تقع الدول الجزرية المنتشرة عبر المحيط الهادئ فى قلب منافسة محتدمة بين الصين والولايات المتحدة على الطرق البحرية وموانئ المياه العميقة وغيرها من الأصول الاستراتيجية، فيما يطلق عليه معهد لوى «صراع كبير جديد»، والذى أشار إلى أن قرب الدول من ممرات الشحن الرئيسية وكابلات الاتصالات المتقاطعة فى قاع المحيط الهادئ، إلى جانب مصائد الأسماك ومعادن قاع البحر، تُشجع أيضًا على هذا التنافس، إلا أن الموقع البحرى للمنطقة بين آسيا وأمريكا الشمالية وأستراليا هو ما يُبقيها فى صدارة استراتيجيات الدفاع للقوى الكبرى.
دولة بالاو، التى شهدت سابقًا اشتباكات وحشية خلال الحرب العالمية الثانية، تعود إلى الواجهة، حيث تُجهّز الصين والولايات المتحدة وحلفاؤها قواتهم فى صراع محتدم للسيطرة على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لذلك كثّفت الصين جهودها لتوسيع نفوذها فى دول جزر المحيط الهادئ منذ مطلع العقد الماضى، من خلال تقديم مساعدات اقتصادية كبيرة، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية، وتوقيع اتفاقيات تعاون أمنى، وهو ما يثير مخاوف لدى واشنطن وكانبيرا من تحوّل بعض هذه الدول الصغيرة إلى حلفاء استراتيجيين للصين على المدى الطويل. الاتفاق الأمنى، الذى وقّعته الصين مع جزر سليمان فى عام 2022، مثّل نقطة تحوّل خطيرة فى ميزان القوى الإقليمى، حيث رأت فيه الولايات المتحدة وأستراليا تهديدًا مباشرًا لتفوقهما التقليدى فى المنطقة.
أدركت الولايات المتحدة أن غيابها النسبى عن بعض مناطق المحيط الهادئ فى السنوات الماضية أتاح للصين فرصة لتعزيز نفوذها، لذلك، بدأت واشنطن بإعادة بناء علاقاتها مع دول المنطقة من خلال فتح سفارات جديدة، وتوقيع اتفاقيات تعاون عسكرى واقتصادى، وزيادة المساعدات التنموية، مع التركيز على قضايا التغير المناخى والأمن البحرى التى تمثل أولويات لدول الجزر. كما تعمل واشنطن على تعزيز تحالف «كواد» الذى يضمها مع أستراليا والهند واليابان، كأداة لتطويق النفوذ الصينى وموازنة صعوده فى المحيطين الهندى والهادئ.
تعد أستراليا الخط الأمامى فى المواجهة بحكم موقعها الجغرافى واللاعب الإقليمى الأكثر انخراطًا فى شئون جزر المحيط الهادئ، وتُدرك كانبيرا أن أى فراغ فى المنطقة ستملؤه الصين بسرعة، لذا كثفت جهودها لتقديم مساعدات مالية وتقنية، وتنفيذ مشاريع تنموية، وتعزيز التعاون الأمنى. ترى أستراليا أن استقرار دول المحيط الهادئ لا يتعلق فقط بالأمن الإقليمى مع دول الجزر، بل أيضًا بأمنها القومى المباشر، ولهذا فإنها غالبًا ما تتبنى مواقف أكثر حدة تجاه تحركات الصين، مقارنة بمواقف واشنطن.
وسط هذا الصراع الثلاثى، تحاول دول جزر المحيط الهادئ الحفاظ على استقلالها السياسى وتحقيق أكبر قدر من المكاسب، فهى تدرك أن التنافس بين القوى الكبرى يمنحها فرصة للحصول على الدعم والمساعدات، لكنها أيضًا تسعى إلى عدم الانحياز لطرف دون الآخر، خوفًا من أن تتحول إلى ساحة صراع بين عمالقة العالم. بينما تتنافس أمريكا وأستراليا والصين على كسب الولاءات فى هذه المنطقة، وهنا يبقى التحدى الأكبر هو ضمان ألا يتحول هذا التنافس إلى صدام مباشر، وأن تُمنح دول الجزر الصغيرة حقها فى تقرير مستقبلها بعيدًا عن الضغوط.

أعرب الكاتب والمحلل السياسى، عمرو حسين، عن قلقه من التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة وأستراليا والصين على النفوذ فى دول المحيط الهادئ، مؤكدًا أن هذه المنطقة تشهد اليوم سباقًا استراتيجيًا متصاعدًا لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الباردة الأولى، حيث تحاول القوى الكبرى كسب الدول الجزرية الصغيرة عبر مزيج من المساعدات الاقتصادية والاتفاقيات الدفاعية وبناء القواعد العسكرية.
وأضاف عمرو حسين أن هذا التنافس الثلاثى يمثل تحديًا خطيرًا لاستقرار الدول الجزرية فى المحيط الهادئ، نظرًا لصغر حجم هذه الدول وهشاشة أنظمتها السياسية والاقتصادية، ما يجعلها أكثر عرضة لضغوط القوى الكبرى ويجعل قرارها السيادى فى موقف حساس. وأوضح أن هذه الدول تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر؛ إما القبول بالاستثمارات والمشاريع الصينية الكبرى ضمن مبادرة “الحزام والطريق” وما يترتب عليها من نفوذ طويل المدى، وإما الاعتماد على المساعدات والضمانات الأمنية الأمريكية والأسترالية التى قد تُقيد بدورها سياساتها الخارجية.
وأعرب عمرو حسين عن اعتقاده بأن التنافس فى المحيط الهادئ لا يقتصر على الجانب الاقتصادى فحسب، بل يمتد إلى البعد الأمنى والعسكرى، حيث تزداد التحركات لإنشاء قواعد أو موانئ استراتيجية، وإبرام اتفاقيات تعاون دفاعى وتبادل معلومات استخباراتية، مما قد يجعل المنطقة برمتها ساحة مواجهة محتملة بين القوى الكبرى ويؤدى إلى زعزعة الاستقرار فى حال تصاعد التوترات.
وأضاف عمرو حسين أن المشهد الحالى يحمل سمات واضحة للحرب الباردة الجديدة، فهناك سباق على النفوذ، واستقطاب للدول، ومحاور تتشكل مثل تحالف AUKUS الذى يضم أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا فى مواجهة التمدد الصينى، فى مقابل مبادرات بكين الاقتصادية والعسكرية، مشيرًا إلى أن أدوات الصراع تغيرت لكنها بقيت محتفظة بجوهرها: السيطرة على المواقع الاستراتيجية، النفوذ البحرى، والتحكم بسلاسل الإمداد العالمية.
وأعرب عمرو حسين عن اعتقاده بأن استمرار هذا التنافس بهذا الشكل سيزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسى فى آسيا والمحيط الهادئ، خاصة مع التحديات العابرة للحدود مثل الإرهاب وأمن الطاقة والقرصنة السيبرانية، الأمر الذى يجعل هذه الدول الصغيرة بحاجة إلى سياسات متوازنة وحكيمة حتى لا تتحول إلى “أحجار شطرنج” فى لعبة القوى الكبرى.
أضاف عمرو حسين فى ختام تصريحه أن على المجتمع الدولى دعم سيادة هذه الدول الصغيرة ومساعدتها على بناء مؤسسات قوية واقتصادات مستقلة، حتى تتمكن من مواجهة الضغوط الخارجية وتحويل التنافس الدولى إلى فرصة للتنمية بدلًا من أن يصبح تهديدًا للاستقرار، وأكد أن استقرار المحيط الهادئ يمثل ركيزة أساسية للأمن العالمى، وأن فهم أبعاد التنافس هناك هو مفتاح لفهم شكل النظام الدولى القادم.