاريها فيها أحد.. وتحمل هذا الصوت للأداء المفصل ولا طول فترة من الوقت لا يجاريه فيها صوت. وأخيرا - وهو المهم فى نظرى - أن صوت أم كلثوم يصلح مائة فى المائة للميكروفون وبلا ميكروفون.. وهذا نادر بل يكاد يكون معدوما.
مستوى المطربة العربية
وما دمت أتحدث عن أم كلثوم المطربة الكبيرة فلابد أن أتحدث عن نضال أم كلثوم لرفع مستوى المطربة العربية بوجه عام ..
إن أم كلثوم ناضلت كثيرا فى عالمها الاجتماعى لرفع مستوى المطربة العربية، فقد كانت المطربة وقت ظهور أم كلثوم أداة من أدوات سهرات الليل.. بعد أن تنتهى المطربة من عملها، «ينصب» أولاد الذوات السهرة من كأس ومزة ومطربة.. وكان مقامها بين الكأس والمزة وأولاد الذوات.
وجاءت أم كلثوم فوضعت حدا لهذا كله، وجعلت من عمل المطربة فنا قائما بذاته لا علاقة له «بنصبة» السهرة، بل جعلت فن المطربة فنا محترما ومقدسا، وضحت أم كلثوم فى سبيل ذلك، وكابرت على هذا النهج، فلم يعرف عنها أنها نزلت إلى مقهى أو ملهى أو سهرة غير كريمة، أو جلست مع جماعة تتعاطى المكيفات.
وكانت أم كلثوم دائما تنام مبكرا، وتمرن صوتها يوميا، وتحترم عملها وتحمل «هم» الحفلة التى تكلف بإحيائها، وهذا معناه احترامها لفنها وعملها.
نضال اجتماعى!
ونضال أم كلثوم الاجتماعى لا يقل روعة عن نضالها لرفع المستوى الفنى للمطربات فى بلادنا..
وقد أصبحت أم كلثوم سيدة مجتمع، وهى فى هذا المجال قد بلغت الذروة، وتعد فى طليعة السيدات العربيات..
والناس يتلقفون كلام أم كلثوم لا غناءها فقط.. حتى أصبح كل شخص يريد أن يروج نكتة أو كلمة، يسارع بإسنادها إلى أم كلثوم ولو لم تكن قد قالتها، لكى يضمن لكلمته أو نكتته الانتشار بين الناس الذين يعرفون قدرة أم كلثوم كصاحبة «نكتة» وكمتحدثة لبقة..
وأستطيع أن أقول إن أم كلثوم قد أعطت مثالا رفيعا من تقديس العمل للموسيقيين أنفسهم، فاحترمت عملهم وأدارته فى حزم أحسن إدارة.
الصوت الخالد!
وسكت عبدالوهاب، ولكننى قبل أن أتركه ألقيت عليه هذا السؤال:
- هل تعتقد أن أم كلثوم ستظل فى ذروتها! حلاوة صوت وقوة أداء، وقفزة على الغناء المتواصل!
وأجاب عبدالوهاب:
- نعم .. بل أكاد أجزم بأن صوت أم كلثوم لن يتغير على مر السنين، بل سيظل محتفظا بقوته وحلاوته وقدرته الخارقة لأنها تواظب على عملية «صيانة» صوتها بما لا يقدر عليه أحد غير أم كلثوم.